جولة حول ما يحتوي عليه القرآن من التحديات

قد اشتهر بين طائفة من المفسرين: أن ما يتحدى به القرآن ليس ينحصر بالفصاحة والبلاغة، بل هي أمور كثيرة: فمنها: قوله تعالى: (فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى) (1). ومنها: التحدي بالعلم فيقول: (نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (2). ومنها: تحديه بصدوره منه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو الأمي فيقول: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) (3). ومنها: تحديه بالإخبار عن الغيب، فيقول: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) (4)، ويقول: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) (5). ومنها: تحديه بعدم الاختلاف فيه، فقال: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (6). أقول: في غير الآية الأولى والأخيرة لا يكون لسان القرآن لسان التحدي والمغالبة مع الخصم والباطل. هذا، مع أن مجرد دعوى أن الكتاب تبيان لكل شئ، وأنه لو شاء الله لكان كذا، وأنه لا معجزة ولا كرامة في عدم علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه بتلك الأنباء، بعد كون الأقوام الاخر - مثلا - عالمين بها احتمالا، فما في بعض كتب تفسير العصر (7) وغيره، بعيد عن الصواب. وأما الآية الأولى وإن كانت ظاهرة في كونها بداعي التعجيز، إلا أنه ربما يوجد كتاب هو أهدى بلسان قوم آخرين بالنسبة إليهم، فلا تعجيز فيه من الجهات العامة، كقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (8). وأما الآية الأخيرة فهي وإن تفيد عدم وجود الخلاف فيه، لأنه من عند الله، ولكنها ليست في موقف التحدي والمصارعة، ولذلك ترى أنه قد ورد في " أصول الكافي " كتاب العقل والجهل الرواية عن ابن السكيت، أنه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): " لماذا بعث الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر، وبعث عيسى (عليه السلام) بآلة الطب، وبعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام والخطب؟فقال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن الله لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم. وإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند الله - من مواعظه وحكمه - ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم " (9). فإن الظاهر منه أن المعروف عندهم أنه قد أتى القرآن بكلام وخطب يعجز عنه الآخرون، ويشهد على أن هذا خالد، كما هو كذلك في معجزة موسى وعيسى، وإلى الآن لا يتمكن أحد من صنع موسى (عليه السلام)، ولا مفعول عيسى (عليه السلام) وإن ارتقى الطب وجوامع الطب، واستكملت الأدوات العصرية، واستكشفوا الأدوية العجيبة، ومع ذلك ما تمكنوا من إصلاح هذا الأمر، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

فذلكة البحث

لا ينبغي الخلط بين الخواص والآثار المحتوي عليها القرآن، وبين ما تحدى به الكتاب الشريف، وكثيرا ما نجد وقوع هذا الخلط بين كلمات المفسرين، فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب المعجزات الكثيرة والكرامات الباهرة والخارقة للعادات القديمة والجديدة أمر، وكون النظر محصورا في باب التحدي بالفصاحة والبلاغة، اللتين تكونان من الأمور الملموسة من قريب، والمحسوسة لكل شريف ووضيع، أمر آخر. مثلا: جميع الأشياء التي نشاهدها في العالم من المعجزات الإلهية، وإن أيادي البشر بأجمعهم تقصر عن الإتيان بمثل العنكبوت والذباب، وعن الإتيان بمثل العنب والرمان والعناب، وعن خلق مثل الجرجير والريحان والنعناع، ويعجز الكل عن الإتيان بمثل سائر المركبات المتولدة عن البسائط والصور الحية النوعية، نباتا كان أو جمادا، حيوانا كان أو إنسانا، أو غير ذلك، ولكن البشر يقصر أحيانا عن شعور ذلك ودرك تلك الحقيقة، وبلوغ مغزاها ومخها ولبها، وما هو اسها وأساسها، ولذلك القصور من هذه الناحية ربما يتجلى الرب من الناحية الأخرى، وهو أن يدرس البشر في المبادئ والوسائل الموجودة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومصره، ويطالع أحسن ما يمكن في هذه الساحة والميدان، ويتدبر في القرآن ويتفكر في خصوصيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمزاجات وغير ذلك مما مر، ويتأمل بعد ذلك كله في هذا الكتاب، فإنه عند ذلك يصل إلى الغيب، ويؤمن به ويعتقد بذلك، مقارنا مع الاعتقاد بنبوة صاحبه ورسالة رسوله، والإذعان بأن الأمر ليس كما كانوا يزعمون.

توضيح وإرشاد

عدم دلالة الآيات على النبوة قد تصدى جمع من أرباب التفسير وأصحابنا المفسرين لأدلة النبوة وبراهين الرسالة، وأن هذه الآيات تدل عليها، غافلين عن حقيقة الأمر، وذاهلين عن أن الآيات - صدرا وذيلا - بصدد إثبات أن الكتاب كتاب من عند الله، يحتوي على الحقائق الاعتقادية والأخلاقية والأفعالية، الواجب اتباعها والأخذ بها والإيمان بها، وليست ناظرة إلى النبوة، كما مضى تفصيله. ثم إنه بعدما ثبتت الرسالة، وأن الكتاب رسالة الله تعالى، وأن القرآن من عنده، وأن هذا الفرقان العظيم كذا وكذا، يثبت أن الحامل هو الرسول والنبي، وأن من أوحى إليه عبد من عباده الذين اصطفاهم الله، فلا حاجة إلى تجشم الاستدلال وتركيز البحث مستقلا في هذه المرحلة، للملازمة القطعية، بعد اقتران الرسالة الكذائية بدعوى صاحبها: أنه الرسول النبي من عنده. نعم البحث عن النبوة والرسالة والبعثة العامة والخاصة من المباحث العامة، إلا أنه خارج عن حيطة هذه الآيات، فلا ينبغي الخلط بين الجهات.


1- القصص (28): 49.

2- النحل (16): 89.

3- يونس (10): 16.

4- هود (11): 49.

5- يوسف (12): 102.

6- النساء (4): 82.

7- راجع تفسير الميزان 1: 59 - 67.

8- الإسراء (17): 88.

9- راجع الكافي 1: 18 / 20.