حول إعجاز القرآن وخلوده
أقول: لابد أن نشير إلى وجوه الإعجاز، وفي خلالها إلى أنواع التحدي المنتسبة إلى القرآن العزيز، ثم بعد الفراغ عنها نشير إلى ما هو الحق عند ساطر هذه الأرقام ومؤلف هذه الأسطر إن شاء الله تعالى.
الوجه الأول: اشتماله على المعارف العالية وهي أن القرآن يشتمل على المعارف الراقية والتوحيد العالي، الذي لا يصل إليها بعد أفكار العرفاء الشامخين وآراء الفلاسفة البارعين، فإن القرآن أتى بتوحيد يحكي عنه قوله تعالى: (هو معكم)، ولم يتمكن البشر - إلى هذه العصور الراقية - من فهم معية الذات الأحدية الإلهية البسيطة مع الكثرات السرابية التي بقيعة، وبنوا على حمل الكريمة على المعية القيومية، التي تكون للذات الإلهية بالمجاز لا الحقيقة، وأن ما هو مع الكثير هو الوجود الظلي المخلوق به المنبسط على رؤوس الماهيات الإمكانية والأعيان الثابتة.
الوجه الثاني: اشتماله على أصول الأخلاق يشتمل القرآن العزيز على أصول الأخلاق الإنسانية، وعلى عروق الكمالات النفسانية، وعلى تذكير الإنسان بالمعارج الملكوتية والمحاسن اللاهوتية، فينادي بأعلى صوته: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (1)، ولا يتمكن البشر من الاطلاع على تلك السبل المختفية في زوايا القلوب والأرواح، وأن البشر والإنسان البالغ إلى حد الرضا بالرضوان، والمتحقق بمقام الرضا، والمتشئن بشأن هذه المنقبة العالية والصفة الراقية، يكون بعد في الظلمات، ويخرجه منها القرآن العزيز إلى النور، ويهديه إلى الصراط المستقيم، فهو بعد غير مستقيم. فهذه الدعوى من عجائب دعاوى القرآن، ومن أعجب الآيات الإلهية في الكتاب العزيز. وينادي في تلك الظروف المعلومة لكل أحد: بأن الدنيا دار فناء، وكل شئ هالك إلا وجهه (2)، وأن جميع المصائب والمفاسد تنشأ من اتباع الهوى ومخالفة المولى، وأن من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى. وغير خفي على ذوي العقول الإنسانية: أن النداء والدعوة إلى هذه الموائد الأخلاقية، وإلى هذا البساط الإنساني البرهاني دعوة إلى الفطرة السليمة، فيكون الكتاب العزيز من هذه الجهة أيضا منطبقا على أصول الفطرة، كما كان منطبقا على الفطرة وأصولها في الجهة الأولى.
الوجه الثالث: اشتماله على الحقائق الحكمية والطبيعية إن القرآن كشف عن نقاب الحقائق الحكمية والمسائل الفلسفية في عبارات موجزة، فينادي - مثلا -: في موقف الإشارة إلى مسألة وحدة الوجود وأصالته بقوله: (الله نور السماوات والأرض) (3)، وبقوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (4)، وبقوله: (هو الأول والاخر والظاهر والباطن) (5). وينادي - مثلا - في موقف مسألة كيفية حصول الكثرة في العالم بالأيمان والأقسام في السور الأخيرة المكية، كسورة المرسلات والعاديات والنازعات، وفي هذه اليمينيات أسرار إلهية ومسائل فلسفية بلغت غايتها في عبارات رائقة مختلفة المراتب، حسب اختلاف رتب عقول البشر وأفكار القارئين. وفي موقف وجود الوسائط بين الواحد الأول البسيط والمادة التي مثار الكثرة ينادي - مثلا - بقوله: (أحسن الخالقين) (6). وفي موقف مسألة العلم ونفوذه بقوله: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (7)، وقد أدى البرهان وبلغ إلى ميقات الفرقان في أن علمه تعالى بكل شئ، ليس على سبيل العلوم الكلية المتعلقة بالمفاهيم العامة. وفي موقف نفوذ قدرته وسريان سلطنته، وفي مسألة الجبر والاختيار جاء بالآيات الكثيرة التي تشتمل على اختلاف النسب، فتارة ينسب فعلا واحدا إليه تعالى، فيقول: (الله نزل أحسن الحديث) (8)، وأخرى يقول: (نزل به الروح الأمين على قلبك) (9)، وفي سورة الواقعة آيات ثلاثة بالغة إلى غاية اضمحلال فعل العبد في فعله، فيقول: (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون...) (10) إلى آخره، فإن فيها نداء إلى إسقاط الإعداد والعلية الناقصة، كما لا يخفى على الخبير البصير. وبقوله: (والله خلقكم وما تعملون) (11) ينادي إلى نهاية المأمول لأهل اليقين، وغاية المقصود لأصحاب العرفان والدين، وأن قدرته وإرادته نافذة في كل شئ وكل فعل، كما عليه أحاديث أئمتنا - عليهم الصلوات والسلام - وهو مقتضى البراهين الحكمية والأدلة الفلسفية المحررة في " الحكمة المتعالية " و " القواعد الحكمية ". وفي موقف صفاته وأسمائه، وأنها عين ذاته، ينادي بقوله: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر... له الأسماء الحسنى) (12) فتدبر جيدا. وفي موقف أن بسيط الحقيقة كل الأشياء، وليس بشئ منها، ينادي ويشير - مثلا - بقوله: (قل كل من عند الله) (13)، وبقوله: (وما أمرنا إلا واحدة) (14)، فإنه يفيد أن البسيط كل الأشياء، سواء كان آمرا أو أمرا. وفي موقف مسألة امتناع صدور الكثير منه تعالى ومن البسيط على الإطلاق، ينادي - مثلا - بأعلى صوته: (وما أمرنا إلا واحدة). وفي موقف لزوم السنخية بين العلة والمعلول بقوله: (قل كل يعمل على شاكلته) (15). وفي موقف قوسي النزول والصعود بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) (16). وفي موقف تقسيم الموجودات إلى المبدعات والكائنات، وأنه تعالى فاعل بالتجلي بقوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (17)، وأن نسبة العالم إليه تعالى كنسبة الصور الذهنية إلى الأنفس المجردة، مع فرق غير خاف على أرباب العقول والفحول من أصحاب الوصول. وفي موقف ربط الحادث بالقديم الذي هو من أغمض المسائل الإلهية، يشير أحيانا بقوله: (الله نور السماوات والأرض) (18)، وبقوله: (هو معكم أينما كنتم) (19)، وبقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) (20). هذه جملة قليلة من الآيات التي تكون رمزا إلى المسائل العالية العلمية التي وصل إليها العلم الإلهي بعد مضي الألف والأكثر. وهناك آيات ربما تكون إشارة ورمزا إلى المسائل الطبيعية العامة كمسألة الحركة الجوهرية وبعض المسائل الاخر: فمنها: قوله تعالى في موقف مسألة حدوث النفس حدوثا جسمانيا قبال القائلين بأنها حادثة بحدوث البدن، أو كان قديما، وذلك قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر) (21). وقوله في موقف مسألة الحركة الجوهرية: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (22). أو قوله: (بل هم في لبس من خلق جديد) (23). وقوله في ترتيب مراتب الخلق من الماء والطين إلى النطفة والعلقة إلى آخر الآية. وفي موقف الجاذبة العامة: (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) (24). وفي موقف كيفية حصول الكرات السماوية: (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) (25). وفي موقف الفلكيات وهدم أساس الهيئة القديمة آيات كثيرة مذكورة في محالها، وقد جمعها العلامة الشهير الشهرستاني، والفت رسالة في هذه المسألة مستقلة في السنوات البعيدة. وبالجملة: يشير الكتاب العزيز بحركة الأرض عند قوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) (26)، وإلى حاجتها إلى الجبال في مسألة تعديل حركتها بقوله: (والجبال أرساها) (27)، وربما يشير إلى المسألة الأولى قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة) (28) وإلى مسألة كروية الأرض ربما يشير قوله تعالى: (رب المشارق والمغارب) (29)، وإلى مسألة إمكان الصعود إلى السماء بالسلطان، فينهدم أساس امتناع الخرق والالتئام في الفلك بقوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا...) (30) إلى آخره. وإلى مسألة مبدأ خلق السماء والأرض بقوله: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (31) فإن ما يثبت عند المحققين لا يرجع إلى أكثر من ذلك، وإلى مسألة تعدد الأرض بقوله: (ومن الأرض مثلهن) (32) خلافا لما عليه حكماء السلف. وبالجملة: تحتاج هذه الورطة إلى كتب اخر غير كتابنا، ولو وفقني الله تعالى لإتمام هذا السفر الحقير - لحقارة ساطره - لأشرنا خلال المباحث والآيات إلى أعاجيب الكتاب، وما فيه من حل المشاكل والمعاضل. وبالنتيجة: في كل واد من المسائل العرفانية والألوهية والحكمية الإلهية والفلسفة الطبيعية والمادية، يكون للقرآن قدم راسخ، وفيه آيات باهرة ظاهرة كاشفة عن تلك الحقائق برموز وإشارات وتنبيهات. فمن المسائل الإلهية مسألة التشكيك في الوجود وإليها ربما يشير قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (33)، وفيه الإشارة إلى مسألة مجعولية الوجود وأصالة الوجود أيضا. ومن المسائل الشامخة الإلهية المصرح بها في القرآن المبين مسألة نطق الأشياء والحيوانات وإدراكهم المركب وعملهم بالعلم وإليها يشير آيات: فمنها قوله تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (34)، وقوله تعالى: (كل قد علم صلاته وتسبيحه) (35)، وقوله تعالى: (الذي أنطق كل شئ) (36)، وقوله: (علمنا منطق الطير) (37)، وقوله: (وقالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم...) (38) إلى آخره، وغير ذلك من الباهرات الواضحة والواضحات الباهرة. ثم إن مقتضى البراهين القطعية العقلية جسمانية المعاد، ومعاد كل شئ إليه تعالى، وإليه الإشارات والتصريحات في ذلك الكتاب المبين، الذي لا ريب فيه في ذلك العصر المظلم الممثل بالغياهب، ويشير فيه إلى مسألة تجسم الأعمال وأن الجنة والنار تبعات الذات والأخلاق والأفكار، فينادي: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) (39)، ويقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (40)، ويقول: (نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) (41)، ويقول: (وقودها الناس والحجارة) (42)، وقد بلغت هذه المسألة نصابها، وتوفرت الأدلة العقلية والسمعية ميقاتها، وتدل بمجموعها على أن الأعمال تجسم بعد فراغ النفس عن البدن. وربما يشير إلى مسألة الروح وانفكاكها من البدن الآدمي ورفض المادة بالموت قوله تعالى: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (43). فهل يمكن - مع ضيق المجال وطيلة ثلاثة وعشرين عاما - صدور مثله عن مثله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع لحاظ كثرة الابتلاءات الخارجية، مع قيامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحكومة والسلطنة والبسط والجهات والغزوات، وتشكيل الحكومة وتقنين القوانين العالية، الآتية في فصل على حدة. ولنعم ما يقال خطابا للإنسان أن يقال خطابا للكتاب: أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر (44) ولعمري إن إعجاز الإسلام الذي هي مهمتنا، ينكشف لأهل التفكر والتدبر ولأهل الوجدان والضمير من ملاحظات يسيرة، ملاحظة الكتاب وما يحتوي عليه، وملاحظة قصر زمان تحققه وتجمعه، وملاحظة كثرة ابتلاءات من أتى به وتحدى به - بحمد الله وله الشكر - فإن من ذلك يظهر أن الإسلام معجز جدا وحقيقة، ولا يكون إلا من عند القدير العليم، فيكون الإسلام دينا ودليلا. أما الأول فواضح، وأما الثاني فإنه دليل على الصانع الغائب الخبير البصير واللطيف القدير، وإلا فكيف يتمكن واحد من الآحاد من الإتيان بمثله. وهناك ملاحظة رابعة وهي لحاظ تأريخ نبي الإسلام وحدود سيره ومشيه ومعاشرته ودراسته واطلاعه على الأمور الدينية السالفة والدنيوية العصرية، وملاحظة جغرافيا بلدته في تلك العصور البعيدة عن جميع المزايا والمثل. فالإسلام معجز الملحدين القائلين بالدهرية والطبيعة، ومعجز الكافرين والطوائف الباطلة، من المجوس واليهود والنصارى، ومعجز خالد فيكون دليلا على فساد المقالات المتأخرة، الواضح انحطاطها من غير حاجة إلى تكلف واستدلال. وتفصيل هذه المسألة ربما يأتي من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: اشتماله على القوانين الفردية والاجتماعية إن القرآن يشتمل على القوانين الموضوعة المحتاج إليها البشر في حياته الفردية والاجتماعية، ويحتاج إليها الإنسان في سياسته المنزلية والبلدية والقطرية والمملكية الكلية. إن القرآن ناظم النظام الخاص وصاحب المكتب الحديث في كيفية إدارة الملك وإعاشة الطبقات: ففيه قوانين فردية راجعة إلى العباد وخالقهم، وهي تربوية روحية لازمة، حفاظا على النظام العام الاجتماعي، ومنها قوانين الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف. وفيه القوانين المشتملة على النظام المالي، وعلى المسائل الاقتصادية التي عليها رحى وجود الوحدات الاجتماعية الصغيرة والكبيرة، ومنها قانون الخمس والزكاة. وفيه ما يكون من القوانين الارتباطية الفردية والاجتماعية، والمعارفة اللازمة بين العوائل الجزئية والكلية، ومنها قانون الحج، وفيه قوانين إدارية وتحليل وتحريم بالنسبة إلى المسائل الكلية العقلائية، القائمة بها الأسواق الاختصاصية والمشتركة. ومنها قانون حلية التجارة وحرمة الربا، وحلية النكاح والزواج وتحريم الزنا، وما يشبهه. ومنها قانون السلطة على الأموال وتحريم أكل مال الغير. وفيه قوانين موضوعة للسياسة الاجتماعية اللازم رعايتها جدا في الحياة الحسنة والمعاش المستريح، ومنها قوانين في موارد السرقات والزنا واللواط وجعل الديات والحدود على التفصيل المحرر في الأنظمة الفقهية والمنظمات الإسلامية. ففي هذه المراحل الثلاث روعي لكل جانب حقه. وبالجملة، له مكتب خاص محرر في محاله. وليوفقني الله تعالى لتوضيحه في رسالة على حدة آمين. فإليك أيها الإنسان المنصف بالفطرة والبعيد عن اللجاج بالطبع، وإليك أيها الإنسان العاقل بالخلقة والمتجنب عن الحوسات بالمثل الاكتسابية المتحققة في وجودك وعليك أيتها العائلة البشرية بعد ذاك وذلك بالتأمل حق التأمل والتدبر حقه في هذا الكتاب من هذه الناحية، وأنه كيف يمكن لبشر في تلك الأزمنة القصيرة المبتلى بتلك المزاحمات الوجودية والمضادات الخارجية والمعاندات المضبوطة في التأريخ، أن يأتي بمثل هذا الحديث ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؟! لست أقول: إن سائر الأنظمة البشرية لا تحتوي على المصالح الفردية والاجتماعية حتى تقول: إن كثيرا من الممالك الراقية يعيشون أحسن المعيشة في الأقطار الإسلامية، مع أنهم بأنفسهم تكفلوا وضع القوانين وجعل المواد والأحكام. بل أنا أقول: إن الإسلام يتمكن من المحافظة على سعادات البشر الفردية والاجتماعية، وإن الإسلام يحتوي على النظام الخاص ابتكارا وابتداعا، وكان سلاطين الإسلام يحكمون بها طيلة الأعوام والقرون ويكون حاويا لقوانين خاصة باقية باختلاف الأزمان والدهور، ويتمكن من المحافظة على النظام اللازم في المنزل والبلد والمملكة أبدا، وهل هذا يمكن أن يترشح من مخ إنسان كسائر الأناسي، ومن فكر بشر كسائر الأفراد، أم كل ذلك يكشف عن حقيقة وراء هذه المسائل، هي المدبرة الناظمة، وهي القوة الغالبة الملاحظة لجميع الأعوام والملل في جميع الأعصار والأمصار؟وهذا من عجيب الأمر أنه ظهر في الحجاز البر الفاقد لجميع نشأت الحياة ونشاطات العقل والدرك، موجود أتى بهذا الكتاب لتدبير الممالك والمعيشات الجزئية والكلية في القرون الآتية التي تبلغ فيها الحضارة أعلى درجتها، وتفوق فيها المتمدنات غاية مأمولها ونهاية رقاها، ويمشي معها مشيا مازجا. ولعل الله يحدث بعد ذلك ما ينال به الإنسان من سوء تدبيراته في الأنظمة الموجودة، سواء فيه الأنظمة التي تنتسب إلى الماديين أو المنتحلين لإحدى الديانات الباطلة في عصر القرآن، ولو كانت حقة في عصور خلت ومضت. ولهذه المسألة أيضا مقام آخر لما فيها من الدعاوى المحتاجة إلى البرهان، وهناك تشكيكات يصعب جدا حلها، فلا تخلط.
الوجه الخامس: فصاحة القرآن وبلاغته من الأمور التي تحدى بها القرآن، بل الأظهر أنه الوحيد من بينها، ولو كان يحتوي على مجموعة هي توجب انتساب الذكر الكريم إلى العزيز الحكيم، وإلى الوجود العام التام فوق التمام بما لا نهاية له عدة ومدة وشدة. وبالجملة من تلك الأمور: حديث الفصاحة والبلاغة، وقد تصدى علماء الإسلام لتوضيح هذه الجهة في الكتب الكلامية، وفي المؤلفات التفسيرية، وفي مدخل التفاسير، وفي الرسائل المستقلة بما لا مزيد عليه. ولعمري إن ما هو عندي عجيب هي الملاحظة الخاصة التي روعيت فيه، وهي مطابقة الجمل التركيبية لطباع البشرية، من حيث القصر والطول، وهذه هي الجهة الموسيقية الخاصة التي لا ينفك منها الكلام المنسجم والتركيب الموزون. وما اشتهر من: أن في تقديم القرآن وتأخيره جملة على جملة أو كلمة على كلمة، نظرا معنويا مطلقا، وبلاغة وفصاحة خاصة مطلقا، مما لا ترتضيه عقولنا بعد، ولو أمكن أن تساعد عليه عقول المتأخرين، فإنهم أدق نظرا من القدماء الأسبقين. وقد علمت في منهجنا التفسيري ما ينفعك في المقام أحيانا، وذكرنا وجوها لتقديم ما أخره القرآن وبالعكس، وما تلقاه بالقبول علماء الإسلام، فهو لأنهم جعلوه أصلا موضوعيا يجب الدفاع عنه، وأنه الكتاب الإلهي الذي يلزم حفظه من كافة الجهات. وهذا عندي من الاشتباه، فإن القرآن يدعي أنه لا يتمكن البشر أن يأتي بمثله، أما في خصوص البلاغة، أو بمثله فيها وفي كونه من الأمي العربي، أو هما مع كونه محتويا لجملة من المسائل العالمية، العقلية والنفسية والأفعالية والسياسية والاجتماعية. وعلى كل تقدير نجد كثيرا ما أنه يراعى أواخر الآيات، حفاظا على القوافي والسجع ورعاية للقصر والطول، ولا ضير أن أذكر في المقام ما يدلك على هذه المقالة، ولو كان عندي بعض منها موجودا لما أشرت إليه، ولكن لا يورث ذلك نقصا بساحة القرآن، وقد علمت منا أن الأحسن منه مقدور بالضرورة، والأفصح والأبلغ منه ممكن قطعا ذاتا ووقوعا، وإنما الحاجة إلى الإمكان الاستعدادي حتى يتنزل إليه من الغيب المطلق إلى الشهادة المطلقة ما يكون مسانخا لتلك القابلية والإمكان، فعليه لا منع من الالتزام ببعض الزيادات والتقديم والتأخير، رعاية لأسلوب الكلام وزنة الجمل وميزان الطبع والذوق.
بقي شئ
بعض شبه حول فصاحة القرآن وبلاغته إن هناك بعض شبه لابد من الإشارة إليها وإلى ما هو حلها عندي، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
الشبهة الأولى: التحدي بالفصاحة والبلاغة وبكيفية الكلام الخاصة به، التي لا يعرفها إلا الأوحديون من أهل الأدب من العرب، يناسب كون نطاق دعوى النبوة محصورا بشبه جزيرة العرب، لعدم تمكن الآخرين، ولا سيما القاطنين في الشرق الأقصى والغرب الأغرب، البعيدين عن لسان العرب بما لا حد له عرفا. وتوهم: لزوم السير في العروبة حتى يتوجه الإنسان بلاغة القرآن، سخيف صادر عن المجانين، فما به تحدى القرآن حسب الاتفاق، يوجب اختصاصه حكما بطائفة خاصة يفهمون ذلك وينالون البلاغة، وبعد القرآن عن مستوى كلماتهم (45).
الشبهة الثانية: إن التحدي بالفصاحة والبلاغة وتعجيز الناس عن الإتيان بمثله في العصر الأول إلى عصرنا هذا لا يكون كافيا لكونه معجزة، لإمكان الإتيان بمثله في العصور المستقبلة، ولا دليل ينسد به هذا الاحتمال والإمكان، وعندئذ لا يمكن الاعتقاد بأنه كتاب لا يتمكن البشر أن يأتي بمثله. نعم إلى زماننا هذا ما تمكن البشر من ذلك، ولكن إمكان تمكنه غير مسدود جدا. وقد اتفق كثيرا أن مثل شاعر لم يأت في برهة من الزمان، ثم اتفق ذلك فامسخ شعره بأمثاله كثيرا. وقد اشتهر بين أبناء العصر: أن أمثال النابغة وامرئ القيس وسعدي وحافظ وفردوسي و " مثنوي " لم توجد بعد، ولكن لا يمكن الحكم بامتناع ذلك في العصر الآتي، فعندئذ لا يجوز تعليق العقيدة على مثله، ولا يجوز اتباعه بمجرد عجز أهل مصر في عصر، كما لا يخفى. وبالجملة: هذا القرآن حسب نظر المسلمين معجزة خالدة، والحكم بالخلود لا يمكن إلا بعد مضي الأزمنة بتمامها، وإذا امتنع الحكم عليه بالخلود امتنع الحكم عليه بأنه معجزة من الأول، لأن التحدي ليس مخصوصا بزمان دون زمان، فالعجز عن الإتيان بمثله في العصر الأول لا يوجب كونه معجزة من الأول، كما لا يخفى.
الشبهة الثالثة: إن في الطبائع العالية من طبيعة الإنسان إلى طبائع النباتات والجمادات، مواضع استثنائية وموارد خاصة، مثلا في طبيعة البشر صفة الشجاعة، وقلما يوجد هذه الصفة على وجه الكمال إلا في النوادر، ويسمون بنوادر التأريخ، فشجعان الفرس والعجم معدودون، وهكذا سائر الأوصاف والإدراكات والاستعدادات، فربما يوجد في العالم امرأة تلد عشرا فهي نادرة عصرها وزمانها من هذه الجهة، وهكذا الأمر في سائر المزايا والخصوصيات المادية والمعنوية، بل ربما توجد في زوايا الحركات العالمية بعض الاستثنائيات الموجبة لتحير العلماء المتفنن. وربما يقال: إن في القطر الخاص تحصل وردة لا تحاذيها سائر الوردات، وذلك لأن في تلك القطعة من الأرض كمالات كسائر القطعات، ولكن في سائر القطعات انتشرت الصفة الكاملة في أفرادها، فأصبحوا متقاربين، وفي ذلك القطر استجمعت في شخص خاص، فتكون وردة البر أعطر من ورد الجنة والحدائق المعدة لها. وبعض الأقطار من قطر إيران مشهور بقلة القوة الفكرية، وقد استثني منه فرد وهو من المحققين الأعلام، ولولا خوف الهتك والتوهين لأشرنا باسمه الشريف.
وبالجملة: ربما تستجمع قوى سائر الأفراد في فرد. ومن هنا يتوجه القارئ إلى الشبهة في المسألة، فإن محيط الحجاز كان محيط البربرية والاستعباد ومهبط الخشونة والخيانة وغير ذلك، فأصبح فيه إنسان أمين يخدم البشرية والإنسانية، فيكون من المستثنيات التي لها مشابه في الجملة، فلا معجزة ولا تعجيز، والنوادر التأريخية غير عزيزة، فليكن هو منهم، فلا دلالة على وجود الغيب، ولا على تصرفه في شبه جزيرة العرب بتنزيل الكتاب السماوي، بل كل هذه الأمور مستندة إلى العلل الطبيعية والشرائط المادية، وإلى الاختلاف في تلك العلل والشرائط. وأما الجواب عن أمثال هذه الشبهات بالإجمال: فإن تعجيز القرآن - كما عرفت - ليس بمعنى الامتناع الذاتي أو الغيري على الآخرين، لعدم انسداد باب ذلك على كل موجود مصاحب للمادة والقوة. وقد عرفت بما لا مزيد عليه أن البعثة كما لا تكون بحسب الوجود إلا كبعثة الحكماء والأطباء والمخترعين، كذلك لا تكون إلا مثلها بحسب سعة الوجود عرضا وطولا، وأن سائر الفرق ينبعثون بأنواع البعثات لتنظيم بلاد الإنسان الجزئية والكلية، وترفيه حال البشر، وتشريح الأمور اللازمة في الحياة الفردية المزاجية والاجتماعية، وكذلك الأنبياء ينبعثون لإرشاد العائلة الإنسانية إلى دار الآخرة وإلى أحسن الأساليب في المعيشة الدنيوية. وكما أن طائفة منهم يكون لبعثتهم حد محدود ووقت مؤجل، ولطائفة أخرى يكون لنظرياتهم الخلود والبقاء والأثر الباقي، كذلك الأنبياء (عليهم السلام)، والنبي الإسلامي من الأخيرين، لأن نطاق كشفه أقوى وأتم ودور وصوله ونيله أوسع وأرفع. فعلى هذا إذا نظرنا إلى هذه المجموعة - المسماة بالقرآن - وأخواتها بأساليب خاصة ومضامين عالية في تلك الأعصار والأمصار، وفي ذلك الوقت القصير المشغول فيه نبي الإسلام بأنواع الاشتغالات والشواغل، وبأقسام الابتلاءات الداخلية والخارجية، يحصل لأهل الضمير والوجدان علم بأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون حسب الطاقة العادية والشرائط العامة المتعارفة. فعندئذ إن اتفق نيل هذه المجموعة فهو، وإلا فعدم نيل الإنسان البعيد عن الساحات الاجتماعية، لا يوجب قصورا فيها، كما هو كذلك في سائر الوسائل المستحدثة للمعيشة الأحسن ولنيل السعادة العليا. ثم إن الجواب عن الشبهة الأولى فهو: أن اعتراف المتخصصين والمتفننين في أساليب الكلام والبلاغة، يكفي لذلك، ولا يعتبر أزيد منه، كما هو كذلك في سائر المستحدثات، فإن اعتراف جماعة بأنها كذا وكذا، يورث العلم بأن غير العارف بها أعجز منهم وأبعد من الإتيان بمثله. وأما عن الثانية: فلعمري إنها ولو كانت شبهة قوية، ولكنها تنحل بعدم اشتراط إعجازه في بدو نزوله بإحراز عجز البشر الاستقبالي والبلغاء الآتين في الأعصار الآتية، بل هو شرط كونه معجزة خالدة، وإذا ثبت صدقه في أصله يثبت صدقه في خلوده، وهو المطلوب. وبعبارة أخرى: صدق مقالته الأولية يثبت بالبرهان، وصدق مقالته الخلودية يثبت بإخباره وإظهاره، فلا ينبغي الخلط. وللمسألة طور آخر، فتدبر تعرف. وأما عن الثالثة: فالحق ولو كان كذلك بحسب الإجمال في النوادر الاستثنائية، إلا أن الكلام في أن هذه النادرة، هل يعقل أن يكون مبدأ لهذا التحول في العالم، بإتيان هذه المجموعة في هذه الشرائط وتلك الموانع، أم يكون ذلك دليل وجود القدرة الأخرى الوسيعة، فيكون هذه النبوة العالمية دليلا على الغيب والتوحيد، ودليلا على دخالة الغيب في هذا العالم، ودليلا على نبوته العامة وصدق مقالاته وصحة كتابه ومضامينه، لاستناده إلى الغيب الواقف على الأسرار والمجهولات. وبالجملة: لا نعني من بعثة الأنبياء أمرا خارجا عن العالم وحركاته الطبيعية والعادية، إلا أن أمثال هذه الحركات تحت شرائط، توجب استناد هذا العالم إلى القدير المتعال طبعا، وإلا يلزم أمر على خلاف الطبيعة، ويلزم معلول بلا علة، ويلزم أمر خارج العادة وخارق الطبيعة. فهربا عن وقوع ذلك لابد من الإقرار باستناده إلى أمر آخر، ومن الاعتراف بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ عن المبادئ الاخر الموجودة في العالم، القائم بها أمور العالم من قضها إلى قضيضها.
الوجه السادس: بقاء القرآن على أسلوبه ولغاته في الأمصار من الأمور التي تعد من غرائب القرآن، ومن عجائب محاسن هذه المجموعة الإلهية، وهذا المعجون الملكوتي والموسوعة الربانية: أنه كتاب يمشي في جميع الأمصار باقيا على ابتكاره لا يبلى ولا يندرس أسلوبه وكيفية تركيبه وبنوده. ومن الجدير بالذكر احتواؤه على اللغات المستحدثة، وأن التمدن البشري كلما ازداد حضارة ورقيا في كيفية الإلقاء والإفادة واستعمال اللغات الجديدة، يكون هذا الكتاب متقدما عليها في هذه الجهة، وهاديا لهم إلى طريقة أعلى وأرفع وسجية أحسن وأرقى، فهذا المميز أيضا من مميزاته ومحسناته جدا، ويحصل للخبير المنصف عند المقارنة بين أدب القرآن وأدب اليوم، ما قرعنا سمعه وأسمعناه.
الوجه السابع: إخبار القرآن بالغيب من وجوه إعجاز القرآن إخباره عن المغيبات، مثلا من سورة " تبت " يتبين أن أبا لهب لا يهتدي ولا زوجته، مع أنه كان ينبغي أن يتوجه أبو لهب إلى هذه القضية ويعلن إسلامه نظرا إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن ذلك قوله تعالى: (ولن تفعلوا)، كما لا يخفى. ومنه قضية سورة الروم، فإن فيها خبرين عن الغيب ظهر صدقهما بعد بضع سنين. ومنه ما في سورة الفتح من القضايا الثلاث. وفي سورة البراءة بعض منها. ومن القضايا العجيبة قضية نزول السجيل على جنود أصحاب الفيل، فإنها كانت في عام الفيل حسب التواريخ، وبلا شبهة كان جماعة من المشركين المعاندين مدركين لها حسب أعمارهم، لقرب عهدها بعهد نزول هذه السورة، ومع ذلك لم يظهر في التأريخ تكذيب أحد من المشركين والمعاندين، ولم يسجل في التأريخ ضجيج المخالفين المنادين بإنكارها، فمنه يعلم أن أمثال هذه القضايا تستند إلى الغيب، وإلى المبادئ الخارجة عن الطبيعة الداخلة فيها والعاملة عملها والمتلونة بلونها، حتى يظن الجاهل أنه لا شئ ورائها، ويفهم الألمعي ويدرك وجودها في خباياها وزواياها. بعد ملاحظة هذه الخصائص في هذه المجموعة، عليك أن تلفت نظرك إلى تأريخ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى جغرافيا شبه جزيرة العرب وإلى الموانع الكثيرة عن تقدمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى فقد الشرائط الكلية لتقدمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى قصر طول أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي ثلاثة وعشرون عاما، وإلى حالاته الخاصة، وإلى كونه أميا لا يدري الكتاب ولا الإيمان، وإلى صدق لهجته وصدق مقالته، وإلى أمانته وإلى سلامة نفسه، وإلى رياضاته الشخصية وعبادته الدائمة في غار حراء، وإلى مئات أمور جزئية أخرى، فإنه بعد اللتيا والتي يحصل لك الإيمان بها، وبتلك الموسوعة، ويحصل اليقين به وبالمبادئ الإلهية الدخيلة في الطبيعة. ومن هذا البرهان الإني، وهو كون هذا الكتاب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مستند إلى المبادئ العادية كسائر الأمور، يتبين لك بالبرهان اللمي لزوم اجتماع الشرائط الخاصة من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة ومن ومن... إلى آخره، لظهور هذا الكتاب على قلبه الشريف، ولاتصاله بالغيب المطلق، واستمداده (صلى الله عليه وآله وسلم) من جنابه الإلهي بالوسائط المجردة الروحية الكلية. ويظهر: أن هذه الشرائط إذا انضم إليها ارتفاع الموانع، تنتهي إلى ذلك وإلى أحسن منه في كل جولة وملة، وفي كل برهة وزمان، من غير عناية خاصة من ناحية الفاعل، فإن فيض الفياض على الإطلاق عام ومطلق، ورحمته الرحيمية والرحمانية مطلقة وشاملة، وإنما الاختلاف في ناحية الاستعدادات والإمكانات المنتهية إلى الاختيارات في طول الدهر وطيلة الحياة ولذلك ادعي الإجماع على أن جميع آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا مطهرين من الأدناس والأخباث (46)، وما ذلك إلا لأجل أن ظهور الجلوة المطلقة الأحدية الإلهية، لا يمكن إلا للقلب الكذائي، كما لا يتمكن منها إلا القلب الكذائي، وإليه يشير قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) (47) وهذه المسائل لها أبواب اخر، ولها أهل يختصون بها، ولا يدركها إلا الأوحدي، ولا ينالها إلا من أتى الله بقلب سليم.
الوجه الثامن: تكرار القصص بأساليب متعددة ومن وجوه إعجاز القرآن: أن في هذا الكتاب السماوي، قد تكررت القصة الواحدة أكثر من خمسين مرة، ومنها قصة موسى وإبراهيم وآدم، وربما يكون النظر في تكرار هذه القصص - مضافا إلى إفادات خاصة في تكرارها - إلى أن الإتيان بمثله يمكن للقرآن، فيأتي بمثلها مرة ثانية، ثم بعد ذلك يتوهم ويذهب الواهم إلى عدم كفاية الألفاظ والتراكيب لإتيان مثله حتى للقرآن، فيأتي به ثالثة ورابعة، ثم بعد ذلك يذهب ذهنه إلى القطع بامتناعه عليه، فضلا عن غيره، فيأتي بالعاشرة والعشرين، ويمهلهم أن يأتوا بمثله، ومع ذلك يعلن أنهم لن يفعلوا وما فعلوه أبدا، ثم بعد ذلك الإعلان يأتي للمرة الثلاثين والأربعين. وهذا يشعر بأنه لو كان لنبي الإسلام عمر ومدة في هذه النشأة، كان ينزل عليه مرات اخر بأساليب مختلفة وكيفيات خاصة، على نهج مخصوص به لا يشاركه فيه غيره، متميزا عن سائر التراكيب والجمل في جميع هذه الأمثال التي أتى بها القرآن، ولم يأت بها غيره، فافهم واغتنم.
الوجه التاسع: عدم اشتماله على المحتملات ومن الخواص أن الكتب المتعارفة المدونة في العصور السابقة إلى هذه العصور مشتملة على المحتملات وعلى أن مؤلفه عاجز عن فهم المسألة، ويكون جاهلا بمغزى البحث والكلام، فيكون في الكلام نوع اغتشاش واضطراب جهلا بالأمر أو مصرحا به، وهذا التأليف الملكوتي والمعجون الإلهي يفقد ذلك جدا. وتكون أحكامها بتية واضحة غير مضطربة، لا يشعر بجهل مؤلفه ومصنفه، ولا إلى عجز صاحبه عن إدراك المسألة ونيل حقيقتها.
الوجه العاشر: اشتماله على القانون والهداية من اللطائف التي يشتمل عليها هذه الموسوعة الإلهية: أن المتعارف في سائر الدساتير القانونية ليس إلا ضبط المواد وأصول القانون وقيودها، ولكن هذا في مقام جعل القانون يتصدى لهداية البشر، من جانب التلطيف وذكر أصول الخير والسعادة الدنيوية والأخروية وفي نفس ضرب قانون الصوم - مثلا - بقوله: (كتب عليكم الصيام) (48) يرشد الآمر إلى أن الصوم خير لكم. ثم أيضا يشتمل على خصائص العمل بالقانون، فيكون مضافا إلى ضرب القانون وبسطه يضمن العمل به والتحقيق العملي بالنسبة إليه بتنفيذه وتطبيقه في الخارج، حتى يكونوا متقين صالحين راشدين، وغير ذلك من خواص القوانين المذكورة في طيها، فلا يكون كتاب متجمد فيه القوانين بل فيه الترغيب إلى روح القانون والمقصود الرئيسي منه، وهو تشكيل المدينة الفاضلة الاجتماعية والفردية، وهذا من المميزات المخصوص بها هذا المعجون أيضا، ويكون هو مبتكرا فيه ونعم الابتكار، أو روعي فيه هذا المعنى ونعمت الرعاية اللازمة جدا.
الوجه الحادي عشر: حول خلوص القرآن عن المضادة مما عد من وجوه الإعجاز وصنائع البلاغة، خلوص الكتاب عن النقاض والمضادة، وخلوه عن المنافرة في الأحكام والمناقضة في الآراء، ويفقد المكاذبة في الأنظار، بخلاف سائر الكتب. أقول: في هذا الوجه خصوصا، وفي كثير من الوجوه السابقة، أنظار وخطورات غير خفية على أرباب التحقيق وأصحاب التدقيق، مثلا إنكار المناقضة للمعتقدين بالقرآن غير قابل للتصديق، لأن الدفاع عن أصول العقائد حق كل ملة ونحلة، وتكذيب المناقضة خاصة كل ذي صلاحية ونظر، ولكن الأنظار في هذه الساحة وهذا الميدان مشوبة مضطربة، غير خالية عن التأثيرات العصبية والقومية والدينية، كما أن توجيه المكاذبة والمناقضة من المعاندين أيضا دأب كل إنسان معاند، وأنه ولو كانت عين الرضا متهمة ولكن عين السخط لا تخلو عنها إن لم تكن أولى، ولذلك لا يمكن حل هذه المشاكل. نعم لو كان في القرآن اختلاف أدركه المسلمون، لكان ذلك موجبا للضجة العامة بين الملل الإسلامية حتى يلتزموا بالزيادة فيه، فمنه يعلم أن المناقضات نظرية ليست واضحة. ولكن المنافرات في الأحكام فهي محمولة على النسخ، وهذا فرار من التكاذب، إلا أنه كان متعارفا يحمل في القوانين البشرية على قصور التقنين أحيانا وفي الكتاب الحكيم على حدود الاقتضاءات. ولكن الشأن في إنكار بعض المسلمين - والشيعة - وجود النسخ في القرآن كلا مدعيا: أن في الآيات خصوصية، وليست هي منسوخة مطلقا، والتفصيل في محل آخر. ومن المحتمل أن يكون قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (49) مشعرا ببعض الاختلاف الذي لا يتمكن البشر العادي من حله، ولكن الغيب يمنع ويصرف الأذهان العادية عن إدراك ذلك الاختلاف. وبالجملة: مجموعة من الوجوه المذكورة في الكتب المفصلة، وطائفة من الوجوه التي أشرنا إليها، قابلة للمنع أو المناقشة، أو حصول الشركة بينه وبين الكتب الاخر أو الكتب السماوية السابقة، فيكون عنها مأخوذا، ولكن المنصف المتدبر في الجهات اللاحقة والمشار إليها فيما سبق، بضميمة الوجوه واعتبارات الإعجاز بأجمعها ينال أن للغيب قدما راسخا في هذه الموسوعة، وأن قانون العلة والمعلول يقضي بوجود المبادئ الاخر، اللازمة لتأليفه وتصنيفه وتبويبه وترتيبه، ولو كانت المبادئ الطبيعية دخيلة دون العلل المختفية تحتها وفي ظلها، لم يكن هذا المعجون كالنور المتلألئ نهارا، دليلا هاديا لأنحاء الطوائف البشرية إلى قمة السعادة وذروة المثل الإنسانية. والله من ورائه محيط.
الوجه الثاني عشر: كونه تبيانا لكل شئ ومن الخصائص التي يحتوي عليها الكتاب المبين والقرآن المستبين: أنه تبيان لكل شئ، فيكون تبيانا لنفسه بالأولوية القطعية. أما تبيان كل شئ فهو مما لا يدرك، ولا يعلمه إلا الله ومن أتى الله بقلب سليم، وهم أهل القرآن النازل في بيوتهم، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسم الله. وأما تبيان نفسه فقد تصدى من السلف والخلف لمراجعة مشكلات القرآن بنفس القرآن وإلى ذاته لحل معضلاته، مثلا: اختلاف المفسرين في أن " الصراط المستقيم " في قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) ينحل بمراجعة القرآن، حيث قال في سورة الشورى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) (50). وهكذا. فقس عليه اللغات والتراكيب أو الموضوعات المحتاج تفصيلها إلى مراجعة التفاسير المدعى فيها تفسير القرآن بالقرآن.
الوجه الثالث عشر: اشتماله على التعابير العرفية والاصطلاحات ومن خصوصيات هذا السفر القيم والنور الدائم والفرقان العظيم والقسطاس المستقيم: أنه مضافا إلى احتوائه على العربي المبين، وعلى اللغات العامية الرائج استعمالها والمتعارف في عصره ومصره، عربية كانت، أو مستعربة من الفارس أو الحبشة أو الهند أو الترك أو اليونان أو غير ذلك، فإن في اتخاذ هذا السبيل ملاحة خاصة، وتقريبا من الأفهام الأولية، وتوطئة للهداية إلى المسائل العالية، البعيدة عن الأفهام الراقية والأفكار العميقة، يكون حسب ما أظن محتويا على الاصطلاحات ويحتاج إلى التدبر جدا والتأمل كثيرا، حتى يستخرج من خلاله ما هو المراد من المصطلحات. وبالجملة: كلما يكون في سائر الكتب اصطلاح خاص يعرفه أهلها، ولا يتوجه إليها إلا من استخدم العلم بما لا مزيد عليه، ويجئ الملاحظ المتأخر، فيجد مواقف سقوطه ومحال اشتباهه، وينادي بأعلى صوته: عذري منه جهلي. وبالجملة: يجوز أن يكون " الشرقية " و " الشرق " في القرآن رمزا إلى المعنويات، و " الغربية " و " الغرب " اصطلاحا للماديات، فإذا نقرأ قوله تعالى: (لا شرقية ولا غربية) (51) يخطر بالبال: أن المراد هو الحد الوسط وإذا نقرأ قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي) (52)، وقوله: (إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) (53)، نظن فيهما ذلك الأمر، وإذا نراجع تأريخ حياة الأنبياء نجدهم أنهم من الشرق، وإذا نراجع تأريخ علماء الطبيعة والمادة والمخترعين نجدهم غربيين، فربما تكون لانعكاسات الشمس وارتعاشات الكرات والأرض، دخالة في هذا الأمر وذاك. ومن هنا يخطر ببالنا: أن حديث بعثة الأنبياء ليس حديثا خارجا عن حديث بعثة المخترعين وسائر البعثات، وأن الكل مبعوثون في وجه من قبل الغيب، وفي وجه من دخالة الشرائط المادية والمقتضيات المحلية والقطرية، ونصل بعد ذلك إلى ما سلف منا في المباحث السابقة، ويتأكد ذلك البحث بما أشير إليه جدا. فلو كان نزول الوحي من السماء بلا اقتضاء من قبل الإنسان الأرضي، لكان أن يتنزل في أرض أمريكا والأرجنتين والبلاد النائية الأروبية واستراليا، ولكان ذلك لازما في كل عصر وكل مصر، ولا يكون لآخرهم الختم والخاتمة، لاحتياج البشر - في جميع الأحيان والأزمان - إلى الإمدادات الغيبية والرسل الإلهية، ولكان في ترك ذلك ظلم وجور في حق الجماعة الجاهلين والثلة العاجزين عن إدراك المبادئ والحقائق، فكل هذه المسائل تشهد على أن المسألة ليست جزافية. وتفصيله يطلب من قواعدنا العقلية والحكمية. ومن هنا تنحل مشكلة الخاتمية ومعضلة انقراض عصر النبوة والوحي، كما لا يخفى. وبالجملة: من المحتمل أن تكون كلمة الأمر رمزا إلى الوجودات المفارقة، وكلمة الخلق رمزا إلى الوجود المادي والمقارن مع المادة، فإذا قرأنا قوله تعالى: (ألا له الخلق والامر) (54) نشعر منه أن الأمر من قبيل الخلق، ويكون في قباله. وإذا قرأنا قوله تعالى: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) (55)، يخطر بالبال: أن في الآية جوابا عن حقيقة الروح... وهكذا. وعلى كل تقدير لابد من الفحص في القرآن حتى يتبين هذه الحقيقة، ويظهر صدق هذه المقالة أو كذبها، فإن في صورة كشف هذا الأمر يتبين كثير من المسائل الإلهية والتفسيرية.
الوجه الرابع عشر: ابتكار القرآن في بعض العلوم من المزايا ومحاسن هذا المختصر الملكوتي والنموذج اللاهوتي: أنه مبدأ للتحولات الكثيرة، ومنشأ الانقلابات في الفنون الخاصة قاطبة. مثلا من التحولات: حكاية القصص الماضية والأخبار الخالية عن الأمم السابقة مذيلا ذلك بالإنذار والتبشير، وموجها قراءه الكرام إلى الاستفادات الخاصة والتنبهات الإنسانية، فإن مجرد نقل حكاية السلف وقصص السابقين غير جائز في شريعة عقل البشر، وقد اشتهر ذلك في عصور ما بعد عصر القرآن، وفي طليعتهم في الشعر والنثر جماعة من المسلمين، كالمولوي وناصر خسرو ومنهم استفاد أحيانا سائر الملل. ومن ذاك: المقاولة مع الحيوانات وإسناد المنطق والكلام إليها، ونقل بعض القصص عنها، فإن ابتكار هذا الأمر أيضا بيد القرآن، ولو كان بعض كتب الأقدمين - حسب ما قيل - مثل كتاب " كليلة ودمنة "، ولكنه غير واضح تقدمه على الإسلام. وبالجملة: شاع ذلك في عصورنا، وكان في الشرق اشتهر جدا ويكون ذلك مبدئية هذا الكتاب السماوي. ومنها: تحرير المقامات، فإن أمثال الحريري وبديع الزمان الهمداني، أتوا بطائفة من الكلام نثرا، نظرا إلى سهولة الأمر على طلاب اللغة، وابتكار هذا أيضا على عاتق القرآن العظيم، ملحوظا فيه - مضافا إلى احتوائه على اللغات الكثيرة، التي قلما يوجد شخص يعرف تمام لغة القرآن - أنه مشتمل على المصالح الإنسانية والأحكام الأخلاقية والإرشادات والتوجيهات، ولا يكون مجرد القصة المختلقة والحديث المشبوه. وفي طليعة هؤلاء الجماعة أئمتنا المعصومون - عليهم الصلاة والسلام - حيث فتحوا باب الدعاء مع قاضي الحوائج ومعطي السؤلات، فإن هذه الأدعية الموجودة عندنا مقامات العبد عند الرب، مع احتوائها على المسائل العالية الإسلامية والربوبية والأخلاقية والاجتماعية، مع ما فيها من اللغات المشكلة والتراكيب المختلفة. ومنها: أن تدوين القوانين والدساتير في مختلف البلاد الإسلامية اسما وغير الإسلامية، نشأ عن هذا التدوين والدستور، ولم يكن معهودا في العصور السابقة عليه ذلك بالضرورة، وقد استفادوا منه كثيرا من المسائل في سن القوانين، ومن يتدبر في سائر الدساتير يتمكن من نيل ما أشرنا إليه، وفي ذهني أنه قد صنع بعض علمائنا رسالة واسعة تشير إلى ذلك. وبالجملة: هذا الدستور أول دستور حي بين البشر معمول به في الجملة، ونستعين الله أن يوفقنا على تطبيق كافة قوانينه وأحكامه. ومنها: أن تدوين كافة العلوم الإسلامية، كالفقه والأصول والأخلاق والفنون الأدبية كاللغة والصرف والنحو والبلاغة وغيرها، كلها مستمد من نور هذه المائدة السماوية، والميثاق الإلهي، وكلها ناشئ عنه بشهادة الوجدان والتأريخ. وأما ما قد يقال: إن الابتكارات الطبيعية حصلت من الآيات الإلهية والقرآن الكريم، فهو من الجزاف جدا، ولا ينبغي للقرآن ذلك، فإن القرآن يعرف نفسه ويعلن خاصته، ويظهر ويعرب عما هو عليه من المعنويات، ولو كانت الآيات رمز تلك المسائل، ولكن هذا العرض العريض المشهود في العصر في ناحية الاختراعات والحضارة الأروبية، ليس مستندا إليه بالقطع واليقين. فما صنعه بعض المفسرين في العصر الأخير (56)، ظنا أن الأمر كذلك، ومستشعرا من الآيات بعض الحوادث اليومية والمصنوعات الجديدة، خال عن التحصيل جدا. ومن الغريب توهمه أن مخترع الطيارة انتقل من قوله تعالى: (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) (57) إلى إمكان ذلك، مع أن ذيل الآية يكون هكذا: (فأواري سوأة أخي) هذا مع عدم اطلاعه على أن الاختراع ليس إلا لمبادئ اتفاقية، وقلما يتفق للمخترع توجيه النظر إلى ابتكار شئ واختراع صفة وتفصيله في محل آخر.
الوجه الخامس عشر: اشتمال القرآن على الفنون الكثيرة ومن عجائب القرآن، ومن أهم خصائص هذا الكتاب المنير والحبر المستنير: احتواء آياته على المسائل المختلفة، واشتمال جمله على الفنون الكثيرة، ومن يراجع تفسيرنا يجد صدق ما ادعيناه، فإنه كثيرا ما نستنبط من الآية الواحدة مسائل فقهية وأصولية وفلسفية وعرفانية وكلامية وأدبية، وكل ذلك مع كونها قصيرة جدا، فربما يكون في تقديم الحروف والأدوات وفي انتخابها، وتقديم الجمل بعضها على بعض وتأخيرها، إشارات وتنبيهات كثيرة، فالآية الواحدة التي ربما لا يزيد عدد كلماتها على خمسين، كآية الكرسي وآية النور، يحتاج فهمها إلى بسط الموضوعات الكثيرة، وقد ألف صدر الحكمة المتعالية رسالة خاصة في هذه الآية تبلغ مائة صفحة كبيرة. نعم هم خارجون - كما أشرنا إليه سابقا - عن مفاد الآية والدلالات إلى ما هو أجنبي عنها جدا، ولكن نحن مع تمام الدقة ونهاية التحقيق، حاولنا أن لا نخرج عنها، ولكن مع ذلك نستنبط من الآية الواحدة مسائل كثيرة - كلية وجزئية - في الفنون المختلفة، وهل هذا إلا إعجاب وإعجاز ؟! فلا تكن من المعاندين الغافلين.
تذييل
ملاحظات توجب تضييق الأمر على القرآن:
الأولى: براءة القرآن عن الشعر براءة القرآن عن الشعر والشاعرية، وعن الإتيان بالكلام الموزون بالأوزان الشعرية والبحوث الرائجة بين أعراب البادية وغيرهم، فإن لهذه الموازين والبحور قدما راسخا في تحسين الكلام، وتحريك المجتمعات والأندية، وتلطيف الخواطر، فربما يؤثر شعر واحد أثرا لا يؤثر الآثار والنثور والكلمات والجمل الكثيرة. وقد اشتهر في تأريخ إيران أن أبا منصور الساماني البخارائي سلطان الملك، خرج عن بخارى وطال سفره، وكان ذلك على خلاف ميول الوزراء والملازمين له وميول الملتزمين ومشتهياتهم، ولم يكن في قدرتهم تحريكه وإرضاؤه إلى الرجوع، وما تمكنوا من ذلك برهة من الزمان وطيلة أيام، فتمسكوا بذيل شعر الشاعر المعاصر المعروف بالرودكي، فأتى بأشعار راقية محركة ميل الشاه إلى بخارى، وباعثة له نحو المملكة وعاصمتها، وقيل: إنه لم يتم الشعر إلا وقد تجهز نحو بخارى. وقيل: أخذ الركاب مستعجلا على وجه لا يدرك ولا يوصف، ومن تلك الأشعار بالفارسية: بوى جوى موليان آيدهمى ياديار مهربان آيدهمى شاه ماه است وبخارا آسمان شاه سوى آسمان آيد همى شاه سرواست وبخارا بوستان سرو سوى بوستان آيد همى ريگ هامون ودرشتيهاى أو زير پايم پرنيان آيد همى (58) وبالجملة: للتوزين بالأوزان المسانخة مع الطباع البشرية، دخالة قطعية كثيرة في النفوذ والتحريك وجلب الأرواح وتحسين الكلام، ومع ذلك كله ينادي القرآن بأعلى صوته: (ما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (59).
الثانية: براءة القرآن عن الأكاذيب من الأمور الموجبة لملاحة الكلام والشعر اشتماله على الأكاذيب واحتواؤه على المبالغات والذوقيات، والقرآن من هذه الناحية أيضا يقع في ضيق الكلام ولأجل التجنب عن هذه الجوانب المذمومة يكون طبعا بعيدا عن الطباع المغروسة على المبالغات الخاصة، ومع ذلك كله فيه من الفصاحة والبلاغة والملاحة، وحسن التطبيق على الأرواح الإنسانية والذوقيات البشرية، ما لا يحصى ولا يمكن تحريره.
الثالثة: اشتمال القرآن على التكليف والتحديد من الأمور التي توجب طبعا قصور القرآن في الوصول إلى المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة، احتواء الكتاب على التكليف والتحديد والإنذار والتحذير، واحتواؤه على ما لا تقبله الطباع المنحرفة المشغولة بالأباطيل والمشتهيات والملاهي، كالسوق إلى الأخلاق الحسنة والصفات الجميلة، والمنع عن الأفعال الباطلة والأقوال الفاشلة والأفكار الفاسدة، ومع ذلك جاء بهذا الشكل البديع المقبول جدا.
الرابعة: لحاظ أمور حتى يكون شفاء يظهر من الكتاب العزيز أن من كان يركب هذا المعجون ويؤلف هذا المؤلف القيم الكامل التام، ليس مطلق العنان مرسل القلم والبيان، حتى يكون في سعة وفسحة، فإن قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة) (60)، ربما يكون مشعرا بأنه يلاحظ فيه الملاحظات الاخر الكامنة، التي لا يعرفها إلا الله ومن أتاه بقلب سليم. ولذلك ربما يكون آية منها داء والأخرى دواء حسب اختلاف المقتضيات والأمزجة، وتصديق هذا البحث موكول إلى أهله، وليس لغيرهم إلا مجرد الدعوى، ولذلك لا تذكره، إلا لأهله دون غيرهم، فلا تكن من الطاعنين الجاهلين. وأيضا لأهل العلوم الغريبة استكشاف القضايا الماضية والآتية، واستكشاف الأفكار والخواطر من ناحية الجفر الرباعي أحرفه، وقد كان في زماننا بعض اللائذين بقبر علي بن موسى الرضا - عليه آلاف التحية والثناء - يستخرج للمستخير ما نواه بفتح القرآن والمحاسبة اليسيرة من حروف أول السطر المشاهد بدوا، وما هو إلا للارتباط العمومي الكلي الموجود بينه وبين العالم الكبير. فعليه يصعب الأمر من هذه الناحية أيضا، ومع ذلك أتى الله بنور وقرآن بليغ فصيح، يعترف به المعاندون الفاهمون، فضلا عن غيرهم.
شبهة
ربما يخطر بالبال أن يقال: إن التحدي بالإتيان بالمثل تحد بما يمتنع، لأنه إن كان ما يأتون به مثله، فيقول المدافع عن القرآن: إنه مأخوذ من القرآن - مثلا - إذا قلنا: " قل يا أيها الفاسقون: لا أصنع ما تصنعون، ولا أنتم صانعون ما أصنع، ولا أنا صانع ما صنعتم، لكم رأيكم ولي رأيي "، يقال: هذا مأخوذ من تركيب القرآن ومن هيئة السورة المعروفة، وإذا كان ما أتى به غير مماثل للقرآن، فلم يكن مثله، فلا يعارضه في التحدي وما تحدى به. أقول: قد اندفع في خلال ما أسمعناكم أمثال هذه الشبهات والتسويلات، ضرورة أن المماثلة موجودة في القرآن لما أن القرآن أتى مرة بقصة إبراهيم، ثم أتى بها ثانيا بتركيب آخر مماثل لما سبق في الفصاحة، ثم كرر ذلك إلى أن بلغ أحيانا إلى مائة مرة، فعليه يمكن المماثلة في البلاغة من غير أن يكون المماثل متأثرا في التأليف والتركيب بالقرآن، كما نشاهد ذلك في الأشعار والأنثار الاخر، فيأتي الشاعر المتأخر بشعر أحسن وأفصح من الشعر الأسبق على وجه لا يكون متأثرا به ومتخذا عنه.
1- المائدة (5): 15 - 16.
2- القصص (28): 88.
3- النور (24): 35.
4- المجادلة (58): 7.
5- الحديد (57): 3.
6- المؤمنون (23): 14.
7- الملك (68): 14.
8- الزمر (39): 23.
9- الشعراء (26): 193.
10- الواقعة (56): 64.
11- الصافات (37): 96.
12- الحشر (59): 23، 24.
13- النساء (4): 78.
14- القمر (54): 50.
15- الإسراء (17): 84.
16- البقرة (2): 156.
17- يس (36): 82.
18- النور (24): 35.
19- الحديد (57): 3.
20- البقرة (2): 115.
21- المؤمنون (23): 14.
22- النمل (27): 88.
23- ق (50): 15.
24- المرسلات (77): 25 و 26.
25- الرعد (13): 41.
26- النازعات (79): 30.
27- النازعات (79): 32.
28- النمل (27): 88.
29- المعارج (70): 40.
30- الرحمن (55): 33.
31- فصلت (41): 11.
32- الطلاق (65): 12.
33- الرعد (13): 17.
34- الإسراء (17): 44.
35- النور (24): 41.
36- فصلت (41): 21.
37- النمل (27): 16.
38- النمل (27): 18.
39- آل عمران (3): 30.
40- الزلزال (99): 7 - 8.
41- الهمزة (104): 6 - 7.
42- البقرة (2): 24.
43- المؤمنون (23): 100.
44- راجع الديوان المنسوب إلى الإمام علي (عليه السلام): 57.
45- انظر تفسير الميزان 1: 59 - 60.
46- راجع بحار الأنوار 15: 117 / 63، ومجمع البيان 4: 322.
47- الحشر (59): 21.
48- البقرة (2): 183.
49- النساء (4): 82.
50- الشورى (42): 52 - 53.
51- النور (24): 35.
52- القصص (28): 44.
53- مريم (19): 16.
54- الأعراف (7): 54.
55- الإسراء (17): 85.
56- راجع الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الطنطاوي 3: 173 - 179.
57- المائدة (5): 31.
58- الأبيات من الرودكي.
59- يس (36): 69.
60- الإسراء (17): 82.