الكلام في تحدي القرآن

حيث إن هذه المسألة من الغوامض العلمية، ومن عويصات المسائل المبتنية على تحرير بعض البحوث الحكمية والمباحث العالية، فلابد من أن نشير إلى مجموع ما هو المفهوم لنا في المقام في طي جهات عديدة راجيا من الله الإمداد، وسائلا منه تعالى الصيانة عن الخطاء والفساد.

الجهة الأولى: حول استناد القرآن إلى العلل الطولية إن من القوانين العامة الوجدانية، المشفوعة بالبراهين واللمس والإحساس، قانون العلية والمعلولية، فإن إنكار العلية النافذة والمعلولية السارية في العوالم العالية والدانية وفي زوايا الغيب والشهود، إما يرجع إلى القول بالجبر الباطل في محله بالعقل والنقل، أو إلى التفويض، ضرورة أنه إن قلنا: بأن العلية باطلة، فلازمه: إما حدوث الحوادث بلا علة، وهو خلف، أو أن يكون السبب الوحيد هو الله تعالى، وهو الجبر المستتبع لكونه تعالى ممكنا، ويرجع هذا إلى الأول كما لا يخفى على أهله. وإن قلنا: بأن كل شئ علة ذاتية تامة مستقلة لمعلوله فهو أيضا إنكار العلية، لأن لازم ذلك تعدد الوجوب الذاتي، المستلزم في النتيجة تعدد الإله، المستتبع لفساد العالم، فإنكار قانون العلية معناه إنكار ما هو الحق في معنى العلية في العالم. وما هو حقيقتها: أنه ليس الأشياء مستندة إلى عللها، إلا على معنى متوسط لا يلزم منه إهمال الوسائط، ولا إهمال المبدأ الأعلى، وهو معنى الأمر بين الأمرين الذي ورد عليه النص في مذهبنا الإمامي، ويساعد عليه البرهان القويم في حكمتنا العالية، ويشاهد بالمشاهدات العرفانية والمكاشفات الربانية. وبالجملة: لابد من انضمام القديم الأزلي إلى الحادث فيما لا يزال في حدوث الحادث، الذي هو بين أيدينا من الكائنات، ولكن ليس هذا الانضمام دون شأن الوجوب الذاتي، وفوق حد الممكن والفقير الحقيقي الربطي، ولا شق ثالث في أية زاوية تراها في العالم، ولا في خابية من الخبايا في الدنيا الآخرة. لا يعقل إهمال الواسطة، ولا حذف المبدأ وذي الواسطة، فتوهم: أن ناقة صالح مستندة إلى الإرادة الأزلية، وقصة وجود عيسى (عليه السلام) إلى العلة الأولى بلا توسط مبادئ العلية والمعلولية. وهكذا الكتب السماوية، ومنها القرآن العزيز، فإنها أيضا ذات علل طولية، أصلية وظلية، ذاتية وعرضية، كسائر الكتب التي بين أيدينا، من غير اختلاف في جزئي من جزئيات الأمور في هذا الناحية العامة الكلية، وفي هذا الناموس العام النافذ. ومن كان يتوهم خلاف ذلك فقد استأكل من الموائد الباطلة، وجلس على مطعم شيطاني، غافلا عن الحقائق، لاهيا بالأمور الإلهية، لاغيا في المسائل العلمية، غير وارد في الورد المورود، غير شارب من مشارب الرب الودود، مريدا تعظيم الخالق، ذاهلا عن التشبيه، معتقدا بالتنزيه، مشتبها في التسبيح، والله هو المستعان، وعليه التكلان. وفي المسألة " إن قلت قلتات " مذكورة في قواعدنا الحكمية. ولعمري إن حل المسألة من أغمض البحوث الفلسفية، التي لا يصل إليها إلا الأوحدي النادر جدا.

الجهة الثانية: الفرق بين القرآن وسائر التآليف على ضوء هذا النمط المشار إليه، لا معنى لأن يتوهم أن القرآن العزيز مخلوق الله تعالى بإرادة مستقلة في عرض خلق العالم، وأنه تعالى أراد خلق السماوات والأرض وأراد خلق القرآن العظيم في ما لا يزال، بل القرآن أمر تكويني وجزئي من جزئيات التكوين والعالم، ومنطو فيه انطواء سائر الأجزاء من العالم فيه، فهو يستند إليه تعالى كاستناد هذه الأسطر إليه تعالى بلا زيادة ونقيصة، فلابد من الفحص عما به يمتاز هذا التأليف الإلهي القيم عن سائر التآليف. وفي ذلك يتبين حقيقة الوحي والإلهام، ومعنى الملائكة العامة والخاصة، وهو أن اختلاف التآليف والأفعال حسنا وبهاء وصحة وسقما وبلاغة وفصاحة ومتانة وضياء، وغير ذلك من الاختلافات في جهات شتى، حسب المحتويات المتشتتة من المعارف العالية إلى القصص العادية، يرتبط باختلاف الوسائط في كيفية الاتصال بالمبدأ وفي كيفية الارتباط بالعلم الكلي والقدرة الكلية والإرادة الكلية وهكذا. فما كان أقوى ربطا وأشد صلة وأكثر تعلقا وأوسع وجودا، يكون فعله وأثره مسانخا معه، فإن السنخية من الأمور القطعية بين العلل الطبيعية والإلهية والمعاليل والمسببات، وهو المبرهن في الكتب والمستدل عليها في محالها بما لا مزيد عليها. (قل كل يعمل على شاكلته) (1). فبالجملة: حيث يكون النور الأحمدي والضياء المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر الثالث، فانيا بالفناءات الجزئية والكلية، باقيا ببقاء الوجوب الإلهي، ومسافرا بعد ذلك في السفر الرابع، قد تمكن من هذا السفر الإلهي القيم بوجود حقاني إلهي خارج عن حد الاعتدال، وداخل في زمرة الموجودات المتحققة بالوجوب التبعي الظلي، رافضا الوجوب الغيري، فيكون فعله فعله ويده يده ورجله رجله وإرادته إرادته وفكره فكره وحركته حركته، " ولا يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل، حتى أكون يده التي يبطش بها... " (2) إلى آخر الحديث الشريف، ففعله فعله وما يرتبط به ينتسب إليه، فيكون الكتاب كتاب الله، والفرقان قرآن الله، والقرآن فرقان الله بالضرورة.

الجهة الثالثة: حول استناد بعثة الأنبياء إلى الوسائط بعثة الأنبياء وبعثة الأطباء وبعثة المخترعين، وبعثة الناس إلى مفاعيلهم وأفاعيلهم وآثارهم وأفكارهم وإلى حركاتهم، كلها من سنخ واحد، كل ذلك بعثة وانبعاث من الغيب الأزلي، ولا يعقل إهمال إرادة الله في هذه المرحلة بالنسبة إلى جميع هذه البعثات، ولكن الشأن في اختلافها في حدود اختلاطها بالباطل وبتدخل القوى الغضبية والبهيمية والشيطنة فيها، فما كان وجوده حقا صرفا وقواه في الله وشيطانه آمن به، كما في الحديث: " شيطاني آمن بي " (3) تكون بعثته ما ترى في البعثة العامة الإلهية المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، واختلاف البعثات في هذه المرحلة أيضا ناشئ من اختلافهم في العيسوية والموسوية والمحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تحرر في محله. فما قد يتوهم: أن بعثهم - أي الأنبياء - يختلف عن سائر البعثات، فهو ناشئ عن الخلط بين العوالم والعلل، من غير التفات إلى تبعات هذا الأمر الغامض وهذه المسألة المشكلة جدا، ويرجع ذلك إلى تخيل الجزاف في حقه - تعالى وتقدس - كما لا يخفى على أهله. وغير خفي: أن الاختلاف المزبور أيضا مستند إلى الاختلاف في الموارد والقابليات والإمكانات والاستعدادات الموجبة لاختلافهم في كيفية الارتباط، والكيفية الموصلة والمورثة لاشتداد الربط وضعفه وقوة الوصل وفتوره. وما أشبه هذه المسألة بجزئيتها وكليتها بالأدوات الكهربائية، التي يكون اختلاف أفاعيلها حسنا وبهاء وقلة وكثرة، باختلاف سعة وجودها وكيفية ارتباطها، مع أن الكل مستند إلى الواحد، وهو الكهرباء، ولكن الآثار تختلف من جهات كثيرة لاختلاف الوسائط الصغيرة الحقيرة والكبيرة العظيمة، فإن الصناعة الكبيرة تستنير بوجه غير ما تستنير به الصغيرة منها كما ترى، فلا تخلط. فتحصل لحد الآن وبلغ إلى ميزان التحقيق وميقات التدقيق: أن تخيل نزول الملك العلام والجبريل التام - عليه آلاف التحية والسلام - على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو نبي من أنبياء الله، يكون على وجه الجزاف، من غير اقتضاء من ناحية المنزل عليه، ومن غير التماس منه، في غاية السقوط وبمعزل عن الصواب جدا. ولو صح ما توهموه لتوجه عليهم المشكلة التي لا تحل وهي: أن النبوة والرسالة والعلم بالأمور المحجوبة، والاقتدار على الحوادث الخارقة للعادة، لا يعد شأنا لهم، كما قال الشاعر الفارسي الجاهل: گر وحى به پشه أي رساند صد مرتبه بيشتر بداند وذلك لتوهمه أن نزول جبريل على الأنبياء والرسل بإرادة الله تعالى، من غير حاجة إلى الأسباب والمسببات، وإلى الشرائط والمعدات، مع أنه واضح المنع والامتناع، فنزول الملائكة لسنخية يحصل من كد اليمين وعرق الجبين، ومن الرياضات النفسانية والارتياضات الروحية والجسمية على شرائطها الكثيرة، مع صعوبة تحملها والتحقق بها، كما لا يخفى على أهلها.

الجهة الرابعة: حول خاتمية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بأس بالإشارة إلى أن مسألة خاتمية نبي الإسلام أيضا، ليست إلا كسائر المسائل التي ترجع إلى قصور عللها وفتور مقتضياتها، ولا معنى لكونها مورد الإرادة الخاصة، فأصل التصدي للرسالة والخاتمية كله من شؤون العالم كسائر شؤون العالم، ويرجع إلى وجود اجتماع سلسلة من العلل وإلى فقد تلك الشرائط اللازمة، من غير أن يخصص الغيب شخصا لذلك، أو يمنع شخصا عنه، وفيض الله تعالى في جميع الأحيان والأزمان عام مطلق، وإنما اللازم كسب الإمكانات الاستعدادية التي لا تحصل إلا للأوحديين الذين في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة والذين شدوا نطاقهم في الليالي السرمدة المستمرة والأيام الصائمة الدائمة. وعلى هذا لا يأتي بعد رسول الإسلام رسول ولا نبي في هذا القطر من العالم الكلي وفي هذا النظام الشمسي، من غير أن يمتنع على كل إنسان إلا بالغير، وبعدم قابلية القابل، من غير قصور في فاعلية الفاعل، وفتور في الفيض الإلهي والرحمة الرحيمية والرحمانية. ولا يأتي بعد ذلك كتاب مثل هذا الكتاب من نبي مثله، من غير أن ينسد بابه بالسدود الخاصة الإلهية، بل الانسداد منتسب إلى الفتور المشاهد في الآباء والأبناء والأمهات والأشخاص، ضرورة أن تحصيل القابلية التامة العامة ممكن لظهور الصورة الإلهية الكلية في هذه النشأة مرارا، ولكن لا يشدون نطاقهم ولا يهتمون بأمرهم ولا يعتنون بذلك، لانحراف طريقهم عن المستقيم وصراط الله العزيز الحميد، ولاحتجاب فطرتهم المخمورة بالحجب الظلمانية والشهوات الحيوانية واللذائذ النفسانية. وإلى هذه الطريقة العقلية واللطيفة العرفانية، يشير أحيانا قوله تعالى: (لا يأتون بمثله) (4)، من غير أن يستندهم إلى العجز وعدم الإمكان والامتناع، ولا يستند إلى منع الفواعل الإلهية عن ذلك، بل الأمر مستند إلى عدم اهتمامهم على الوجه الصحيح، وعدم قيامهم لذلك بالطريقة الصحيحة فيخبر وينبئ عن أنهم (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، لأن لكل شئ سببا وعلة تخص به، وتكون بينه وبين علته سنخية خاصة، ومجرد اجتماع الناس لا يكفي، فلو كان بعضهم لبعض ظهيرا في إنزال المطر لا يأتون به، لأن سبب هذا الأمر ليس ما توهموه، بل السبب والعلة ما عرفت، من تحصيل المادة الصافية الخالصة المطهرة القابلة الكاملة فيها، فإنه عندها ينزل من السماء الإلهية كتاب ربما يكون أحسن مما في أيدينا أضعافا مضاعفة، لعدم تحدد الفصاحة والبلاغة، وأن الكيفيات تتحمل الاشتداد بغير نهاية، كما تحرر في محله، ولذلك تختلف السور القرآنية في الفصاحة والبلاغة، وفي الأدب والفخامة والعظمة.

الجهة الخامسة: حول واسطة الوحي بحمد الله وله الشكر تبين: أن حديث إعجاز القرآن وأن القرآن معجز خالد، من الأباطيل إذا أريد من الإعجاز والتعجيز الامتناع الذاتي أو الامتناع الغيري. وإن أريد منه التعجيز بمعنى قصور المقتضيات عن نزول مثله، وعن الإتيان بشبهه، لعدم القابلية اللازمة في نزول هذه الصور والمعاني والتراكيب المشحونة بأحسن البلاغة والفصاحة، فهو حق صرف. وبالجملة: إن نزول الفيض الإلهي بالوسائط الموجودة المسماة أحيانا - بمناسبة - بجبريل، أو بالملائكة الكذائية، أو بالعقول الفلانية، أو بغير ذلك. وبالجملة: نزول الفيوضات يختلف ويتحدد من قبل القوابل، فمن كان فيه استعداد قبول الصورة المركبة الشعرية، أو النثرية المسماة ب? " نهج البلاغة " أو " الصحيفة السجادية "، فينزل إليه من الغيب تلك الصورة، ومن فيه الاستعداد والقابلية الكذائية ينزل إليه القرآن العزيز، وتلك الصورة الكاملة التي هي صورة العلم الأزلي. فما اشتهر: من أن هناك إنسانا يسمى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصا أجنبيا عنه متصل الوجود به وواسطة بينه وبين الله تعالى حتى يكون بين الرسول وبينه تعالى الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، فهو بمعزل عن الذي ندركه ونشاهده في طريقة العالم صدرا وذيلا، بل الجبرئيلة وأمثالها معان كلية سعية، لا كلية مفهومية، وليست ذات صوت الذي لا يحصل إلا من القرع أو القمع. نعم له صوت كصوت نسمعه في النوم، وهو لا يحصل إلا بشرائطه، ولا يشاهده الإنسان إلا نحوا خاصا من الشهود محرر في محله، وخارج تفصيله عن الكتاب، ولنعم ما يقول الشاعر الفارسي في هذا المقام وأشباهه: من گنگ خواب ديده عالم تمام كر من عاجزم ز گفتن وخلق از شنيدنش (5)

الجهة السادسة: حول استناد القرآن إليه تعالى ربما يتوهم: أن مقتضى هذا التقريب انتساب جميع الكتب إليه تعالى، الضالة وغير الضالة، كتب الأنبياء وغيرهم، وعدم صحة انتساب القرآن إليه تعالى بوجه، كما لا يصح بذلك الوجه نسبة هذه الأسطر إليه تعالى، فما الفرق بين الكتاب الإلهي وكتب الأنبياء وسائر الكتب؟أقول: قد أشرنا في خلال البحوث السابقة إلى حل هذه المعضلة، وقد فصلنا تحقيقه في كتابنا " القواعد الحكمية ". وإجماله: أن من شرائط نزول أمثال الكتب السماوية تعين الإنسان بالشؤون الإلهية، وتحققه في سفراته الثلاثة بالوجود الحقاني، الفاني فيه جميع التعينات البشرية، والخالع نعال الحكمة العملية والعلمية وجلباب البشرية، والواصل إلى مبدأ القوس النزولي، فيصير على هذا جميع حركاته وسكناته ربانية وإلهية، ويكون مصداقا للحديث المشهور: " لا يزال يتقرب إلي عبدي بالنوافل حتى أكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به... " (6) إلى آخره، فإذا كان كذلك فأفعاله فعله، وأفكاره وعلومه علمه، وقدرته قدرته، فلا يأتي بشئ إلا هو أقوى نسبة إلى الله تعالى منه، وعندئذ يكون كلامه كلام الله، وكتابه كتاب الله تعالى، خاليا عن جميع الأوهام والشوائب، فارغا عن كلية المناقضات والأضداد (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (7) وربما يشعر قوله تعالى: (عند غير الله) بهذه المقالة، فإن الكتاب من الله ولله، غير كون الكتاب من عند الله. وبالجملة: لا تحتاج المسألة إلى الأدلة اللفظية والاستظهارات اللغوية، لأن الحقائق الحكمية والرقائق العرفانية والشقائق الإيمانية، من الإطلاقات العرفية والاستعمالات البدوية، والله يعصمنا من الخطاء والزلل.

الجهة السابعة: حول البرهان اللمي على عدم الإتيان بمثل القرآن بناء على ما تحرر منا في هذه الصحائف، يكون قصور عائلة البشر وضعف الموجودين في أقطار العالم، من الجن والإنس وما في عرضهما من الملائكة، ويكون عجز بني آدم وفتور الأول إلى الخاتم مقتضى البرهان اللمي، من غير حاجة إلى إقامة البراهين الإنية، فكون القرآن في وجوده مشروطا بالتحقق بتلك الشرائط الخاصة، يمنع عن تحقق تلك الشرائط في وجود أحد حتى يتمكن من أن يأتي بمثله، فإن الإيتاء بمثله والإتيان بمشابهه، مشروط بشرائط غير حاصلة في سلسلة الأسباب والعلل، فيكون البشر عاجزا قهرا ومن الأزل، ويكون نداء القرآن بأن يأتوا بمثله، و (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، ناشئا عن فقدان شرائط نزول مثله على قلب بشر آخر وإنسان متأخر. وحيث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أن حصول ذلك وأمثاله لغيره، مشروط بالرياضات الكذائية والتدليات والتقربات والأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة والقلوب النيرة والأرواح الطاهرة، والكل منها فاقدة، ينادي بأعلى صوته وبأرفع الصيحة وبأجلى العاصفة وبأرقى الحماسة والشجاعة: (فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين). فما ترى في كتب القوم من الخلاف في جهة إعجاز القرآن، وأنه هل هو في نظام جمله أو بلاغة وفصاحة مفرداته وألفاظه الخاصة، أو هو في نظام نزوله واشتماله على الحقائق العرفانية والحكمية، أو على النظام السياسي المدني والقطري، أو على الأحكام الفردية والاجتماعية، أو في الكل إعجاز وغلبة وقهر وتحد، فكله غفلة عن حقيقة الحال وذهول عن أساس المقام، فإن التشبث بهذه الأمور من التشبث والتمسك بالبراهين الإنية على الذي قام عليه البرهان اللمي، وما عليه البرهان اللمي لا يحتاج إلى الإني. فعليك بالفحص والبحث عن مبادئ هذا النحو من التنزيل وعليك بالتأمل والتدبر في الأسباب المنتهي إلى هذا الحادث الغريب العجيب، الذي يخضع لديه كل مفكر متدبر وكل مخترع مبتكر وكل ذي عقل عال وذي عمل غال، وأما النظر إلى محتويات هذا السفر القيم، ولو كان حسنا ومفيدا وموجبا للتحير والاعتراف بالعجز والفتور، إلا أن ذلك النظر أكثر عجبا وأشد وطءا وأقوم قيلا. فإن الأشخاص المدعين الإتيان بمثله سلفا وخلفا، لأجل ذهولهم عن الشرائط والمعدات والمقارنات والإمكانات القديمة الدخيلة في حصول هذا النزول، تصدوا لأمرهم الفاسد الفاشل، وأما لو كانوا يقيسون أحوالهم الشخصية وعشرتهم القومية بأحواله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشرته، ولو كانوا يتدبرون في تأريخ حياته الفردية وأفكاره وأعماله القيمة وأمانته وصلابته ويقيسونها بتأريخ حياتهم وكيفية حشرهم وفعلهم وأعمالهم، ولو كانوا يلاحظون تأريخ عشرة آبائه وأمهاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتدبرون في ما عندهم، لما قالوا بما فضحوا به أنفسهم، ولما نهضوا بما استحيوا به وأخجلوا وراثهم وكيانهم، ولا ترنموا بتلك الجمل والسور المضحكة الأضحوكة، فكل هذه الاشتباهات والغفلات ناشئة عن أمر واحد، وهو أن الإنسان يغتر بما عنده، ولا يقف على أن يعرف نفسه، ويذعن بما عنده من الاختلاف الكثير الموجود بينه وبين أقرانه وبني نوعه وأمثاله، بعد اشتراك الكل في القطرة والمادة والقابلية والهيولي الأولى. فذلكة الكلام وخلاصة الرأي في المقام: أن هناك شبهة: وهي أن القول بأن تحصيل الشرائط المختلفة التكوينية الدخيلة في الإتيان بمثل القرآن، لا يمكن إلا لنبي الإسلام والرسول الأعظم الإلهي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليس إلا مجرد دعوى، فلابد من انضمام البينة والبرهان إليها، وهو إقامة البرهان الإني على أن القرآن أمر يحتاج في تأليفه وإحداثه إلى تلك الشرائط، فلابد من الأخذ بطريقة القوم، وهي بيان كون الكتاب الموجود بين يدي الإنسان خارق العادة، وخارجا عن القدرة العادية، حتى ينتقل الفكر بعد ذلك إلى التدبر في الأسباب والشرائط الطبيعية والتكوينية، المنتهية إلى هذا السفر القيم والكتاب المبين، ولأجل ذلك فلابد من إفادة هذا الأمر وإقامة الوجوه الناهضة على إعجاز القرآن وكونه معجزة ثم على أنها معجزة خالدة.


1- الإسراء (17): 84.

2- راجع الكافي 2: 263 / 8، والتوحيد: 400 / 1، وعوالي اللآلي 4: 103 / 152، ومسند أحمد 6: 256.

3- راجع عوالي اللآلي 4: 97 / 136، ومسند أحمد 1: 257، وصحيح مسلم 2: 632 / 2814.

4- الإسراء (17): 88.

5- منسوب إلى ديوان الشمس التبريزي.

6- مر تخريجه ذيل الجهة الثانية، انظر الكافي 2: 263 / 8.

7- النساء (4): 82.