بعض المسائل الفقهية

حول وحدة بعض السور: قضية هذه الآية هو أن المتحدي به كل سورة من السور الموجودة بين الدفتين، وتلك السور - حسب التبادر في محيط الإسلام - هي التي فصلت بالبسملة، ولو كان بين صدر سورة وآخر سورة ربط خاص، فعليه لا تكون سورة " الضحى " و " ألم نشرح " سورة واحدة، وهكذا " الفيل " و " الإيلاف " كما ذهب إليه جملة من أصحابنا المتأخرين (1). ويشهد لذلك: أنه لو كان عدو الإسلام يأتي بسورة مثل إحدى السور الأربع لكان غالبا. ولو أجيب: بأنها جزء السورة، فلا يسمع قطعا في محيط المخاصمة والمغالبة والتحدي، وإلا يلزم ما لا يصح الالتزام به، كما لا يخفى. ويؤيده - مضافا إلى ما مر والاغتراس الذهني - ما رواه العياشي عن المفضل بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة إلا الضحى، وألم نشرح، وألم تر كيف، ولإيلاف " (2)، فإن الاستثناء دليل على التعدد، وحمله على الانقطاع خلاف الأصل. وأما ما في جمع من أخبارنا غير المسندة (3)، فهو لا يدل على الوحدة الواقعية، لإمكان كونها واحدة بحسب الحكم، وهذا أمر كثير الدور في الاستعمالات في محيط التقنين والتشريع، وبذلك يجمع بين الطوائف المختلفة من المآثير، لو كانت منجبرة بذهاب طائفة من الأصحاب الأقدمين، كالصدوق في " اعتقاداته " (4) و " الأمالي " (5) و " الفقيه " (6) والسيد في " الانتصار " (7) بل مطلقا والمفيد (8) والشيخ في " النهاية " (9) و " التهذيب " (10) و " الاستبصار " (11) بل مطلقا، وهو مختار المحقق (12) والعلامة (13)، وعليه نقل الشهرات المحققة والإجماعات المنقولة. وبالجملة: بعد كون النسبة وسند الفتوى نفس هذه الأخبار، يكون مقتضى الجمع، هو الالتزام بتعددهما الواقعي وترتيب آثار الوحدة في الصلاة وفيما إذا نذر أن يقرأ سورة واحدة وغير ذلك، وأما فيما نحن فيه - وهي مسألة التحدي - فلا. وأما ذهاب الأخفش والزجاج إلى الوحدة، لتعلق الآية الأولى من السورتين الثانيتين بالآية الأخيرة في السورة الأولتين (14)، فهو لا يهمنا، وتفصيله في محله إن شاء الله تعالى. وأسخف من ذلك: عدم فصلهما بالبسملة في مصحف أبي بن كعب (15)، لخلو المصاحف السابقة عن بعض السور، كالفاتحة والمعوذتين، ولو كان في ذلك شهادة على شئ للزم ما لا ينبغي الالتزام به. وبناء على ما سلكناه يظهر ما في مذهب القدماء والمتأخرين - رأيا وسلوكا - ولاتصل نوبة البحث إلى التشبث بمخالفة العامة، مع أن حديث الترجيح بمخالفة العامة، أو التمييز بها - على اختلاف القولين في محله - لا محل له هنا، لأن العامة لا يقولون بشئ، وليسوا متعرضين للمسألة خصوصا، حتى يتوهم صدور خبر التعدد لأجل التقية، كما هو الظاهر، فليتأمل، واغتنم.

مسألة: حول الاستمداد من غير الله يستظهر من هذه الآية جواز دعاء غير الله تعالى، والاستعانة بغير الله تعالى، والاستمداد من الكفار الملحدين، فضلا عن المسلمين والمؤمنين والأنبياء والمرسلين. اللهم إلا أن يقال: إن الآية - أولا - تختص بهم، وهذا لا ينافي ممنوعية المسلمين من دعاء غير الله. وثانيا: إن الأظهر هو يدعوهم إلى دعوتهم الشهداء من غير الله، وهو أصنامهم وأوثانهم، كما مر تقريبه منا، فلا تكون بصدد الجد وتجويز دعوة غير الله، لأنه بالاستهزاء أو بتوجيههم إلى فساد مسلكهم ومكتبهم أقرب من الواقعية، ولو كان يمكن حصول الجد لتوهمهم إمكان دعوة الأوثان ومعاونتهم في أمرهم، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز بعثهم إلى إشهاد شهدائهم، وطلب ذلك من غير الله تعالى.

مسألة: السجود على الأحجار المعدنية اختلفوا في جواز السجدة على الأحجار المعدنية على قولين: فعن المشهور ممنوعيته، لخروجها عن الأرض، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (16)، وقيل يصدق عليها، واشتهر التعبير عنها بالأحجار الكريمة. ويؤيد الأخير: إطلاق الحجارة في هذه الآية على الحجر الخاص القيمي، وهو حجر الكبريت كما عن ابن مسعود وابن عباس (17)، ويشهد له قوله تعالى: (وقودها)، فإنه يناسب ذلك. وقيل: في الإتيان بالألف واللام أيضا إشعار بخصوصية للحجر. والله العالم. والذي هو الحق: أن حجر الكبريت لا يخرج عن صورة الأرض، بخلاف الأحجار الكريمة، وقد تحرر في محله: أن الاستعمال أعم من الحقيقة. هذا، وحجية قول ابن عباس وأمثاله ممنوعة، مع قوة احتمال كون المراد من الحجارة معناها الكنائي والاستعاري، وهي قلوب طائفة من الناس، فإن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة. وما قيل: إن حجر الكبريت فيه خمس خصائص: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت (18)، فتكون خارجة عن وجه الأرض. غير سديد، لأن صورته الظاهرة صورة أرضية، فتدبر.


1- المراد به المحقق الحلي وبعض المتأخرين عنه، انظر مستمسك العروة الوثقى 6: 176.

2- راجع مجمع البيان 10: 544، ووسائل الشيعة 4: 743 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 10، الحديث 4.

3- راجع مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 7.

4- راجع رسالة الاعتقادات، الصدوق: 93.

5- راجع الأمالي، الصدوق: 642، المجلس الثالث والتسعون.

6- راجع الفقيه 1: 200 / 7.

7- راجع الانتصار: 44.

8- لم نعثر على هذا القول للمفيد (قدس سره).

9- راجع النهاية، الطوسي: 77 - 78.

10- راجع تهذيب الأحكام 2: 72 / 32.

11- راجع الاستبصار 1: 317 / 4.

12- راجع شرائع الإسلام 1: 66.

13- راجع تحرير الأحكام، العلامة: 39، وتذكرة الفقهاء 1: 116، ونهاية الإحكام 1: 468.

14- راجع مجمع البيان 10: 828، والبحر المحيط 8: 513.

15- راجع الكشاف 4: 801، والجامع لأحكام القرآن 20: 200، والإتقان في علوم القرآن 1: 228.

16- راجع الخصال 1: 220 / 14 و 324 / 56، ومسند أحمد 5: 145، وصحيح البخاري 1: 91 / 2.

17- راجع تفسير الطبري 1: 169، وتفسير ابن كثير 1: 107.

18- الجامع لأحكام القرآن 1: 235.