وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول المناسبة بين الآيات بعد الفراغ عن إقامة الحجة على لزوم التوحيد العبادي، وبعد ذكر المرجحات والمنبهات على لزوم ترك عبادة الأنداد وترك اتخاذ غير الله تعالى، شرع في إقامة الدليل والبرهان على النبوة الخاصة التي إذا ثبتت لا تمس الحاجة إلى النبوة العامة. ومن هذه المناسبة الظاهرة بين الآيتين السابقتين وهاتين الآيتين، يتبين تأريخ النزول أيضا، وأن هذه الآية وما بعدها مدنية، كسائر آيات هذه السورة إلا ما مر. وربما يخطر بالبال: أن هاتين الآيتين بصدد إثبات الأمر السابق والتوحيد العبادي، فإن الآيات السابقة تدل على صدق دعوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصحة توجيههم إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام، ولكن هذه الدلالة كانت في نظر المشركين والكفار مورد المناقشة والخدشة، فأقام الله تعالى عليهم الدليل على أن تلك الآيات من الله لا من غيره. فما في كتب التفسير سلفا وخلفا من: أن الآيات السابقة أقيمت على التوحيد، وهذه الآيات على النبوة غير واضح جدا. وبعبارة أخرى: تلك الآيات كانت تدل على صدق النبوة والدعوة بالحمل الشائع، وصحة ما يدعوهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه، وهو عبادة الله تعالى وترك الأنداد والأضداد، وهذه الآيات تدل أيضا بالحمل الشائع على النبوة، إلا أنها جئ بها لإفادة أن ما يدعوهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه هو الحق وأن ما يعبدونه هو الباطل. وإن شئت قلت: قد جمع في هاتين الأخيرتين بين أمرين: أحدهما: إثبات لزوم كون العبادة لله، ضرورة أن الآيات - الآمرة به والناهية عن جعل الند له - من قبل الله تعالى، بشهادة عجزهم عن الإتيان بمثلها. ثانيهما: إثبات النبوة الخاصة طبعا بعد ثبوت الأمر الأول، نظرا إلى انضمام ذلك إلى دعواه (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة وإلا فالآية أجنبية عن إثبات نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لقوله تعالى: (مما نزلنا على عبدنا) وكأن الرسالة والنبوة ليست مورد النظر، ولو كان الناس يؤمنون بالله وبكتبه، وبأن هذه الكتب نزلت على فلان، لكفى في نجاحهم، وأما الإقرار بأمر آخر، وهو عنوان الرسالة، فهو أمر قهري الحصول غير لازم الاعتراف به، وتفصيله في محله إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: حول الهداية بالكلام المناسب مقتضى أدب المحاورة والمحاجة إلقاء الكلام على وجه يرغب الخصم في الهداية والحقيقة، ولأجل ذلك يمكن أن يقال: بأن الشروع في الحوار كان بنحو القضية الشرطية مع اشتمالها على كلمة " إن " الموضوعة - حسب كثير من موارد الاستعمال، وتنصيص بعض أهل الأدب - للشك والتردد وتدل على أن المتكلم شاك في أن متلوها يتحقق أم لا، مع أن الأمر ليس كذلك بالضرورة، فعلى هذا تنبه الآية على كيفية البحث مع الخصم ولزوم المراعاة والرأفة وأخذ جانب اللين والمماشاة جدا. فالآية الشريفة أخذت من ناحيتين هذه السبيل: من ناحية الإتيان بالقضية الشرطية، ولا تحكم عليهم بالبت والإلزام، ومن ناحية إعلام الشك وإيجاد احتمال كونهم صادقين في دعواهم الريب، وفي كونهم عاملين أعمال المرتابين، ولأجل ذلك افترض في الآية ريبهم وشكهم فيما نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن هنا يظهر سقوط ما في كثير من التفاسير من كون " إن " للتوبيخ والتثريب، أو أنها بمعنى " إذا " وأن الإتيان بأداة الشك كان لأجل الغلبة، لا اشتراك الشاك والعالم، أو لغير هذه الجهات، ضرورة أن هنا مسألتين لا ينبغي الخلط بينهما: الأولى: أن مقتضى الأداة " إن " كون المتكلم شاكا فيما يتلوها، وهو الشرط بحسب التحقق وعدمه، وهذا مما لا ينبغي بالقياس إليه تعالى. ثانيتهما: أن كلمة " الريب " مجرد فرض في القضية الشرطية، وإلا فهم غير مرتابين فيما نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد وقع الخلط بين المسألتين. والذي هو الحق: أن المسألة الأولى تنحل بما مر من أن أدب المخاصمة والمحاجة يقتضي ذلك، فيكون من المجاز الشائع في الكتاب وغيره، بناء على تسليم الدعوى المزبورة، الراجعة إلى اختلاف " لو " و " إن " و " إذا " في الدلالة على الأزيد من الشرط، وتفصيله مر فيما سلف. وأما المسألة الثانية فهي مضافا إلى ذلك، تنحل بأن هذه التحديات لا تختص بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، بل القرآن في كل ساعة وعصر وكل ضيعة ومصر، ينادي بأعلى صوته: أن ائتوا بهذا القرآن ولو كنتم بعضكم لبعض ظهيرا، فلو كانت الجماعة القليلون والشرذمة الباتون شاكين ومرتابين، فهي لا تضر بالفرض المزبور، كما لا يخفى. ومن هنا يظهر أيضا ضعف قول القائل: بأن أداة الشرط ولو كانت تقتضي انقلاب الماضي مضارعا إلا أنها يستثنى منها مادة " كون " فإنها متوغلة في المضي، ولا تنقلب، ولذلك أتى بها هنا، لأنهم كانوا شاكين في مسألة النبوة (1). وغير خفي: أن هذه المقالة فيها جهات من المناقشة الكاشفة عن عدم تدرب صاحبها في فنون الأدب، ضرورة أن الانقلاب المزبور يستلزم كون هيئة الماضي ذات وضعين: وضع إفرادي، ووضع تركيبي، وهذا باطل بالضرورة ولذلك ذهب جمع من الأصوليين إلى خلو الأفعال عن الدلالة على الأزمان، وأن الزمان يستفاد من القرائن بعد الاستعمال. والحق أن دلالة الفعل الماضي على المضي قوية جدا، بخلاف المضارع على الاستقبال. وتفصيله مضى في هذا الكتاب وفي تحريراتنا الأصولية (2)، وأن " إن " الشرطية وسائر أخواتها لا توجب الانقلاب، بل هيئة الماضي تدل على المضي، ولا يكون دالا على بقاء الحدث أو زواله، وغاية ما يدل عليه هو حصول الحدث في العصر السابق، فإذا قيل: " ضرب زيد " تدل الهيئة على وقوع الضرب في الماضي، وأما زواله فهو أمر يستفاد من جهة خارجية، كذلك إذا قيل: " علم زيد " إلا أنه يستفاد البقاء لمادة العلم من جهة خارجية مخصوصة بذات المادة. فعليه إذا دخلت أدوات الشرط على الماضي، فلأجل القضية الشرطية يستفاد الماضي الاستمراري، أي أن الحدث السابق باق إلى زمان الخطاب والكلام، فما وقع فيه النحاة وأهل الأدب، بل والأصوليون، كله ضعيف عندنا. وللمسألة مقام آخر وشواهد اخر تطلب من محاله. ثم إن هيئة مادة الكون متحد الوضع مع سائر المواد، وليست مادة الكون دالة على الماضي حتى تكون متوغلة فيه، ولو استدل بهذه الكريمة على مدعاه فقد عرفت ما فيه، فإن الخطاب عام يشمل عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأعصار. والله الهادي إلى الصواب.

الوجه الثالث: حول الإتيان بتعبير " التنزيل " قد مر منا بعض البحث في مادة النزول، وذكرنا أن هذه المادة لازمة يتعدى تارة بهمزة باب الإفعال، وأخرى بتضعيف باب التفعيل، وأما ما قد يقال: بأن الإنزال هو الدفع والتنزيل هو التدريج (3)، أو قيل - كما عن الزمخشري -: بأن التنزيل يكون تدريجيا والإنزال أعم منه (4)، فهو كلام خارج عن حد اللغة وتصريحات اللغويين. ومجرد ذهاب مثل الفيروزآبادي في كتابه " البصائر " (5) والراغب في " المفردات " (6) لا يكفي لكون المسألة لغوية، ولذلك ترى أن البحث سرى من كتب التفسير إلى الكتب اللغوية، قال في " التاج ". وفرق جماعة من أرباب التحقيق بينهما، فقالوا: التنزيل تدريجي والإنزال دفعي، كما في أكثر الحواشي الكشافية والبيضاوية ولما ورد استعمال التنزيل في الدفعي زعم أقوام أن التفرقة أكثرية وأن التنزيل يكون في الدفعي أيضا، وهو مبسوط في مواضع من " عناية القاضي " (7). انتهى. فبالجملة: ما هو الحق أن اللغة فارغة عن هذا، وما يظهر من الزمخشري: أن هيئة باب التفعيل للتكثير، ولازمه التنجيم هنا والنزول تدريجا (8)، من الغفلة عن حقيقة الحال، فإن قولهم: قطعت الحبل ولو كان معناه جعلته قطعا كثيرة، ولكن لا يستلزم كون التقطيع كثيرا، لإمكان حصول القطعات الكثيرة مرة واحدة. ومن هنا يظهر ما في " بحر " ابن حيان أيضا (9) مع تبحره في فنه، فإن التكثير عنده يخص بما إذا كان الفعل متعديا في ذاته، فإذا دخله التضعيف يدل على التكثير، كقولهم: جرحت زيدا، ولا يأتي في مثل " النزول " الذي هو لازم، وأنت خبير بأن دلالتها على التكثير ليست بمعنى نزول السور والآيات نجوما، بل تدل على اعتبار الفصل بينها والقطع بين السور بالبسملة ونحوها. فبالجملة: تحصل أجنبية هذه المسألة عن اللغة والدلالة الوضعية. مع أن لازم ما قيل هو تأويل قوله تعالى: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) (10)، كما لا يخفى. أقول: لأحد دعوى: أن القرآن اصطلح ذلك، وهذا بحسب الكبرى مما لا بأس به، لأنه كتاب فيه اصطلاحات أحيانا، ونحتاج لفهمها إلى التدبر في الآيات، نظرا إلى عناية الكتاب بخصوصيات يشير إليها بهذه الأمور، إلا أنه مع الأسف بعد الرجوع إلى الآيات وجدنا أن ذلك أيضا مما لا يمكن إثباته، بل الظاهر خلافه، وذلك لاستعمال الإنزال والتنزيل بالنسبة إلى الأمر الواحد في كثير من الآيات، فمنه: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) (11)، (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب) (12)، (وأنزل معهم الكتاب بالحق) (13)، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) (14)، (من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) (15)، (إنا نحن نزلنا الذكر) (16) (وأنزلنا إليك الذكر) (17)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله) في مواضع ثلاثة (18)، فإن النظر ليس إلى جملة القرآن، (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (19)، (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) (20)، ويشهد على من يتوهم اختصاص التنزيل بالتدريج، قوله تعالى: (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) (21)، كما مر، وما في " مفردات الراغب " (22) وغيرها من ذكر بعض المحاسن، أجنبي عن هذه الجهة، فلتتدبر تعرف.

الوجه الرابع: حول انتساب التنزيل إليه تعالى في انتساب التنزيل إليه تعالى في هذه الآية المتحدي بها، والمستدل بها على المسائل الخلافية في عصر النزول، من عبادة غيره تعالى والشك في نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كمال البلاغة، وفيه تشميخ الكتاب وتعظيم الفرقان وتفخيم القرآن بآياته وسوره، وأنه من الله تعالى، ولا يليق بغير حضرته، وفي الإتيان بكلمة " عبدنا " أيضا نهاية الفصاحة واللطف، حيث أمر الله تعالى الناس بعبادته، وقد مر أن الآية دليل على لزوم عبادته عقلا، وممنوعية عبادة غيره، فالمناسبة القطعية تقتضي ذلك، ويشعر مع ذلك بأنه عبدنا، لا عبد الأوثان والأصنام. وحيث إن المقام مقام إبراز الجلال والجمال والكمال، وإرغام لأنف الأعداء والخصماء، ناسب تفخيم الضمير بقوله: (مما نزلنا على عبدنا)، مع أن التنزيل ربما ينسب إلى الروح الأمين (نزل به الروح الأمين على قلبك) (23)، ولعل اختيار التفعيل على الإفعال في مادة " نزل " أيضا يناسب هذا المقام. ومن ناحية أخرى: أن الأنسب أن يدعوهم إلى أن يأتوا بما هو أقل قليل في ذات القرآن، ولو كان أكثر كثير بالقياس إلى المعاندين، المدعين: أنه ليس بشئ عجيب يعجز عنه البشر، ويخضع له الإنسان، ولذلك دعاهم إلى أن يأتوا بسورة، وهي ثلاث آيات، ولا يدعوهم هنا أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور مفتريات حتى يتوهموا أنه شئ كثير خارج عن قدرتهم لكثرته. ومن ناحية ثالثة: أرشدهم إلى أن يتخذوا المعاونين والشاهدين المؤيدين والناصرين لهم المحركين إياهم إلى الشرك والإلحاد والإنكار، وكأنه يستفاد من الآية أنهم طائفتان: إحداهما تظهر للمقابلة معه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأخرى تعينهم بالغيب ومن وراء الحجاب، ويؤيد هذه الصفوف المختلفة ما مر في قوله تعالى: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، وقد مر تحقيقه في محله. فبالجملة: هذه الآية اشتملت على جهات الأدب في المخاصمة والمحاجة، كما أنها مشتملة على نكات الفصاحة والبلاغة، مع رعاية جميع الجهات المنتهية إلى ضعفهم وفتورهم عن تمكنهم من الإتيان بمثل سورة الكوثر ونحوها، فضلا عن مثل سورة البقرة وأمثالها. ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) أيضا سيق لإفادة أن كذبهم غير واضح وعجزهم غير قطعي، ويحتمل صدقهم في دعواهم الريب، وتخيلهم إمكان الاقتدار على الإتيان بمثله، ولا يواجههم بغلظة وشدة حتى يحركهم إلى التوغل في عقائدهم الباطلة، فإنه خروج عن الإرشاد والهداية المطلوبين من القرآن العزيز والنبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكن - أيها القارئ - مثله في دعوتك. ثم إنه بعد مفروضية عجزهم لم يواجههم أيضا إلا بالقضية الشرطية الأخرى (فإن لم تفعلوا) حتى تكون الهداية أرفق والإرشاد أليق، ولأجل المحافظة على هذه النكت قال: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين)، ولم يقل: فاتقوا النار التي وقودها أنتم وآباؤكم واعدت لكم أن كنتم كافرين، فإن في هذه المخاطبة تبعيدا للمسافة وتشميتا للنفوس التي لا تتحمل هذه الأمور، فتقع فيما لا يعنيه القرآن ولا منزله تعالى وتقدس. وأما قوله تعالى: (ولن تفعلوا) فقد جئ به بنحو الجمل الاعتراضية، وفيه من اللطافة ما لا يخفى، ضرورة أن الإنسان بعدما يجد ضعفه وعجزه عن أمر، يحصل في نفسه الإقرار الابتدائي بذلك العجز، ثم بعد ذلك يشرع القوى الشيطانية في إيجاد الوسوسة وخلق الوهم، وأنه يقتدر عليه بعد ذلك، وأن هذا ليس أمرا عظيما، بل هو كذا وكذا، وعندئذ وحين ذاك لابد للخطيب البليغ توجيه الأمة إلى الحق، بتذكيرهم بعجزهم الدائم، ولزوم رفضهم هذه التخيلات والأوهام، مع رعاية الاختصار، حتى لا يقع في نفوسهم إلا اللطف والمحبة والرأفة والشفقة، ليكونوا من الخاضعين والراكعين له تعالى.

الوجه الخامس: حول عدم دلالة الآية على التعجيز قد اشتهر بين النحاة والأصوليين: أن هيئة الأمر قد تأتي للتعجيز، وتبين لنا فسادها، وأن هيئة الأمر ليست إلا لمعنى واحد، وتختلف الدواعي، ومنها التعجيز (24)، وأما هذه الآية فهي من المثال الواضح عند الكل، ولكنك عرفت بطلانه، فإن الأمر هنا ليس لإفادة العجز، بعد كون الآية بصدد الإرشاد والهداية، فإن من لوازم إفادة التعجيز هو التحقير بل فيه نوع تهكم واستهزاء، كما في مثل قوله تعالى: (فأت بها من المغرب) (25). وقد عرفت أن هاتين الآيتين - من البدء إلى الختم - مشحونتان بالأدب والإرفاق وجلب المشركين بالمداراة، وترتب عجزهم وتوجههم إلى العجز وعدم اقتدارهم على الإتيان بمثله لا يستلزم كون الداعي ذلك. فبالجملة: الخصوصيات الملحوظة فيها تنافي كونها للتعجيز، فلا تخلط. كما أن هيئة الأمر من قوله تعالى: (فاتقوا النار) ليست تكليفا، بل هو بداعي التنبيه والتوجيه، ضرورة أن ذلك لو كان تكليفا مستتبعا للنار، يلزم منه التكاليف الغير المتناهية المستتبعة لاستحقاقهم العقوبات الغير المتناهية، فتأمل. ثم إن قوله تعالى: (إن لم تفعلوا ولن تفعلوا) وارد في مورد الإخبار عن عدم فعلهم الأعم من العجز ومن القدرة، بل ظاهر في أنهم لا يفعلون بالاختيار والاقتدار، وهذا ينافي كون الآية في مقام تعجيزهم كما ترى، ويدل على أن في هاتين الآيتين روعي جانب التوجيه الديني والإرشاد الفارغ عن كل عصبية وتشدد. وتوهم: أن النفي الأبدي كناية عن تعجيزهم، في غير محله، لما عرفت من عدم صحة هذه المقالة، وعدم تنصيص من أهل اللغة والأدب بذلك، إلا من الزمخشري في " أنموذجه ". نعم يلزم العجز قهرا، من غير استفادة كون المتكلم في مقام الشماتة بالعجز، والهتك بالتعجيز والتضعيف، فلا ينبغي الخلط بين الأمرين. وبالجملة: في هاتين الآيتين أوامر ثلاثة وإرشادات للإنسان أن لا يدخل إلا من باب البرهان، وإعانة على كيفية إقامتهم الدليل، باستعانتهم بأعوانهم وشهدائهم، فإذا يئس من ذلك فلا يجوز اللجاج والعصبية، وعليه - حينئذ - أن يتقي الله، ويجتنب النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

الوجه السادس: حول الإتيان ب? (من مثله) بحسب الموازين النحوية يجوز أن يكون كلمة " من " تبعيضا، وعليه استخرجها قوم (26)، وقوم آخرون قالوا: هي للتبيين (27)، مثل قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (28)، واستخرجها ثالث: أنها زائدة (29)، كما قال في سورة أخرى: (فأتوا بسورة مثله) (30). والإنصاف: أن القول بالتبعيض ضعيف وغفلة، فإن المتحدي لو كان ببعض السورة حتى يشمل الآية الواحدة، كان له وجه، وإلا فما قالوه في توجيه التبعيض وتفسيره، أي فأتوا ببعض ما هو مثل له، وهو سورة، غير صحيح، كما هو واضح. وأما التبيين فهو يصح فيما إذا كان الحكم متوجها إلى العام، ثم يحتاج إلى البيان لاختصاصه بالخاص، مثل الأمر بالاجتناب عن الرجس، فإنه يشمل مطلق الرجس، فيحتاج إلى البيان، لأن الرجس الوثني واجب الاجتناب، وهذا في المقام غير متصور، لأن قوله تعالى: (سورة) يبين حدود المراد من قوله: (مما نزلنا)، فإن الموصول ولو كان أعم إلا أنه مضافا إلى ما أشير إليه غير محتاج إلى الإبانة. وأما القول بالزيادة المطلقة فهو واضح البطلان إلا برجوعه إلى حسن الاستعمال وقبول الطباع مع معهودية ذلك بين أهله، وهذا فيما نحن فيه، مع إمكان كونها بصدد إفادة الأمر الخاص بهذه الآية وما هو مثله، دون الآية الأخرى الغير المشتملة على كلمة " من "، فإنه كما يمكن أن يكون النظر إلى دعوتهم إلى الإتيان بسورة مثل سور القرآن، يمكن أن يوجه النظر ويلفت الفكر إلى أن يأتوا بسورة من مثل الرسول الأمي، الغير المتدرب على شؤون الفصاحة، وغير الخائض في جهات البلاغة في تلك العصور السابقة، فتكون نشوية، أي فأتوا بسورة ناشئة من مثله، وصادرة من مماثله ومشابهه. وما في كلمات القوم: من أن بعضا من الآيات الآتية، تتحدى بالإتيان بأشباه القرآن وأمثال الكتاب، فتكون هذه الآية مثلها، غير راجع إلى محصل، فإن القرآن يتشبث لهداية الناس وتركيز الحق في نفوسهم بكل ما يمكن أن يهديهم إليه ويسوقهم إلى الله تعالى، فربما لا يكون القرآن إعجازا بالقياس إلى طائفة إلا لأجل هذه الجهة الأخيرة، وربما يكون إعجازا لأجل الجهة الأولى، وثالثة لمجموع الأمرين، ورابعة لأمر آخر يحرر في محله. ومن هنا يظهر: أن الخلاف في مرجع الضمير من قوله تعالى: (من مثله) ليس خلافا في المسألة النحوية أيضا، لجواز رجوعه إلى الموصول وإلى العبد، وإنما الخلاف في مقتضى البلاغة والفصاحة، وقد ذهب الأكثرون إلى رجوعه إلى الموصول، وبعضهم إلى العبد، وجواز رجوعه إليهما معا ولو كان ممكنا، إلا أنه غير مراد هنا قطعا، وسيظهر تحقيقه في الأمر الآتي إن شاء الله تعالى. وغير خفي: أن مفهوم المثل على كل تقدير واحد، وإنما الخلاف في مصداقه، فعلى الأول يكون مصداقه القرآن، وعلى الثاني مماثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وأما توهم: أن العائد إلى الموصول يلزم أن يكون محذوفا، ففي غير محله، لأن عائده مفعول (نزلنا)، وهو محذوف، لأنه معلوم، فيجوز حذفه. ثم إن احتمال كون " من " بمعنى الاستبدال، نحو (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) (31)، أو بمعنى التجاوز، أو تكون صلة لقوله تعالى: (فأتوا) غير تام، إلا الأخير، فإن كون " من " بمعنى الاستبدال والتجاوز، من الخلط بين مفهوم المعنى المستفاد من المفاهيم الاسمية، وبين المعنى الحرفي لكلمة " من "، كما لا يخفى. وأما كونه متعلقا وصلة لكلمة (فأتوا) فهو لا ينافي البحث السابق، لأن " من " التبيين والتبعيض أيضا متعلق بفعل يسبقه. نعم إذا كانت للتعدية تكون معنى آخر، إلا أنه لا يحتاج إلى التعدية لتعدي الإتيان بالباء، وتكون جملة (من مثله) صفة ل? " سورة " على رأي جمع، مع أنه لا وجه لتوصيف السورة بجملة الجار والمجرور، إلا في صورة حذف الجار واشتقاق صفة من المجرور، فيكون المعنى: فأتوا بسورة تماثله أو مشابهة له، وغير ذلك، فالأظهر - بعد اللتيا والتي - أنها متعلقة بجملة محذوفة، أي فأتوا بسورة ناشئة من مثله. هذا بحسب القواعد النحوية مع رعاية الجهات المنتهية إلى الفصاحة والبلاغة المخصوصتين بالكلام الإلهي. والله العالم بحقائق آياته. ثم من المحسنات: هو الالتفات من الغائب إلى المتكلم، كما ترى بين هذه الآية وما سبق. وما اشتهر: أن التعدية ب? " على "، أي نزلنا على عبدنا إيماء إلى علو المنزل (32)، مخدوش بقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر) (33).

الوجه السابع: حول مرجع ضمير (من مثله) اختلفوا في مرجع ضمير (من مثله)، فذهب الأكثر إلى رجوعه إلى الموصول، وبعضهم إلى رجوعه إلى العبد، وقد عرفت منا تعين الثاني لأجل أن كلمة الجار تومئ إلى ذلك، وإلا تلزم زيادتها. وما قد يقال: بأن الأول متعين لأمور (34) لا ترجع إلى محصل: فمنها: أن الارتياب إنما جئ به نصبا على المنزل، لا على المنزل عليه، فعود الضمير إليه أولى. وفيه ما أشير إليه: من أن القرآن بصدد تحكيم مباني الاسلام من أية جهة تمكن، فتارة يقول: فأتوا بسورة مثله، فيكون ظاهرا في أن التحدي بالمنزل، وأخرى يقول: من مثله فيكون التحدي على الجهة الأخرى، وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمرن على البلاغة ولم يبار أهل الفصاحة، ولم ينافسهم في مورد من موارده، وهم فرسان البلاغة والفصاحة، وعصرهم أرقى العصور، وكان الكلام ديدنهم وبه يتفاخرون، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا الميدان والمضمار، ومع ذلك إن ما جاء به بعد أربعين سنة، فاق مستواهم على حد عجزوا وأقروا بعجزهم، فالعود إلى الثاني أولى، لأنه أمر جديد، ولكل جديد لذة وتحكم. ومنها: أن المقايسة بين هذه الآية وسائر الآيات المتحدي بها تقضي بالعود إلى الأول. وأنت قد أحطت خبرا بأن المقايسة تقتضي العكس (35). ومنها: اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان، سواء اجتمعوا أو انفردوا، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين، ولو عاد إلى المنزل عليه يلزم منه توهم إمكان ذلك من غير الأمي (36). وفيه: أن القرآن - كما يأتي - معجز من جهات شتى، والتحدي من جهات شتى أوفق، لأنه يثبت بذلك عجزهم العميق وسقوطهم الواضح، حتى لا يتمكنوا من التخيلات الواهية والأوهام الباطلة. وربما يتوهم: أن وجه رجوع الضمير إلى العبد أن مثل العبد موجود، بخلاف مثل القرآن، فلو رجع إلى الموصول يلزم وجود المثل، وعجزهم عن إيجاده والإتيان به دون غيره، فإنه يستلزم إمكان وجود المثل، بل تحقق المثل، ولكن العرب الفصحاء البلغاء عاجزون عنه (37). وفيه: مضافا إلى أنه قضية ناقصة فرضية لا تحكي عن الوجود الخارجي، لا بأس بالالتزام بوجود المثل عند الله تعالى، وإثبات عجزهم مع الإقرار بذلك الوجود، فإنه أثبت لعجزهم وأولى وأظهر، لعدم تمكنهم من الإتيان به، كما لا يخفى. وربما يؤيد الرجوع إلى العبد: أن العود لو كان إلى الموصول، لكان الأولى أن يقال: فأتوا بمثله، لأن المراد من الموصول - حسب الظاهر - هو القرآن، ولكن بعد اللتيا والتي وبعد لأي لا ندري تكون الآية ظاهرة فيما ذهب إليه الجمهور، ولعل السر أن قوله تعالى: (مما نزلنا على عبدنا) ظاهر في أن المنظور إليه هو الموصول، وأما النزول على العبد فهو من توابع المراد والمقصود الأصلي، وليس منظورا إليه بالاستقلال. ثم إنه بعد الفراغ عن هذه الأقوال حول هذه الجهة في الآية، رأيت في " روح المعاني " أن المسألة كانت معنونة ومورد النقض والإبرام وقد الف الرسائل فيها انتصارا لكل واحد من العضد والجاربردي، لاختلافهما في المرجع (38). وبحمد الله وله الشكر قد ذكرنا فيما سبق جميع ما استنتجه من تلك النسخ الموجودة عنده، إلا أن فيها ما يومئ إلى أن الآية بصدد إثبات النبوة لا المنزل والقرآن (39)، ولو كانت الآية بحسب الصورة ناظرة إلى القرآن والمنزل، كما أومأنا إليه أخيرا. وفيه ما مر من اشتباه المفسرين كلا حول الآية من هذه الجهة، فإنها في مقام ذكر الدليل على أن عبادة الله تعالى متعينة، وطرح عبادة الأوثان لازم، ولو كانوا مرتابين فيما ورد من الأمر بالعبادة لله، ومن النهي عن عبادة الأنداد، ويتوهمون أنه من غير الله، وهو كلام آدمي اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا بمثله أو فأتوا من مثله. فالاستشهاد بذلك لإثبات رجوع الضمير إلى الموصول في غير محله. والله الهادي إلى الصواب. بل يظهر من التقريب الأخير أيضا مسلك الجمهور، وربما يكفي لصدق ذلك فهم الأكثر من هذا الكلام الواضح البليغ الفصيح ذلك. ولأحد دعوى: أن التحدي في هذه الآية أوكل إلى المنكرين، فإن شاؤوا اتخذوا ذاك، ولو شاؤوا يتخذون هذا، فالأمر إليهم، وذلك لأنهم يعجزون عن كل من ذلك، يعجزون عن الإتيان بسورة تشبه سورة من القرآن، ويعجز الأمي منهم عن الإتيان بمثلها. كما يحتمل كون التحدي هنا ذا مرتبتين: المرتبة الأولى هو التحدي بالإتيان من مثله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمرتبة الثانية على تقدير عجزهم عن المرتبة الأولى هو الإتيان بمثله، ولو كان الآتي من أرباب الفصاحة وأصحاب البلاغة، والمتربين في أندية البلغاء والمرتابين في ما نزل من السماء.

الوجه الثامن: حول التحدي ثبوتا وإثباتا حيث إن التحدي بالإتيان من مثله أو بمثله ذو مرحلتين: مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات، روعي في هذه الآية الشريفة كلا المرحلتين، وهي تكشف عن نهاية البلاغة، وتشهد على اشتمال الآية على أوجه وجوه الأدب والدقة، وفي أمر الرسالة والدعاية إلى الحق: أما المرحلة الأولى: فقد تصدى لها قوله تعالى: (إن كنتم...) إلى قوله تعالى: (وادعوا). وأما المرحلة الثانية: فتصدى لها قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)، وذلك لأن الإتيان بالمثل أمر، وإثبات أنه المثل أمر آخر، فربما يأتون بالمثل ولا يصدقه المسلمون، وربما لا يأتون بالمثل، ويدعون المماثلة جزافا، فلابد مضافا إلى ذلك من إقامة الشهادة على المماثلة والمشابهة. وأما الاختلاف في المراد من الشهيد، هل هو الشاهد والبينة، أم هو الناصر، أو هو الحاضر؟فهو اختلاف غير جائز، لما يعلم من مناسبات الحكم والموضوع أن الأمر أوسع من ذلك، وأنهم في سعة من إقامة محضر يحضره الشهود القائمون بالشهادة والناصرون لهم، طبعا لكونهم منهم أو إقامة مجلس يحضره كل من يشهد، ويكون أهلا للشهادة على البلاغة والفصاحة. وتوهم: أن الأمر وهذه الدعوة تهكم وتعجيز، غير صحيح، لأن حصول العجز أمر، وكون الأمر للتعجيز أو الاستهزاء أمر آخر، وقد مر أن المفروض ارتيابهم في الأمر والقرآن ولعلهم من القاصرين غير الجائز استهزائهم عقلا وشرعا، فعندئذ لا معنى للخلاف، بل معنى الشهادة والشهيد والشاهد واحد، وكونه ناصرا ليس من معانيه اللغوية الأولية، بل هو من توابع معناه في بعض الأحيان، وقد مر معناه في بحوث الصرف واللغة، فما في كتب التفاسير لا يخلو عن تأسفات، والأمر سهل. ومن هنا يظهر: أن اختصاص الشهداء بالأوثان وآلهتهم، كما عن أرباب الحديث كابن عباس والسدي (40) ومقاتل، أو اختصاصهم بالأعوان والأنصار الآدميين، كما عن ابن قتيبة وجمع آخر، وفيهم أيضا ابن عباس (41)، أو الأعوان من الجن وغيرهم، كله غير واقع في محله، فإن المدعي في هذه المعركة وفي هذا الحوار في سعة من أمره. وأما قول مجاهد: أنهم يأتون بمن يشهد لهم في مجلس الدعوى والمبارزة (42)، فهو مبني على كون الأمر للاستهزاء، وهذا خلاف التحقيق، فإن الكلام مبني على الجد والتحقيق والاستدلال لحاضري مكة والحجاز وسائر البلدان في جميع الأعصار والأزمان، وليس ما توهموه شأن القرآن في هذا الميدان. ومن هنا يظهر: أن إضافة الشهداء إليهم ليست لأجل أن شهداءهم ينصرونهم واقعا، ويشهدون لهم حقيقة، بل ربما يحضر المدعي البينة في مجلس القضاء، والبينة بعد الاستماع إلى أطراف القضية، تشهد على خلاف المدعي وعلى بطلان دعواه. وكان في هذه الآية ونظائرها إبراز وإظهار لعظمة القرآن على وجه لو كانوا يأتون بشهدائهم وأنصارهم وأعوانهم من كل جنس كان، لكان الأمر ينقلب عليهم بعد المقايسة بين الآتي من السماء والآتي من الأرض وبعد الاطلاع على حد الفضل بينهما في الشرافة والرفعة والعظمة.

تذنيب

ربما يقال: إن المراد من الشهداء تابع المقصود من جملة (ادعوا) فإن أريد بها النداء فالشهداء يحضرون للشهادة، وإن أريد بها الطلب فالشهداء هم الأنصار والأعوان. والحق: أن الدعاء والنداء لايتمان إلا بما يلحق بهما، وسيظهر تمام الكلام بعد فهم جملة (من دون الله) إن شاء الله تعالى.

الوجه التاسع: حول عبارة " من دون الله " اعلم أن جملة (من دون الله) في نهاية الصعوبة فهما، وفي غاية الإشكال بلاغة وفصاحة، فإن الكلام كان يتم بغيره، فلو ورد هكذا: وادعوا شهداءكم إن كنتم صادقين وكانت رنمة الكلام وزنة الصوت والطبع موافقة لحذفها، فما الحاجة إليها بعد كونها موجبة لإبهام الآية وصعوبة المرام في المقام؟فعلى هذا لابد من الغاية القطعية حتى تقتضي ذلك. وغير خفي أن الآيات المشابهة لها في التحدي مشتملة على هذه الكلمة كآية سورة يونس وسورة هود مع اختلافهما معها في قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم) فيهما (وادعوا من استطعتم)، ولو راجعنا موارد استعمال جملة (دون الله) وكثرة تعلقها بجملة (ادعوا) في تلك الموارد، لحصل الوثوق بتعلقها هنا أيضا بها، ولا يبقى لاحتمال كونها متعلقة بجملة (شهداءكم) وجه، سواء أريد به " شهداءكم من دون أولياء الله " كما في الفخر والبحر (43)، أو أريد به " شهداءكم من الله تعالى "، لأنه شاهد لا يتبين من قبله أمرهم، ولا يستظهر من ناحيته حال دعواهم، ولأن من الممكن استجابة دعائهم الله تعالى، لأنه أرحم الراحمين، فربما إذا التجؤوا إليه تعالى وتقدس في أمر يجيبهم في ذلك الأمر، وإن كان يعلن رسوله بذلك، كما حكي في قصة موسى وفرعون في بعض الأمور أحيانا. والله العالم. وبعد مراجعة موارد استعمالها في كثير من الآيات يظهر أيضا: أن تفسيره بالأمام (44) في غير محله، أي وادعوا شهداءكم أمام الله وبين يدي الله، فإن هذه الكلمة في أكثر من سبعين موردا في كتاب الله، وأريد فيها معنى " الغير "، نحو (لا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) (45)، ونحو (يعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا) (46)، وغير ذلك، مع أن " دون " بمعنى " الأمام " إذا كانت مستعملة مع حرف الجر، فلابد من بقاء الجار إذا فسرت بالأمام، وهذا لا يتم بحسب المعنى، فلا يجوز أن يفسر: لا تدع من أمام الله، أو ادعوا شهداءكم من بين يدي الله، وحذف الجار وحمله على الزيادة بلا وجه، ومما لا وجه له، ويكون سخيفا جدا، تفسيره بمعنى التجاوز، كما لا يخفى على أهله. فعلى هذا يتعين تعلقه بجملة (ادعوا)، وتكون بمعنى " الغير "، أي ادعوا شهداءكم من دون الله، كما عليه الجمهور، فيبقى المراد أولا، ووجه الإتيان بها ثانيا. والذي يظهر لي: هو أن الدعاء هو النداء للانتصار، والشهداء مورد النداء أو الطلب للنصرة والشهادة بنفعهم، فيكون بحسب الطبع في هذا المجال أمرهم ومهمهم ذلك، وإذا كان هذا في نفوسهم عظيما، فلابد أن يراجعوا الذين يعتقدون بأنهم ينصرونهم وينفعونهم - وهم أوثانهم وأصنامهم - فيرجعون إليهم حسب طينتهم واعتقادهم، حتى ينجوا من هذه المعركة الدائرة عليهم الحياة والممات فيها، فيرشدهم القرآن إلى أن يدعوا شهداءهم من غير الله فالشهداء هم الاناس ومن غير الله هم الأوثان والأصنام، فهذا أمر طبيعي لكل من يقع في مخمصة التضاد الاجتماعي، وفي معضلة الحوار في الحياة الروحية، فإن الغريق يتشبث بكل حشيش. وعندما تلاحظ هذه النواحي الموجودة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتبين أن الآية على أرفع وجه وأسنى درجة وأعلى إرفاق بهم في توجيههم إلى ما يمكنهم في أمرهم حسب تخيلاتهم وأوهامهم، فهداهم إلى أن يطلبوا من غير الله من شهدائهم وناصريهم، ووجههم إلى أن ينادوا من غير الله، ويدعوا من غير الله أعوانهم وأصدقائهم. وهذا لا ينافي أن يدعوا غير الأوثان أيضا، ولكن في هذا الحال طبعا يلزم تنبيههم إلى هذه الطريقة التي اتخذوها في أمورهم ومشاكلهم، فإنهم كثيرا ما يرجعون إلى هذه الأشكال والألوان لحل معضلاتهم وهضم مهماتهم الاجتماعية والفردية، فكانوا يذبحون لهم حتى ينصرونهم، فما قيل: إن الشهداء هم الأوثان (47) أيضا في غير محله، بل غير الله هي الأوثان، كما هو الحق، فإن كل شئ غير الله صنم ووثن بالضرورة. فإلى هنا تبين معنى الآية، كما تبين وجه البلاغة ولزوم هذه الجملة في تلك المعركة، من غير كونها ناظرة إلى الاستهزاء والتهكم، كما عرفت منا.

الوجه العاشر: حول متعلق كذب المرتابين ربما يخطر بالبال: أن جملة (إن كنتم صادقين) تناقض قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب)، فإن المرتاب لا يدعي شيئا إلا ريبه، والمفروض أنهم مفروض ارتيابهم، ولا يدعون الريب مع إقرارهم بالنبوة وبالقرآن فيكونوا من الذين استيقنت أنفسهم وجحدوا بألسنتهم، فعلى هذا لا يبقى محل للقضية الشرطية الثانية، لما لا محل لصدقهم ولا كذبهم، وذلك لما لا قول لهم إلا الارتياب القلبي والنفساني. وأما ما في بعض التفاسير: من أن المراد هو صدقهم في نسبة الافتراء إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (48). فيدفعه: الآية المفروض فيها ارتيابهم، ولو كانوا يسندون إليه الافتراء فلا معنى لكونهم مرتابين. وبالجملة: لابد من كون الآية صدرا وذيلا على وجه واحد، وأن تسير الآية الشريفة مسيرا فاردا، وتكون على منهج وحيد وفرض فريد، ولو كانوا بحسب الواقع وتأريخ النزول مفترين في دعواهم وفي قولهم: إنه كلام يشبه كلام الآدميين مادة وصورة، أو في دعواهم أنهم مرتابين مع أنهم يعتقدون الخلاف، أو كانوا من المعتقدين بأنه كلام الله وكلام ساطع على كلام البشر. فعلى هذا يتعين أن تكون الجملة الأخيرة - بحسب موازين البلاغة - مرتبطة بالمضمون السابق، المستفاد من الشرطية الأخيرة، وهو قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله) وقد أخرت عنه لما فيه إفادة أن جهة الصدق والكذب مرتبطة بها، ولو قدمت عليه للزم قوة كون الصدق والكذب بلحاظ القضية السابقة والشرطية الأولى ومضمونها. فعلى ما تحصل: يكون الصدق والكذب بلحاظ لازم القضية، وهو تشبثهم بالأوثان والأصنام في ما يتوجه إليهم من البلايا والآلام، واعتقادهم أن الفرج يحصل بالاستمداد منهم، فإن كنتم صادقين في هذه المهمة، فادعوا شهداءكم منهم الذين هم غير الله تعالى. ولعمري إن الآية تشتمل على نهاية الأدب في الكلام وغاية الجد في إعلام الإعجاز من دون تهكم واستهزاء، وفي آخر درجة الإفهام والإرشاد إلى الصواب وإلى تركهم عبادة الأوثان والأصنام وتدينهم بها، وفيها التوجيه العلمي البرهاني الوجداني إلى سقوطهم، وأنهم لا يضرون ولا ينفعون. وهذا من عجائب البلاغة وغرائب الالتفات واللطف. وما أبعد ما بين ذلك وبين ما في كتب التفاسير، من المحتملات المختلفة المشار إليها آنفا، ومنها: أن المراد إن كنتم صادقين في اقتدارهم على المعارضة وتمكنهم من الإتيان بالمثل (49)، ومن اللازم أن يتوجه المفسر إلى أن القرآن، ولو كان بعضه يبين بعضا، وتفسر جملة منها جملة أخرى، إلا أن ذلك فيما إذا كان إحدى الجمل مجملة، فلابد من إيضاحها بالأخرى، وأما إذا كانت واضحة في المعنى الآخر فلا وجه لحمل إحداهما على الأخرى، فإنه حمل غلط، وخارج عن الطرق المألوفة، فما في كتب التفاسير كثيرا ما من ذكر آية أخرى أو آيات اخر، لترجيح المعنى غير الظاهر على المعنى الظاهر، غير لائق وغير سائغ. مثلا لأجل ما في الآية الأخرى: (لو نشاء لقلنا مثل هذا) (50) يقال: إن المراد هنا هو الصدق في المعارضة والاقتدار على الإتيان بالمثل. ويحتمل أن يكون الصدق والكذب هنا من أوصاف العمل لا القول، فإن الأفعال توصف بهما، فيقال: الفجر الصادق والكاذب، فعندئذ يكون المعنى إن كنتم صادقين في سيرهم ومنهجهم وطريقتهم، وهي عبادة الأنداد والأمثال، أو هي المعارضة والمضادة والإدامة في الكفر والإلحاد. كما يحتمل أن يكون الحذف دليل العموم، فيكون كل هذه الاحتمالات مرادا ومقصودا، أي وإن كنتم صادقين في أمر من هذه الأمور الراجعة إلى أمر الآيات النازلة، وإلى النسبة الثابتة بينها وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الجهات والدعاوى الفعلية والقولية، وكأنهم موجودات كاذبة لا يترقب عنهم الصدق في أمر من الأمور فحذف المتعلق لإفادة ذلك، ولكنه خروج عن دأب الكلام الإلهي، وعن المماشاة السليمة اللائقة بالكتب السماوي، فإن الاهتداء إلى الصراط السوي والطريق المعبد لو أمكن، فهو في القول اللين والأدب البارع قطعا.

الوجه الحادي عشر: حول عبارة " فإن لم تفعلوا " ربما يتخيل أن الأبلغ هو أن يقال: " فإن لم تأتوا "، لأن الأمر السابق كان بالإتيان بمثله، وهكذا أن يقال: " ولن تأتوا ". وغير خفي: أن الإتيان بالفاء فيه من البلاغة واللطافة ما لا يدركه إلا الأوحدي. وبيانه: أن في مقام الاحتجاج افترض المستدل أن الأمر دائر بين أحد الأمرين: إما إرغام أنف المسلمين وتبعة القرآن الكريم بالإتيان بمثله أو الالتحاق بهم وبهذه الثلة والجماعة بالتقوى من النار الكذائية، ولا فرض ثالث، وإلا يلزم بقاء المخاصمة وعدم انقطاع المحاجة الموجودة بين الحق والباطل. فمن هذا الترتب المفروض بين الآيتين يستبان: أن القضية من القضايا المنفصلة الحقيقية. ثم بعد اتضاح هذا الأمر، لابد وأن يتوجه القارئ العليم إلى أن المخاطب بهذه الآية، ليس البلغاء والفصحاء وأهل الممارسة والتمرين في الشعر والأدب، بل المخاطب جماعة المرتابين، وربما فيهم البلغاء والأدباء، فدعوة المرتابين إلى الإتيان بالمباشرة غير صحيحة، فالأمر بالإتيان أعم من الإتيان مباشرة أو تسبيبا، ولابد من قيام الشاهد على ذلك، وهو قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)، فإن المرتابين يفعلون الأفاعيل والجد والاجتهاد بالتوسل إلى أهل الكلام والبلاغة لإتيان المماثل بصرف الدراهم والدنانير أو التطميع والتهديد وغير ذلك من الأسباب والوسائل الممكنة، فهم يجتهدون ويفعلون الأفعال الخاصة لنيل مرامهم ومقصودهم، ومنها التوسل إلى الأوثان بعبادتها والأصنام بالذبح عندها وغير ذلك. وعلى هذا تبين أن الأبلغ قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا). ثم إن من البلاغة تضمين الكلام بإيجاد اليأس فيهم، وتوجيههم إلى الهداية والإسلام وإعلامهم بأنهم لن يفعلوا، من غير إفادة عجزهم وتذليل خواطرهم وضمائرهم بالتهكم والتعجيز، ولذلك يقال: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) وكأنه إخبار عن انصرافهم عن تعقيب هذا الأمر العظيم، وهو الإتيان بالمثل والمشابه، ضرورة أن عدم الفعل كما يستند إلى عدم العلم أو العجز وعدم القدرة، يستند إلى عدم الإرادة، فلوحظ هذا الجانب في هذا التعبير أيضا، فهاتان الآيتان آية في البلاغة بحسب الدعوة إلى الحق، والاشتمال على كيفية الاستدلال ومراعاة التوجيه إلى جانب الحق، بمراعاة الأدب في الكلام والبحث من جهات شتى ونواح مختلفة، كما أشرنا إليه، وسيظهر أيضا بعض هذه الأمور في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني عشر: في ثمرة الجملة الاعتراضية في هذه الآية قد أشرنا آنفا إلى أن من ثمراتها توجيه المرتابين إلى اليأس والالتفات إلى أن هذا الأمر مما لا يمكن حصوله منهم، ولكنه أفاد ذلك تحت ظل الأدب فلم يسند إليهم العجز والجهل والذلة، بل أسند إليهم عدم فعلهم ذلك، وهو كما مر أعم، وهذا أيضا نوع من الثمرة المقصودة، فإن كلام الله إله الكلمات، وفي توجيههم إلى اليأس إرشادهم إلى الهداية بالوجه الألزم، وكأنه قد سد عليهم الأبواب إلا باب الدخول في الإسلام والاشتباك مع المسلمين في الأحكام. ثم إن في الإخبار بعدم تصديهم للإتيان بمثله نوع توجيه إلى أن يلتفتوا إلى عظمة الأمر ويتنبهوا إلى أن سعيهم عبث وجهدهم لا ينفع، ولا سيما بعدما كانوا يعرفونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمانة والصدق طيلة عمره الشريف وطوال حياته الطيبة، فإخباره بذلك بنحو الجزم والقطع، يشهد على واقعية قصورهم وعجزهم تكوينا، فألزمهم بذلك إلى الانسلاك في سلك المسلمين، والانتماء إلى الإسلام بالإقرار وعقد القلب. فهذه الجملة القصيرة بظاهرها عظيمة بواقعها، ذات ثمرات عديدة في هذه المحاجة والمخاصمة والحوار والمكالمة، ومنها التأكيد بأداة خاصة، أو بالأداة النافية الأبدية، فإنه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤثر في قلوبهم تأثيرا عميقا، ويوجب انتقالهم إلى أن هذه الآيات أيضا ليست منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما لم يصدر منه أمثاله في الأزمنة الخالية والمجامع الماضية، فبها يثبت أن ما سلف ونفسها كلها من عند العزيز المتعال.

الوجه الثالث عشر: حول لسان الآية في الإرشاد قد أقمنا القرائن الكثيرة في طي البحوث الماضية على أن هاتين الآيتين بصدد توجيه الناس إلى الإسلام في قالب أدبي ولسان لين ومحاجة طيبة، من غير أن يواجههم بصلابة وشدة واستهزاء وتعجيز تهكمي، ولذلك أتى بالفاء، فقال: (فاتقوا النار) مع أن الاتقاء من النار لازم عليهم، لأن المفروض هم المعاندون العاجزون عن الإتيان بمثله، والآية بصدد إثبات تعجيزهم وإبراز ضعفهم بناء على ما قاله المفسرون، وأما على ما ذكرنا فالآية وردت في محلها، فإنهم حيث لا تخلو حالهم: إما عن التمايل إلى الحق واقعا، فتكون القضية الشرطية واقعية، لعدم وجوب الاتقاء إلا بعد تمامية الحجة، وإما عن المعاندة والكفر الباطني المشفوع باللجاج والضدية، فتكون القضية الشرطية مشتملة على الأدب في المحاورة، وافترضت أنهم غير واقفين على الحق فلابد من الفاء أيضا. ومن وجوه البلاغة واللطافة في المقام: أن في ضمن تثبيت الكتاب الإلهي وتحقيق الوحي السماوي، تحقيقا للنبوة الخاصة، وفي ضمن هذا الأمر تثبيت للمعاد ووجود النار الخاص، غير النيران المادية الدنيوية، وهي النار التي وقودها الناس والحجارة. وبعبارة أخرى: اعتبرهم الإسلام بين الخطوط خط الإسلام والانحفاظ من النار الكذائية، وخط ضد الإسلام والوقوع فيها، وخط ضد الإسلام والنجاح والاستسلام من النار، وذلك لأنهم إما يعجزون فيقرون بالإسلام، فهم في خلاص من الأمر والنار، وإما يعجزون ولا يعترفون بالحقيقة، فيستحقون النار التي وقودها الناس والحجارة، وقلوبهم القاسية التي أشد قسوة منها، وإما يأتون بمثله فلازم ذلك كذب دعوى الإسلام، وهي النار الكذائية وكذبه (صلى الله عليه وآله وسلم) نعوذن بالله العليم، وحيث لا سبيل إلى الثالث يدور أمرهم بين الأمرين الأولين، فعند ذلك دعاهم إلى الاتقاء من المسبب والنيران، بالاعتراف بالسبب، وهو الإسلام والأحكام. ففي هذه الدعوى وكيفية بيان المقصود أيضا نوع تقرير جديد وتحرير بديع، فإن الظاهر هو أن يقال: فالتحقوا بالإسلام وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فاعترفوا بالله وبالكتب والنبوة، ولكنه لمكان أن عدم الاعتراف بعد هذه الصورة، وبعد فرض عدم الإتيان بها، يستند إلى الأمور غير الإنسانية، ويرجع إلى المعاندات القومية والأوصاف الرذيلة الجاهلية، لابد من تهديدهم وتحذيرهم عما هو المحجوب عنهم وينتظرهم واعد لهم وهيئ لأمثالهم، فإن في هذا المنهج من البلاغة ما لا يدركه أيضا إلا الوحيد السليم قلبه والفريد الدقيق إدراكه، ولولا هذه المحاسن الكلامية والآداب الخاصة الملحوظة حال المحاجة وعند المواجهات الابتدائية، لما كان يعترف بالإسلام إلا القليل. وحيث إن أبطالهم اعترفوا وفرسانهم أذعنوا لها خضع الآخرون الأسفلون، وانسلك في سلك الإسلام المؤمنون على وجه استراحوا من هم الدنيا وشؤونها، وفارقوا مظاهر المادة ومجاليها، والتحقوا من أول الأمر بالملائكة المسبحين، حشرهم الله مع النبيين والصديقين، وجزاهم الله عن الإسلام أفضل جزاء الصالحين، فإن لهم حقوقا كثيرة على أخلافهم، ولولاهم لكنا في ما كان فيه آباؤنا الأولون وأسلافنا الجاهلون. والله ولي الحمد وإليه الملجأ وعليه التكلان. وفي تعقيب الآية بقوله تعالى: (أعدت للكافرين) رمز وقلب للقضية المفروضة إلى القضية المحققة، حتى لا يخطر ببال المنكرين: أن القضايا الشرطية لا تكون إخبارا إلا عن وجود الملازمة، وأما صدق الشرط والمقدم والتالي فهو أخص منها، فلا يخبر النبي الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وجود هذه النيران، ولكن بعد ذلك يتبين أن النار المفروضة ليست مجرد الخيال والتصوير، بل نار حامية متحققة معدة ومهيأة حاضرة لأهلها وقى الله تعالى جميع المؤمنين منها ووقينا حسابها وشرها. اللهم آمين يا أرحم الراحمين.

الوجه الرابع عشر: حول توصيف النار بالتي وقودها الناس والحجارة ربما يخطر بالبال أن يقال: إن القرآن - مضافا إلى كونه كتاب هداية، وينشر الحقائق الجامعة لسعادة أبناء البشر في كافة أنحاء الخيرات، وفي جميع النواحي والضواحي - يشتمل على بعض الأمور التخيلية والادعائية، وبعض الاستعارات والتشبيهات الخارقة للعادات الأولية، والخارجة عن متعارف الاستعمالات الشعرية والخطابية في العصر الأول. وإن شئت قلت: إن القرآن ليس كتاب مذكرات ولا من المختلقات الشائعة في عصرنا المهيأة للتمثيلية والمسرحية المسمى في لغة الأجانب ب? " رمان "، فإن القرآن أعظم شأنا وأجل مقاما وأرفع درجة عند كافة الأنام وعامة الأعلام، لأنه من الرب القادر العلام، فعليه كيف يقول اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، فإن تلك النار مجرد خيال وتفكر شعري واستعمال جديد وتركيب غير مسبوق وغير مبين، فالتهديد والإخافة من هذه النار، لا يؤثر حق التأثير في أفق شبه جزيرة العرب ولا في سائر الآفاق، لأنهم يظنون أنها نار لا واقعية لها، لما لا عهد لهم بها، ولا سبق خارجي - بل ولا ذهني - لهم بأمثالها وأشباهها، فهذا خلاف البلاغة جدا بل والفصاحة. وقد أتى بها مرة سابقة على هذه المرة في سورة التحريم: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) (51)، وتوهم جمع من المفسرين: أن الإتيان بها هنا معرفة لسبقها نكرة، مما لا يخفى شناعته وانحطاطه، لأن السؤال يتوجه إلى وجه التنكير في الآية الأولى، وقد عرفت منا: أن القرآن ناظر بأحسن النظرة العالمية، ويلاحظ بأتم الملاحظة العلمية جانبا واحدا، وهو حسن التركيب وقبول الطباع ولطف الترنم والوقوع في الأسماع والقلوب حتى يخضعوا له في أسرع الأوقات الممكنة، فيأتي بمعرفة أو نكرة ملاحظا فيه ذلك، وهكذا في التقديم والتأخير والجمع والإفراد، وربما يلعب بالقواعد العامة رعاية لهذه النكتة اللازمة التامة، والتفصيل في محل آخر. وبالجملة: كيف الفرار عن هذه العويصة؟فإن الأصحاب الأولين والأنداد المخالفين والأضداد والأعداء المدقين في الأخذ بنقاط ضعيفة، ينادون بأنه كتاب شعري ونثر أدبي، ومن المقامات العادية، وإلا فالنار تشوي الوجوه وتفني الأناسي والصياصي، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا اخر (52)، فما هذه النار التي وقودها الناس والحجارة؟فإن وقود النيران في عالمنا أمر آخر فهو مجرد تفكير شعري وإلقاء محاضري لا واقعية له. أقول: سيظهر لك في البحوث الآتية حقيقة الحال إن شاء الله تعالى، وأما المستمعون الأولون فربما يتدبرون من هذه الآية في عظمة تلك النار، فإنه إذا حصل لهم العلم بأنه أمر خارج عن قدرتهم، وأقروا بالعجز في الإتيان بمثله، ينتقلون من هذا وأمثاله إلى أمر عجيب، فيقع في أنفسهم الخوف والوحشة بوجه أعظم، وتقع في نفوسهم الخشية والدهشة العظمى، فيصبح الكتاب على هذا في أحسن وجوه البلاغة، من غير اختلال في فصاحته بعد ذلك، فتدبر جيدا.

الوجه الخامس عشر: وجه تقسيم القرآن إلى السور ينبغي أن نشير إلى بعض الوجوه لتقسيم الكتاب العزيز إلى السور (53)، وفيه أيضا الإشارة إلى وجه اختلافها قصرا وطولا: فمنها: حديث سهولة الأخذ والضبط، ولأن الخروج عن ديدن التآليف والتصنيفات أيضا غير جائز، ومع ذلك لوحظ فيه جانب التقطيع بالسور القصيرة والطويلة، فإن فيه إفادة غاية القدرة ونهاية السطوة على الأمرين حتى لا يظن أحد ظن السوء. ومنها: أن في هذه السجية والدأب تنشيطا للقارئ والمستمع وتلذيذا، ففيه نهاية البلاغ وغاية الإبلاغ بالوجه الأكمل الأتم، فرب قارئ يسأم من السورة الطويلة دون العكس، ورب إنسان يجد روحا جديدا بالفراغ عن سورة والدخول في الأخرى، بل تقسيم القرآن إلى الأحزاب والأجزاء أيضا يشتمل على اللطف والدقة وعلى اتخاذ أحسن طرق الهداية والتأثير في القلوب المهيأة والنفوس المستعدة. وبالجملة: مثل القارئ المسافر في الكتاب سيرا معنويا، مثل المسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا أو انتهى إلى رأس بريد، تنفس تنفس الصعداء، وكأنه يستريح راحة طيبة وكأنه صعد قمة ونزل واديا. ومنها: أن في ابتداء النزول كانت السور قصيرة، وما تمكنت البلغاء والفصحاء وأهل المعارضة من الإتيان بمثله، وإذا تبين ذلك فأتى القرآن بسور متوسطة المسماة بالمئين، وكانت هذه السور على كثرتها بأجمعها مكية إلا بعضا منها، وفي هذه الطريقة تعجيز المعارضين بوجه أبلغ، وترغيم أنفهم بإتمام الحجة عليه، وبسد أبواب الأعذار من كل جانب عليه. ثم بعد ذلك شرع الكتاب الإلهي في الإتيان بالطوال، حتى لا يذهب الذاهب إلى أن القصار وما يقرب منها غير مهتم به، فأتى القرآن بمثل البقرة وآل عمران والنساء، ولعمري إن الخروج من القصر إلى الطوال حركة كمية من النقص إلى الكمال في وجه، وحركة طبيعية في ذوات الأرواح الإنسانية حتى تنتهي إلى الهداية المقصودة والسعادة الأبدية. ولنعم ما قيل: إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرايس وديابيج ورياض وخانات: فالميمات ميادين القرآن والراءات بساتينها، والحامدات مقاصيره، المسبحات عرايس القرآن، والحاميمات ديباجه، والمفصل رياضه، وما سوى ذلك هي خاناته. فإذا دخل القارئ في الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرايس، ولبس الديباج، وتنزه في الرياض، وسكن غرف الخانات استغرقه ذلك عما سواه، فلم يكن يشغله غير الله تبارك وتعالى إن شاء الله.


1- البحر المحيط 1: 102.

2- راجع تحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.

3- تاج العروس 8: 133.

4- الكشاف 1: 96، البحر المحيط 1: 103.

5- راجع تاج العروس 8: 133.

6- راجع المفردات في غريب القرآن: 489.

7- تاج العروس 8: 133.

8- راجع الكشاف 1: 96، والبحر المحيط 1: 103.

9- راجع البحر المحيط 1: 103.

10- الفرقان (25): 32.

11- البقرة (2): 176.

12- البقرة (2): 174.

13- البقرة (2): 213.

14- الفرقان (25): 1.

15- آل عمران (3): 4.

16- الحجر (15): 9.

17- النحل (16): 44.

18- المائدة (5): 44، 45، 47.

19- النحل (16): 89.

20- الإنسان (76): 23.

21- الفرقان (25): 32.

22- المفردات في غريب القرآن: 489.

23- الشعراء (26): 193 - 194.

24- راجع تحريرات في الأصول 2: 76 وما بعدها.

25- البقرة (2): 258.

26- مجمع البيان 1: 62.

27- نفس المصدر.

28- الحج (22): 30.

29- مجمع البيان 1: 62، البحر المحيط 1: 104، الجامع لأحكام القرآن 1: 232، روح المعاني 1: 193.

30- يونس (10): 38.

31- البقرة (2): 61.

32- روح المعاني 1: 193.

33- النحل (16): 44.

34- راجع البحر المحيط 1: 104.

35- التفسير الكبير 2: 118، البحر المحيط 1: 104.

36- البحر المحيط 1: 104.

37- البحر المحيط 1: 105.

38- راجع روح المعاني 1: 195.

39- راجع روح المعاني 1: 195.

40- البحر المحيط 1: 106.

41- نفس المصدر.

42- تفسير الطبري 1: 167، البحر المحيط 1: 106.

43- راجع التفسير الكبير 2: 119، والبحر المحيط 1: 106.

44- أقرب الموارد 1: 361.

45- يونس (10): 106.

46- النحل (16): 73.

47- البحر المحيط 1: 106.

48- مجمع البيان 1: 62، روح المعاني 1: 197.

49- الجامع لأحكام القرآن 1: 233.

50- الأنفال (8): 31.

51- التحريم (66): 6.

52- النساء (4): 56.

53- الكشاف 1: 97 - 98، التفسير الكبير 2: 117.