الإعراب وبعض مسائل نحوية
قوله تعالى: (إن كنتم في ريب) جملة ناقصة مركبة من " إن " الشرطية والجملة شرطية، ويحتمل كونها ابتدائية لا محل لها من الإعراب، ويحتمل كونها عطفا على قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب)، وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يختص الخطاب هنا بطائفة من الناس، كما يخص الخطاب المتأخر في الآية التالية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (وبشر الذين آمنوا)، فإنه يورث انصراف الآية إلى أن هذه الدعوة تخص الملحدين الكافرين المستحقين للاستهزاء والتعجيز والتهكم، دون المؤمنين والمتقين، وعلى هذا تكون الجملة مستأنفة ابتدائية. وبقية الآية واضحة الإعراب، وسيظهر بعض ما يناسب المقام في بحوث البلاغة إن شاء الله تعالى.
مسألة: حول دخول الفاء في جزاء الشرط يظهر من النحويين أن الجملة الجزائية إن كانت فعلية مؤلفة من الفعل والفاعل، يكون مجزوما، على خلاف في أنه مجزوم بالحرف أو مجزوم بالجملة الشرطية. وتوهم أن جزمه مستند إلى الفعل المذكور في الشرط فاسد كما ترى، ولا يحتاج إلى الفاء الجوابية، وإن كانت الجملة الجزائية مركبة من المبتدأ والخبر، تكون في محط الجزم ومحله، وتحتاج إلى الفاء، وهذه الآية الشريفة قسم ثالث، لأن الجملة الثانية فعلية، وقد دخلت عليها الفاء، فتدل على جواز الدخول خلافا لما يظهر من المثال المعروف إن تفعل أفعل وإن تكرم تكرم. وبالجملة: في الجمل اختلاف بحسب السياق وكيفية الأداء، فربما يحسن دخول الفاء، وربما لا يحسن ذلك، ولا ضابطة كلية لها. قوله تعالى: (من دون الله) متعلق ب? (ادعوا شهداءكم)، ويحتمل أن يكون متعلقا ب? (شهداءكم)، وفي محل الجر على الصفة أي ادعوا شهداءكم الذين هم غير الله. قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) ربما يشكل إعراب الآية، للزوم كون الواو من قوله تعالى: (وادعوا) استئنافا، حتى يكون في حكم الجواب لهذه القضية الشرطية الثانية، على أن الظاهر انعطاف الجملة الثانية على الأولى، وارتباط الجملة الثالثة - وهي قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) بالأولى. والذي يظهر لي: أن جملة (وادعوا شهداءكم) ليست عاطفة لما لا معنى لها، كما لا يخفى، فتكون هذه الآية مشتملة على قضيتين شرطيتين: إحداهما قدم الشرط فيها، وفي الأخرى تأخر، وقدمت القضية الجزائية، وهو قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم). نعم بينهما الارتباط المعنوي، وتكون القضية الثانية من تتمة الأولى في إفادة تمام المقصود، وتكون شاهدة على جواز تأخير الشرط وجواز حذف الفاء. قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا) جملة جوابية وجزائية للشرط المستفاد من الآية السابقة، وإذا كنتم عاجزين عن الإتيان بمثله مع استعانتكم بالشهداء من دون الله، فلتكونوا مقرين بعدم تمكنكم من ذلك، ويحتمل كونه من قبيل عطف الفرع على الأصل. قوله تعالى: (لن تفعلوا) جملة اعتراضية بين الشرط والجواب، وقال جماعة: هو عطف على الآية السابقة، والمعطوف جملة اعتراضية من تتمتها، أي (إن كنتم في ريب...) إلى آخره (ولن تفعلوا)، وهذا ارتكاب غريب، كما سيظهر تمام البحث في وجوه البلاغة.
مسألة: حول دخول العامل على العامل في دخول العامل على العامل خلاف، والآية تدل على جوازه، ضرورة أن " إن " الشرطية تجزم، وهكذا " لم " النافية، فيتراكم العاملان على واحد. وأجيب: بأن " إن " الشرطية تعمل في المستقبل دون الماضي، والجملة النافية في معنى الماضي، فلا تعمل فيها " إن "، فلا منع من دخولها عليه (1). قوله تعالى: (وقودها الناس) مبتدأ وخبر في حكم الصلة للموصول السابق، والفعل المقدر المحذوف إن قدر قبل الوقود يلزم قراءة " الناس والحجارة " بالفتح، ولذلك قدروها بعدها، وقرؤوا: (وقودها الناس)، أي وقودها يكون الناس، ويمكن قراءة الفتح على كل تقدير، وقد مضى بطلان أصل القراءة، ويحتمل كون الوقود بدلا عن النار، أي اتقوا وقود النار التي يكون وقودها الناس والحجارة، ويعد هذا من بدل البعض بناء على أن الوقود من النار، واحتمال كونه من قبيل " اتقوا زيدا الذي ابنه الأسد " ممكن، وقد مر منا أن الأدب الصحيح ليس ما لا يمكن تصحيحه، فإنه قلما يتفق ذلك، بل الأدب الصحيح ما يقبله الطبع السليم والذوق المستقيم والجبلة البسيطة والفطرة المخمورة. قوله تعالى: (أعدت للكافرين) حال تضمر معه كلمة " قد " نظرا إلى أن المعنى أمر حالي، والماضي المقرون ب? " قد " يفيد الحالية، فتأمل. وعن السجستاني: أنه صلة " التي " (2)، ولا يخفى فساده. ويمكن أن تكون الجملة صفة للنار، كجملة (التي وقودها). وتخيل ابن حيان: أن مفهومه عدم لزوم الاتقاء في غير تلك الحال (3) مبني على القول بالمفهوم، وهو لو صح لا يتم هنا، كما ترى، فتكون لها من الإعراب موضع، واحتمال كونها جوابا لسؤال مقدر (4)، غريب وخروج عن العربي المبين.
1- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 234، وروح المعاني 1: 197.
2- الجامع لأحكام القرآن 1: 237.
3- راجع البحر المحيط 1: 109.
4- نفس المصدر.