النزول وتأريخه

ربما يخطر بالبال: أن هذه الآية مع ما بعدها من الآيات المكية، لأن نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت معركة الآراء والتضاد في بدو طلوع الإسلام، فيحتاج التحدي ودعوى النبوة إلى الدفاع عنها بضرب أعناق الملحدين الكافرين المنكرين، وتحتاج النبوة في استقرارها إلى توجيه الناس إلى الإعجاز وأن المدعي ذو معجزة لا يتمكن الآخرون من الإتيان بمثلها. وأما في المدينة فقد تم الإسلام واستقر الحكم وخضع له الناس إلا من شذ، ولذلك ترى أن الآيات القصيرة مكية غالبا، لما فيه من إفادة الإعجاز وإبانة الوحي وإحياء النبوة بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، فلا تناسب بين تأريخ الإسلام، وهذه الآية إذا كانت مدنية، فيشكل الأمر على هذا في المقام، حيث اتفقوا على أنها مدنية. ومما يؤيد هذه المقالة: ما ورد في الآية السابقة، وأن قوله تعالى: (يا أيها الناس) مكي، فإن المناسبة واضحة بين هذه الآيات الأربعة وتأريخ طلوع الإسلام في مكة واشتغال المشركين بعبادة الأصنام والأوثان، بخلاف تأريخه في المدينة. ومما يؤيد أيضا ذلك: قوله تعالى: (أعدت للكافرين)، فإن بناء المحققين المفسرين على أن الآية السابقة عامة وهذه الآيات عقيبها، فتكون عامة، ولكن هذه الجملة تؤيد قول من يقول: بأن الخطاب مخصوص بالكافرين، ولا يصح هذه المخاطبة في أفق المدينة، بعدما كان الأكثر مسلمين، وبعدما أذعنوا للرسالة، وآمنوا بالرسول العظيم الإسلامي. وربما يؤيد هذه الشبهة: أن الآيات الأخر المشتملة على التحدي كلها مكية، فمنها قوله تعالى في سورة الإسراء: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1)، ومنها قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) (2)، ومنها في سورة هود: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) (3)، وقد روى الجمهور أنها - الثلاث - نزلت بمكة متتابعات (4)، فعليه يناسب أن تكون هذه الآية مثلها، لاقتضاء حياة الإسلام ذلك. أقول: ما ذكرناه وإن كان قريبا في حد نفسه وقابلا للتصديق في ذاته، إلا أن الاتفاق على أن سورة البقرة مدنية أولا. وأن في رواية عن ابن عباس: أن سبب النزول قول اليهود: " إن هذا الذي يأتيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه "، فنزلت الآية (5)، فتكون على هذا مدنية ثانيا، وفي رواية عن ابن عباس: أن سورة يونس مدنية (6). وهذا يؤيد بأن التحدي في السورة الأولى - وهي الإسراء - كان بالقرآن، ثم تنزل الأمر فتحدى بما في سورة هود، وهي مكية، وكان ذلك بعشر سور مفتريات، وفي المرحلة الثالثة بما في سورة الطور، وكان ذلك قوله: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) (7)، وفي المرحلة الأخيرة بما في سورة يونس والبقرة، فإن الطبع يقتضي ذلك، حتى يعلم الناس أن أرباب الفصاحة وأصحاب البلاغة وامناء الأدب والمتوغلين في كلام العرب، لا يتمكنون مطلقا، ويعجزون بالمرة عن التشبه به (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الأمر، فلا يأتون بمثل هذا القرآن، ولا بعشر سور، ولا بحديث مثله، ولا بسورة أقلها ثلاث آيات ثالثا.

وبالجملة: هذه الأمور الثلاثة تعاضد كون الآية مدنية، ومجرد اقتضاء الذوق والتأريخ، لا يكفي لمخالفة المسائل الأولية المشهورة التأريخية، بعد إمكان مساعدة المحيط والقطر لنزول مثلها، ومناسبة إعادة الكلام على المؤمنين تقوية لأرواحهم الطيبة، مع إمكان كون الآية متكررة النزول، فتكون مدنية ومكية، مع أن في تكرار الآيات الداعية إلى الإتيان بالمثل إعادة تعجيزهم وقرعا لأنفسهم وترغيبا بالإقرار بها. فتحصل: أن الأنسب ولو كان الأول، ولكن بعد الشهرة والاتفاق، واقتضاء بعض المناسبات والروايات، يتعين كون الآيتين مدنيتين.


1- الإسراء (17): 88.

2- يونس (10): 38.

3- هود (12): 14.

4- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 40 - 43، وتفسير المنار 1: 193.

5- راجع البحر المحيط 1: 102.

6- راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 47.

7- الطور (52): 34.