بحوث اللغة والصرف
الآيتان الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
البحث الأول: حول هيئة الأمر قد مر مباحث " إن " الشرطية و " الريب " و " ما " و " النزول " و " العبد " ومفاد " الأمر " فيما سلف. والذي نشير إليه إجمالا: أن المشهور في كتب الأدب، وفي طائفة من الموسوعات الأصولية: أن هيئة الأمر تأتي لمعان، ومنها " التعجيز "، وقد مثلوا بهذه الآية له. والحق: أن هيئة الأمر لمعنى واحد إلا أنه تأتي على دواع مختلفة، كلها ترجع إلى مقام الاستعمال، وتحقيقه قد مضى، وتفصيله يطلب من موسوعتنا في الأصول (1).
البحث الثاني: حول كلمة " السورة " " السورة " - بالضم - المنزلة والرفعة والمجد والفضل والشرف، وما طال من البناء إلى جهة السماء، والعلامة وعرق من عروق الحائط، والقطعة المستقلة، وفي " الأقرب ": يقال: سؤرة - بالهمزة - وهي لغة. جمعها: سور وسور وسورات وسورات (2). انتهى. وفي " تاج العروس ": ومن المجاز السورة - بالضم - المنزلة، وخصها ابن السيد في كتاب " الفرق " بالرفيعة. وقال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة. وقال الجوهري: أي شرفا ورفعة (3). وفي " القاموس ": السورة من القرآن أي معروفة لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى (4). وقال أبو الهيثم: السورة من القرآن عندنا قطعة من القرآن. وقال الأزهري: وكأن أبا الهيثم جعل السورة من سور القرآن من أسأرت سؤرا، أي أفضلت فضلا، إلا أنها لما كثرت في الكلام وفي القرآن، ترك فيها الهمز، كما تركه في الملك، وفي المحكم: سميت السورة من القرآن سورة، لأنها درجة إلى غيرها، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة، وأكثر القراء على ترك الهمزة فيها. وقيل: السورة من القرآن يجوز أن تكون من سؤرة المال ترك همزه لما كثر في الكلام (5). وعن صاحب " القاموس " في " البصائر " نقلا عن بعضهم: أنها سميت سورة تشبيها بسور المدينة، لكونها محيطة بآيات وأحكام إحاطة السور بالمدينة (6). انتهى. ثم إن هناك أقوالا من أرباب الذوق والنظر، فكل توهم أن وجه تسميتها بها لأجل واحد من تلك المعاني (7). وربما يتوهم أن في هذا الخلاف لا يوجد أثر، ولكنه مضافا إلى وجود ثمرة فقهية - فيما إذا نذر أو عاهد أو استؤجر على قراءة سورة، أو فيما إذا ورد في الأخبار وجوب قراءة سورة في الصلاة، أنه هل يكفي قطعة من القرآن، لأن السورة قطعة، أم لا؟- أن القرآن تحدى بالسورة في هذه الآية الشريفة، فربما يمكن الإتيان بقطعة ولا يمكن بسورة. اللهم إلا أن يقال: إن القطعة لا تصدق على الآية الواحدة أو الآيتين، فلا أقل من كونها ثلاث آيات، فلو جاز الإتيان بثلاث آيات مثلها، فيمكن جعلها سورة، لأن في القرآن سورة لا تزيد على ثلاث آيات، كسورة الكوثر. وبالجملة: هنا مسألتان: الأولى فيما هو الموضوع له، الثانية في وجه التسمية. أما الأولى: فالظاهر أن إجماع المسلمين على أن السورة ما هو المعين في القرآن الذي بين أيدي المسلمين. وأما الثانية: فلا أثر في الخلاف المذكور جدا، ولا يجوز اتباع الظن، ف? (إن بعض الظن إثم) (8)، وربما يرجع وجه التسمية إلى إسناد ذلك إليه تعالى وتقدس، وعندئذ لا يجوز قطعا، وذلك لأن ذكر المناسبات والوجوه لتسمية السورة من القرآن بالسورة، يرجع إلى أن إطلاقها عليها في القرآن يكون لهذا أو ذاك، ومعناه أن صاحب الكلام أراد هذا وهذا لا ذاك وذاك، وهذا تخمين وخرص بالغيب من غير دليل، ومجرد اقتضاء الذوق والشعور ذلك لا يكفي، ضرورة أن المتكلم ربما يريد في تعبيره عن القطعة الخاصة بالسورة، ما هو الأبعد عن أذهاننا، والأقرب إلى المقصود المأمول الواقعي، كما لا يخفى. وقد ذكروا أشخاصا كثيرين في هذه الصحنة وتلك المشاجرة، فذهب كل إلى ذكر مناسبة، لا يهمنا استقصاؤهم بعدما عرفت سره، فما هو المفروغ عنه أن السورة في القرآن: هي القطعة المعهودة حسب الإطلاق والوضع الثانوي، ولا وجه لتوهم المناقشة في ذلك.
البحث الثالث: حول كلمة " الدعاء " و " الشهداء " " الدعاء ": الاستعانة والصيحة والنداء، والأظهر أنه النداء (9)، والاستعانة من المنادي ليست داخلة في مفهوم اللغة. نعم ربما هي غرض النداء، وتفسير الدعاء بالصيحة في غير محله، لأن الصيحة لازم، والدعاء متعد، والأمر بعد وضوحه سهل. والشهداء: جمع " الشهيد " حسب القاعدة القياسية في جمع الصفات، فإنها ستة: فعال وفعلة وفعل وفواعل وفعلاء وأفعلاء (10)، والفعلاء تأتي جمع " فعيل " بمعنى الفاعل، فإن الشهيد بمعنى الشاهد، والعليم بمعنى العالم، والنصير بمعنى الناصر. والحق: أنها تأتي لفعيل مطلقا، كشرفاء وشريف وكرماء وكريم وعظماء وعظيم، ولعله فيه الأكثر، بل ذلك قطعي، فما في صرف " المنجد ": من أنها لفعيل بمعنى فاعل (11)، غلط. وفي " الأقرب ": الشهيد والشهيد - بكسر الشين - جمعهما: شهداء، وهو بمعنى الشاهد والأمين في شهادته، والذي لا يغيب عن علمه شئ، والقتيل في سبيل الله (12). انتهى. وأما الشهادة ففي " الأقرب " هو الخبر القاطع (13). انتهى. ومن الغريب سكون الهاء من شهد شهادة أي أداها. فيبقى هنا سؤال عن: أن الشهداء هم الامناء في الخبر، فيكونون مخبرين، وأيضا الشهداء جمع الشاهد، بمعنى الحاضر المطلع على الشئ، والذي يعاينه. وهذا بحسب المادة مختلف مع ما سبق، فإن الشهادة مصدر " شهد " بمعنى الإخبار وأداء الشهادة، والشهود مصدر " شهد " بمعنى الحضور، والشاهد بالمعنيين بمعنى الشهيد حسب ما يظهر من اللغة، وهو وإن كان ممكنا، ولكن الأظهر أنه بمعنى المخبر، كما لا يخفى. فعلى هذا تكون الآية الشريفة في هذا المقام مجملة، لأنه كما يمكن أن يدعوهم إلى المخبرين، يصح أن يدعوهم إلى أن يأتوا بالحاضرين. ولعمري إن هذه المشكلة وإن لم تكن مورد النظر في كلماتهم، إلا أنها لا تضر بالمقصود المأمول في المقام أيضا، فلا تغفل.
البحث الرابع: حول كلمة " دون " و " الصدق " و " الإتيان " " دون " نقيض فوق، تقول: هو دونه، أي أحط منه رتبة، ويكون ظرفا بمعنى أسفل، تقول: هذا دون ذاك، أي أسفل منه، وبمعنى أمام، نحو شئ دونه، أي أمامه، وبمعنى وراء، يقال: قعد دونه، أي وراءه، وبمعنى فوق، وهو ضد الأول، وبمعنى غير، وبمعنى الشريف والخسيس - ضد - يقال: شئ دون، أي خسيس، وشئ من دون، أي حقير ساقط، ورجل من دون. هذا أكثر كلام العرب وقد تحذف " من " وتجعل دون نعتا، ولا يشتق منه فعل. انتهى ما في " الأقرب " (14). وربما يظهر: أن " دون " ليس بمعنى مطلق الغير، بل هو الغير الأدون، فيكون " دون " من الدني الأدون، ومن الدنو والقرب، فإطلاقه على الفوق والوراء من باب أحد مصاديق القرب من الشئ، كما أن إطلاق " دون " على الخسيس لأجل كونه تارة من الدنو، وأخرى من الدني، وثالثة يطلق على الشريف، ولكنه قليل جدا، فربما يكون من باب التهكم والاستهزاء، كما يقال للأسود: الماس. وفي بنائه وصرفه خلاف، فإن ذكر مع " من " فيكسر: إما لكونه مجرورا بمن أو لبنائه، وإذا ذكر بدونه فهو مفتوح على الأكثر، وربما يتصرف حسب العوامل عند بعض النحاة، كالأخفش (15)، وعليه بعض القراءات (16). ثم إن البحث حول " الصدق " وتعريفه، و " الكذب " ومعناه، وذكر الأقوال فيهما، يناسب المقام الآخر - إن شاء الله - كما لا يخفى على أهله. وأما " الإتيان " فهو مصدر أتى يأتي أتيا وإتيانا ومأتاة، لازم ومتعد، أتى الأمر فعله، والمكان حضره، والأمر منه " ايت "، " اوت " وتصريفه: ت تيا توا تين، مثل ق قيا قوا (17)، وقال الشاعر: ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة إلى آخره (18).
البحث الخامس: حول كلمة " لن " " لن " المشهور أنها حرف نصب واستقبال ونفي، والأقوى أنها بسيطة موضوعة على نعت سائر الحروف الموضوعة، ولا وجه لإرجاع بعض الحروف إلى بعض بعد اختلاف المعاني والآثار. وبالجملة: هنا اختلافات: منها: بين المشهور والخليل والكسائي، حيث ذهبا إلى تركبه من " لا " و " أن "، ويدفعه قصور الدليل، ولا حاجة إلى دليل على ضدهما، كقول ابن هشام في " المغني " متخذا عن سيبويه، حيث قال: ولو صح ما عن الخليل لجاز أن نقول: زيدا لا أن أضرب، وقد جوزوا: زيدا لن أضرب، فمنع الأول وتجويز الثاني، يشهد على بطلان رأي الخليل (19). وفيه: أن كلامه يدور حول ما هو الأصل المتخذ منه هذه اللغة، وهذا لا ينافي اختصاص الكلمة المتفرعة بمعنى خاص وبأثر يخص بها، كعدم جواز تقديم معموله عليه بالنسبة إلى الأصل دون الفرع، فتأمل. ومنها: بين المشهور والفراء، فذهب إلى أن النون بدل من ألف " لا " (20)، وما في " المغني ": من أن المعروف إنما هو إبدال النون ألفا، لا العكس، نحو " لنسفعا " و " لنكونا " (21)، غير جيد، لأن حذف نون التأكيد الخفيفة وإبداله بالألف أمر رائج، ولا سيما في الأشعار، وقد احتمل شراح " العقدة " في قوله: " قفا نبك ": أن الألف بدل النون (22). ومنها: بين المشهور والزمخشري، فذهب في أنموذجه إلى أن المنفي ب? " لن " للتأبيد، كما هو المعروف بين التلاميذ، ويبطله قوله تعالى: (لن أكلم اليوم إنسيا) (23)، وقوله تعالى: (لن يتمنوه أبدا) (24)، (25). ويتوجه على الأول: أن " لن " لاستغراق الزماني والزمان، والآية تستغرق الزماني. وعلى الثاني: أن التأكيد أمر شائع نعم التأبيد يحتاج إلى الدليل، ولو كان مجرد اشتراكها مع " لا " موجبا لكونها لنفي الأبد لكان الأمر ينعكس، والمسألة محتاجة إلى التأمل. ومنها: بين المشهور والزمخشري أيضا، فذهب إلى أن " لن " لتأكيد النفي في " الكشاف " (26). والإنصاف: أن بين المنفي به وب? " لا " فرقا حسب ما يتبادر منهما، فيكون الأول في مورد التأكيد أو في موارد ادعاء الأبدية أحيانا، ولذلك ترد حسب الاستعمالات في هذه المواقف، كهذه الآية، وقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا) (27) دليل على فساد رأيه الأول، ويؤيد الرأي الأخير أيضا. ومنها: بين الطائفتين منهم، فذهب جمع كابن عصفور إلى أنها تأتي للدعاء، نحو " لن تزالوا كذلكم " (28). والحق: أن الجملة في مصب الدعاء، وقد خلطوا في ذلك كثيرا. ومنها: غير ذلك مما يذكر في المفصلات.
البحث السادس: حول كلمة " الحجارة " قد مضى البحث حول كلمات " التقوى " و " النار " و " الوقود " و " الناس " و " الكفر ". وأما الحجارة ففي " الأقرب ": الحجر معروف جمعه: أحجار وحجار وأحجر وحجارة، وعن أبي الهيثم: العرب تدخل الهاء في كل جمع على فعال أو فعول نحو ذكارة وفحولة. وربما كني بالحجر عن الرمل، والحجران: الفضة والذهب (29). انتهى. وقوله: الحجر الأسود: هو حجر البيت، قد اسود لكثرة ما تلمسه أيدي الحجاج (30). انتهى. رجم بالغيب ومبني على فساد مذهبه وسوء رأيه وسريرته. وربما يطلق الحجارة على حجارة الكبريت (31). وقيل: بل الحجارة هي بعينها (32)، ويحتمل أن تكون التاء لإفادة العموم المجموعي، أي طائفة من الأحجار، فلحقت بالحجار فأفادت ذلك، فإن الوقود هو المجموع بالانضمام. والله العالم.
1- راجع تحريرات في الأصول 2: 77.
2- أقرب الموارد 1: 556.
3- راجع تاج العروس 3: 283.
4- راجع القاموس المحيط: 527.
5- تاج العروس 3: 283.
6- نفس المصدر.
7- راجع الكشاف 1: 97، والبحر المحيط 1: 101.
8- الحجرات (49): 12.
9- راجع أقرب الموارد 1: 337.
10- راجع المنجد، المقدمة: م.
11- نفس المصدر.
12- أقرب الموارد 1: 618.
13- راجع أقرب الموارد 1: 618.
14- راجع أقرب الموارد 1: 361.
15- البحر المحيط 1: 102.
16- راجع البحر المحيط 1: 102، والإتقان في علوم القرآن 2: 230.
17- راجع أقرب الموارد 1: 3.
18- البحر المحيط 1: 101، تاج العروس 10: 8.
19- راجع مغني اللبيب: 148.
20- البحر المحيط 1: 102.
21- راجع مغني اللبيب: 148.
22- راجع لسان العرب 1: 38، والتعبير عجز بيت من امرؤ القيس.
23- مريم (19): 26.
24- البقرة (2): 95.
25- راجع مغني اللبيب: 148، والإتقان في علوم القرآن 2: 278.
26- راجع الكشاف 1: 101.
27- آل عمران (3): 92.
28- مغني اللبيب: 148.
29- راجع أقرب الموارد 1: 165.
30- نفس المصدر.
31- المفردات في غريب القرآن: 108، تفسير التبيان 1: 107.
32- نفس المصدر.