التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء)، قال: جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسامكم، ولم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرد فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم - تهلككم - ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون. (والسماء بناء) سقفا فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم. (وأنزل من السماء ماء)، يعني المطر من أعلى، ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم ووهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا لتسقى أرضكم. (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) يعني مما يخرجه من الأرض لكم (فلا تجعلوا لله أندادا) أي أشباها وأمثالا، من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ، (وأنتم تعلمون) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى (1). انتهى.

وقريب منه مسلك المحدثين الأولين: (الذي جعل لكم الأرض فراشا)، فهي فراش يمشى عليها، وهي المهاد والقرار عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، (فراشا) أي مهادا لكم، عن قتادة وأنس. (والسماء بناء) فبناء السماء كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض، عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن قتادة: جعل السماء سقفا لك، (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا) أي عدلاء عن قتادة، (أندادا)، أي أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم). وقال ابن يزيد في قول الله: (فلا تجعلوا لله أندادا) الأنداد الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له، وعن ابن عباس: أي لا تجعلوا أشباها، وعن عكرمة: (فلا تجعلوا لله أندادا)، أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار.. ونحو ذلك، فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا وأن يعبدوا غيره. (وأنتم تعلمون) أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لاشك فيه. وعن قتادة: أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض، ثم تجعلون له أندادا. وعن مجاهد: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، أنه لا ند له في التوراة والإنجيل.

وعلى مسلك أرباب التفسير: (الذي) أي اعبدوا الذي (جعل لكم الأرض فراشا) صالحة للافتراش والإقامة فيها (والسماء بناء) أي هو الذي كون السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوى أجرامها على ما نشاهد، وأمسكها بسنة الجاذبة العامة حتى لا تقع على الأرض، ولا يصطدم بعضها ببعض حتى يأتي اليوم الموعود. (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذى به النبات، وأخرج به من الثمرات ما تنتفع به وتأكله، (فلا تجعلوا لله أندادا) فلا تعبدوا الأوثان والأصنام، ولا تجعلوها أمثالا، ولا تتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا (وأنتم تعلمون) بطلان ذلك، وأنكم أنتم الذين قلتم في جواب قوله تعالى: من رزقكم من السماوات والأرض ومن يدبر الأمر، إنه هو الله، فلم إذا تدعون غيره وتستشفعون به ؟! وقريب منه: (الذي جعل لكم) أيها الكفار والمشركون والملحدون (فراشا) مركزا للتربية في أنحاء الحركات المادية والمعنوية (والسماء بناء) وسقفا مرفوعا، ليستولي عليكم ولا يسقط فيهلككم، كلا بل السماء فيه الخير الكثير، كيف لا ؟! (وأنزل من السماء ماء) وكون فيها ماء المطر (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) وإن كان رزقا لأنعامكم وسائر الموجودين، إلا أنكم أولى بذلك منهم، فكيف تشركون بمثله، (فلا) ينبغي أن (تجعلوا لله) الذي صنع كذا، ويكون على كذا (أندادا)، ولا تتخذوا جماعة من الأسفلين لكم أربابا، فإنه لا يليق بساحتكم وبجنابكم. (وأنتم تعلمون) وأنتم من العلماء الراشدين المهتدين المتوجهين إلى أطراف المسألة وضواحي القضايا والمسائل. وقريب منه: (الذي جعل) وأوجد الأرض لكم أيها المؤمنون الموحدون للذات وللصفات والأفعال (فراشا) وبساطا ومهدا كاملا تنامون وتتقلبون عليها، (والسماء بناء) والجو المتراكم الأخضر الأزرق كالبناء والسقف لبيتكم، وهي الأرض، (وأنزل) الله تعالى (من) ناحية (السماء ماء) المطر وإن كان منشؤه من الأرض، نظرا إلى تسهيل الأمر عليكم، رأفة بكم وعطوفة بمعاشكم واستراحتكم (فأخرج به) الله تعالى (من الثمرات رزقا لكم) وثمراتكم التي هي أرزاقكم بداعي بقائكم الذي هو محبوب كل ذي حياة، فهذا الرب الناظر في أمركم التكويني والاجتماعي، وهذا الإله الخالق لهذه الوسائل والأسباب الكثيرة، المنتهية إلى بقائكم في هذه النشأة، يطلب منكم ويدعوكم إلى المعاش الأعلى والنشأة الآخرة، وكسب الفضائل وجلب الحياة الطيبة لها، بقوله: (فلا تجعلوا لله أندادا) حتى تصلوا إلى الحياة الكاملة الأرفق والدار الآخرة الأوسع والأسعد (وأنتم تعلمون) أنه غني عنكم وعن عبادتكم وعن توسيط الأسباب، وعن خلق الآباء والسماوات والأرض، فيكون كل ذلك راجعا إليكم. وقريب منه: أن الله الذي كان خلقكم بيده ورباكم وأحسن تربيتكم، جدير بأن يعبد ولا يعبد غيره، ولا يجعل له الأنداد والأضداد، وهو أيضا جدير لأنه - مضافا إلى تلك النعم المشتركة بينكم وبين سائر الموجودات - (جعل لكم الأرض فراشا) وصير لكم ولأجلكم - اهتماما بشأنكم وإفضالا بحقكم - الأرض مبسوطة غير كروية بساطا غير مستدير، وفراشا على غير الأشكال السماوية، حفاظا عليكم. (و) جعل لكم لا للغير - ولو كانت الأغيار مستفيدين من هذه النعم - (السماء بناء وأنزل من السماء ماء) بداعي شأنكم والرفق في حقكم، فأنتم وسائر الخلائق المادية، مشتركون في أن الله خالقكم وخالق الأسباب المنتهية إليكم، من الآباء والأمهات والأجنة والنواة، ولكنم مخصوصون بأن خلق الأرض والسماء الخاص وإنزال الماء كله لكم (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) فعلى هذه النعم الإيجادية أولا، والإمداية ثانيا، والإعدادية القريبة منا في الإفادة والاستفادة ثالثا، لا ينبغي أن تجعلوا أندادا، (فلا تجعلوا) بإنصافكم ومروتكم (لله أندادا)، فإنه ظلم وطغيان وعصيان وخذلان وخروج عن الفطرة وعن جادة الإنسانية (وأنتم تعلمون) جميع هذه الأمور بعد الرجوع إلى مغزاكم، وبعد التدبر في أمركم وحالكم ومبدئكم ومعادكم ومعاشكم.

وعلى مسلك الحكيم الإلهي: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) فانتهى مصالح افتراش الأرض إليكم، وكانت الأرض منافعها واصلة إليكم بما فيه الخير الكثير، من غير أن تكونوا أنتم غاية فعله تعالى، فإنه أعز شأنا من أن يعلل أفعاله بهذه الأغراض الدانية. (والسماء) وهو الجسم الكلي (بناء) عليكم، (وأنزل) الله (من السماء) وجهة العلو (ماء فأخرج) الله تعالى (به) وبهذه المعدات والأسباب الناقصة والقوابل (من الثمرات رزقا لكم) يصل إليكم، ويصرف في حقكم، وينتهي إليكم (وأنتم تعلمون) سطوح هذه الأمور واشباح هذه الأسباب والعلل. وقريب منه: (فلا تجعلوا لله أندادا) في الألوهية والصفة والفعل والعبادة (وأنتم تعلمون) حقائق الأشياء والماهيات والذوات بأنفسها.

وعلى مسلك المتكلم: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) وأراد لأجلكم افتراش الأرض (والسماء بناء) والفلك مبنيا عليكم، وسقفا لكم كسقف بيوتكم (وأنزل من السماء ماء)، وأراد بعد ذلك بإرادة أخرى إنزال الماء عليكم، (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) ثم بعد ذلك أراد أن يرزقكم، فأخرج متوسلا إلى السبب المزبور من الثمرات الموجودة في الأرض والكامنة في جوفها بنحو من الأنحاء (فلا تجعلوا لله أندادا) في مقام العبادة، فلا تعبدوا الأوثان والأصنام (وأنتم تعلمون) دون غيركم من البهائم والحيوانات.

وعلى مسلك العارف: (الذي جعل لكم) بالتبع وبالعرض (الأرض فراشا و) هكذا (السماء بناء وأنزل) بالإرادة الفانية في الإرادة الكلية (من السماء ماء فأخرج به) على النحو المذكور (من الثمرات رزقا لكم) بالتبع والمجاز (فلا تجعلوا لله أندادا) في جميع مراحل وجودكم في كافة اللطائف الموجودة فيكم من مقام الطبع إلى مقام السر والخفي والأخفى (وأنتم) مظاهر العالم الحقيقي (تعلمون) كما يعلم الله تعالى، وتدرون كما هو يدري. وقريب منه: (الذي جعل لكم الأرض) البدن (فراشا والسماء) المتعلقة بها، وهي النفس (بناء) عليها (وأنزل من السماء) وتلك النفس (ماء) العقل (فأخرج به من الثمرات) والفضائل العلمية والعملية والقوى الحيوانية والنباتية (رزقا لكم) في جميع مراحل معاشكم الروحي والجسمي (فلا تجعلوا لله أندادا) في جميع هذه المراحل الداخلية، كما لا ند له في الإنسان الكبير (وأنتم تعلمون) بعموم انتفاء الأنداد والأضداد، وبامتناع جعل الند له تعالى. وقريب منه: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) (الذي) خلقكم و (جعل لكم الأرض) أمكم (فراشا) لكم (والسماء) الأب (بناء وأنزل من السماء) الأب (ماء) النطفة (فأخرج به من الثمرات) التي هي المواليد (رزقا لكم) أي هي الأرزاق أو الأولاد الموجودين أرزاق للآباء السالفين (فلا تجعلوا لله) الرب الذي رباكم على هذه الوتيرة، وخلقكم على هذا النمط (أندادا وأنتم تعلمون) كيفية الخلق وتطورات مصيركم التوليدي والتربوي.

وعلى مسلك الحكيم الطبيعي: (الذي جعل لكم الأرض) التي بين أيدينا والأراضي الاخر التي في الجو اللا متناهي بكثرتها (فراشا) حتى نتمكن من الصعود إليها ونفترشها بالوجه اللازم في استخدامها، (والسماء) والكرة البخارية المستولية عليها وعليكم (بناء) لها ولكل أرض، (وأنزل من السماء) وتلك الكرة البخارية الغازية المحشوة بالأجزاء الكهربائية المعبر عنها ب? " الزمهرير " أو الجلد أو أتمسفر أو غير ذلك (ماء) متصاعدا من سطوح البحار، الذي كان حين تصاعده الأجزاء الصغيرة البخارية السحابية المتراكبة، ثم يتقاطر بالاصطكاك في السطوح الثلجية، (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، فتكون الثمرات مستخرجة من الأرض، وكأنها فيها بنحو الكمون، فأبرزت بالماء النازل، فإن أجزاء الأثمار منتشرة في الأرض وباطنها، وحسب قانون الجاذبة تكون السنخية بين تلك الأجزاء وبين النواة، فتكون هي خارجة من الأرض، لا مستفاضة من الغيب، ولا مفاضة من الفياض الإلهي، إلا برجوع الأسباب الطبيعية إليه تعالى وتقدس. (فلا تجعلوا لله أندادا) ولا تكونوا كسائر الطوائف السالفة من زمان نوح وقبله إلى زمان نزول القرآن، فإن الناس كانوا من أول الأمر يعبدون غير الله، ولذلك كان نوح يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، وهكذا سائر الأنبياء إلى خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين، فمنهم من يعبد الطلسمات والمجردات المتوهمة حسب تخيلاتهم، ومنهم من يعبد المظاهر الخاصة بهم والكواكب التي توهموها أنها صورة تلك الملائكة وهيكلها، هكذا حتى يقال: إن منهم من يعبد ويتقرب بالنار أو بالعدد أو بالماء أو بالإحليل والفرج في بلاد الهند وبعض أقطار الصين، إلى أن وصلت النوبة إلى شبه جزيرة العرب، فأول من حمل " حبل " إلى مكة عمرو بن طي في رجوعه من سفر بلقاء، وكان ذلك في أول ملك ذي الأكتاف، وكان في قبائل العرب أوثان معروفة مذكورة بعضها في الكتاب العزيز، مثل " ود " بدومة الجندل، و " سواع " لبني هذيل، و " يغوث " لبني مذحج، و " يعوق " لهمدان، و " نسر " بأرض حمير لذي الكلاع، و " اللات " بالطائف لثقيف، و " مناة " بيثرب للخزرج، و " العزى " لكنانة بنواحي مكة و " الساف " و " نائلة " على الصفا والمروة، وكان قصي جد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاهم عن عبادتها حسب المحكي في بعض الكتب، (وأنتم تعلمون) تأريخ هذه الأباطيل وعارفون أنها من أين جاءت، وبيد من وضعت في البيت (3).


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 142 - 143 / 72، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 137 - 138 / 36.

2- راجع حول جميع هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 162 - 164.

3- راجع التفسير الكبير 2: 114، وتفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 115 - 122.