بعض المسائل العقلية والبحوث الفلسفية والهيئوية

المسألة الأولى: حول كون الأرض مستديرة وهذه الآية كان في قديم الأيام قوم يحاجون في أن الأرض مستديرة كروية كسائر ما يرون في السماء، أم هي غير مستديرة، وعلى الثاني أيضا خلاف، فذهب جمهور المنجمين إلى الاستدارة قياسا بين الأجرام، وشذ من يقول: بأن الأرض مفروشة مسطحة، حتى وصلت النوبة إلى جمع من فضلاء المسلمين، فتوهم بعضهم: أن في الكتاب العزيز آيات تدل على أنها ليست مستديرة، ومنها هذه الآية ومنها ما في الآية الأخرى: (بساطا) (1)، وحكي عن السيد المحقق المرتضى (قدس سره): أنها لا تدل على خلاف نظرية القائلين بالاستدارة، لأن مبسوطية الأرض نسبية بالضرورة، لما فيها من الجبال والمرتفعات غير المبسوطة، وهذا لا ينافي الكروية الثابتة لمجموع الأرض، كما لا يخفى (2). وبعبارة أخرى: قد اشتهر بين جمع: أن نسبة أرفع جبال الأرض إلى الأرض، نسبة سدس عرض الحنطة إلى كرة قطرها ذراع، فكما هو لا يضر بكرويتها، كذلك انبساط الأرض، فإن معنى البسط هو ما يقابل الفرش مما لا استراحة فيه، أو لا يمكن ذرعها وحرثها... وهكذا، فالاستدلال في غير محله جدا، فما عن أبي علي الجبائي والبلخي من دلالتها على خلاف مرامهم (3) في غير محله. وأسوأ حالا من ذلك توهم دلالة الآية الشريفة على سكون الأرض وقرارها، كما في تفسير الفخر وغيره (4)، وقد أخذ هنا في مباحث تضحك منها الثكلى، وكأنه بمجرد المماسة بين الألفاظ والأوضاع يبني على البحث عن كل ما يرتبط بها، ولأجل هذه المسائل الأجنبية عن الآيات صار تفسيرا ضخما غافلين عن أن التفسير وفهم مداليل الكتاب غير التشحيم والتلحيم والتورم، فلا تكن من الجاهلين.

المسألة الثانية: حول دلالة الآية على هيئة بطليمس وربما يستند إلى ظواهر هذه الآيات ومنها قوله تعالى: (والسماء بناء) في أن هيئة " بطلميوس " كانت مورد تصديق الكتاب العزيز، فإن الأفلاك أبنية على الأرض ومحيطة بها، ولذلك قال الجاحظ خذله الله تعالى: " إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه، وضروب النبات مهيأة " (5) انتهى. وقد اغتر بهذه الظواهر جمع من عقلاء الإسلام وأرباب النظر في المقام، غافلين عن حقيقة المرام، وهو أن العالم عبارة عن الفضاء المحصور المحدود أو غير المحدود على الخلاف فيه، وفيه الأجرام الكروية، وربما يوجد غير الكروية، إمكانا في الأزمنة الآتية، وتلك الأجرام بين ما هي قريبة بعضها من بعض وما هي بعيدة، وفيما تكون الأجرام بعيدة تحصل لأجل هذا البعد سطح أخضر اللون يضرب بالأزرق، وقد سماه العرب لتخيل أنه أمر واقعي ب? " السماء "، لكونه في جهة العلو. وهذا المعنى ولو كان بحسب الواقع من خطأ الأبصار، ولكن لما كان لجميع الخطايا والأخطاء مناشئ خاصة خارجية تستند تلك المناشئ بتخيلاتها إلى المبدأ الأعلى، لأنها ذات حظ من الوجود، ويصح جعل اللفظ لها وإطلاقها عليها بالضرورة. وقد مر شطر من البحث حول هذه الجهة، و (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (6).

المسألة الثالثة: حول كيفية خلق المطر اختلفت أرباب الحل والعقد في كيفية خلق المطر - كما مر تفصيله - وربما يستند إلى قوله تعالى: (من السماء ماء) على أن ماء المطر يتكون من السماء، لأن " من " نشوية فينشأ المطر من جانب العلو، ولو أريد بذلك ما به مطرية المطر، وهي القطرة الخاصة بحدودها، فالحق أنها من السماء، ولعل الآية أيضا ناظرة إلى أن ماء المطر من السماء، وإن أريد أن ما هو مادة المطر - وهي الجهة المشتركة بين المطر والبئر - توجد في جو السماء فهو باطل عاطل، وقد مر شطر من البحث حوله فيما سلف.

المسألة الرابعة: حول الوسائط في الأفعال الإلهية إن قوله تعالى: (فأخرج به من الثمرات) شاهد قطعي على وجود الوسائط في الأفعال الإلهية، خلافا للأشعري، حيث تخيل: أن قانون العلية باطل، وأن الله تعالى جرت عادته على أن يجري الأمور بأسبابها، بمعنى أن الله يريد عقيب كل علة معلولها، من غير دخالة للعلة في ذلك (7)، وقد مر كرارا ما يدل من الآيات على فساد مقالتهم، وهذه الآية كالنص، فافهم واغتنم.

المسألة الخامسة: حول تعدد إرادة الله اختلفوا في أن الله تعالى يريد الإرادات الكثيرة المتناهية أو الغير المتناهية، أو لا يريد إلا إرادة واحدة أزلية أبدية، فذهب جمهور المعتزلة إلى الأول وأبو البركات البغدادي إلى الثاني. وأما المذهب الوسط الفصل والرأي الجزل: أن ذاتا واحدة ذات إرادة واحدة. وبالجملة: هذه الآية الشريفة ظاهرة في تعدد الإرادة وتعاقبها حسب تعاقب الحوادث، حيث قال الله تعالى: (أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات)، فيكون بين الإرادات ترتب، فيكون الترتب دليلا على التعدد، وإلا فلا يعقل الترتب بين الأمر الواحد، ولا في الأمر الفارد، وأيضا قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) بعد قوله تعالى: (ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، فإنه أيضا ظاهر في التعدد والترتب بين الزمانيات، يستلزم الترتب في الإرادة، وتعاقب بعضها عقيب بعض يلازم تعاقب الإرادات. أقول: قد بلغ إلى نصاب التحقيق وميقات التدقيق: أن هذه المقالة وأشباهها في حقه تعالى تستلزم فساد ذاته - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - وذلك لأن الإرادة الإلهية إذا كثرت حسب الحوادث يلزم كونها معرض الحوادث، فتكون ذاتها محل الزمانيات، فيكون هو في أفق الزمان - تعالى عن ذلك وتقدس - فإرادته تعالى واحدة، وليست هي إلا فعله تعالى الذي به تظهر الأعيان من مكامنها والماهيات من الخبايا والزوايا، وتلك الإرادة الواحدة الواسعة الجامعة مختلفة الحكم حسب الآفاق المختلفة، ففي المفارقات ليست محكومة بالتدرج والتحرك، لأن وجود هذه الموجودات على نعت الوحدة، ولا حالة انتظارية لهم حتى يتحركوا نحو كمالاتهم، وفي المزاولات للمواد والتحركات الواقعة في حدود الزمان وأطرافها ونواحيها، هو عين الوجود المتحرك نحو كماله اللائق به، من غير سراية التجدد إليه تعالى، لأن الفعل وإن كان عين الربط إلى الفاعل إلا أنه غير الفاعل، ولأجل تلك البينونة والغيرية لا تسري أحكام المادة إليه جل وعلا، فلا كثرة في الإرادة حتى يتوهم أن إرادته تشبه إرادتنا، فإن القياس - ولو صح في مورد - هو باطل في المقام، وتفصيله لأهله في محله. وإلى كل ذلك يشير ما عن المعصومين (عليهم السلام): " إنما إرادته فعله " (8)، وعن الأمير (عليه السلام): " ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج " (9)، فكن على بصيرة. فعلى هذا تكون الآية الشريفة مشعرة بأن هذه الحوادث - مضافا إلى أنها مستندة إليه تعالى وإلى إرادته - تكون مشعرة بأن كيفية وجود الحوادث تقدما وتأخرا تابع لكيفية تعلق الإرادة التي هي نفس وجودها، ولذلك صح أن يقال: (أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) على وجه الترتيب، فعلى هذا تبين أن الآية الشريفة لا تدل على مرام الخصم، ولا ينافي مرامنا هذا. وقد تحرر في محله: أن الحقائق الحكمية لا تقتنص من الإطلاقات العرفية، ولا من ظواهر الآيات الإلهية، فليتدبر جيدا.

المسألة السادسة: حول الغاية في فعله تعالى من المسائل الخلافية المحررة في الكتب العقلية: أن العالي لا يفعل للداني، والأعالي لا تصنعون للأسافل، فإن غاية الفعل هي جهة كمال الفاعل، ولو كان الله تعالى يفعل للخلق، يلزم أن يستكمل به بعد حصول الغرض وتحقق الغاية والداعي، أو يلزم الاحتياج، فيكون بعد تحققها واصلا إلى حاجته ومقصوده، كما هو كذلك في الأسافل بعضهم بالقياس إلى بعض آخر. وذهب الناس إلى خلافه حتى قال " المثنوي المعنوي ": من نكردم خلق تا سودى كنم بلكه تا بر بندگان جودي كنم (10) ولكنه منه من باب التنازل والتربية، وإلا فأمثال هذه المعارف ليست مخفية على مثله. وقد ورد في أخبارنا ما يومئ إليه، ومنه الحديث القدسي: " كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لكي اعرف " (11)، ومنه: " لولاك لما خلقت الأفلاك " (12)، و " خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي " (13)، فتكون الغاية بالذات نفس ذاته تعالى التي هي مبدأ المبادئ وغاية الغايات، ولكن هذه الآية وأشباهها تدل على أنه تعالى يفعل للداني، حيث (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). والتحقيق: أن اللام لا تدل إلا على أصل الغاية، وأما أنها للغاية القصوى فهي خارجة عن مفهومها ومضمونها، فلا ينافي أن تكون هذه الأفعال ذات غايات طولية، فتأمل. ويمكن أن تكون هي للغاية بمعنى ما إليه الحركة، لا ما لأجله الحركة، كما تحرر في محله، فتكون اللام هنا للغاية، ولكن الغاية التي هي لأجلها الخلق أمر آخر أرفع وأسنى، فكن على بصيرة من الله تعالى.

المسألة السابعة: حول أصالة الماهية اختلفوا في مسألة أصالة الوجود جعلا على أقوال: أحدها أن الوجود مجعول، والثاني أن الماهية مجعولة، والثالث إلى الصيرورة، وسيمر عليك في محل يناسب تفصيل البحث. وربما يستدل أحيانا بقوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) على أن المجعول هي الماهية دون الوجود، وأن ما يقبل الجعل نفس الماهيات. وفيه: أن الجعل في هذه الآية من الجعل المركب، ولا يستفاد منه مجعولية الماهية والأرض. نعم في مثل قوله تعالى (خلق السماوات) يمكن استفادة أن المخلوق والمجعول هو الماهية. هذا، مضافا إلى أن الجعل المركب ولو كان يستلزم الجعل البسيط، فتكون الأرض مجعولة له وجعله فراشا أمر آخر وراءه إلا أن الجعل البسيط يكون مجعوله مفعولا به، والمفعول به ما يقع عليه الفعل الصادر من الفاعل، فلابد هناك من فعل يصدر منه تعالى، ويقع على الأرض، فلا يكون بهيئته مجعوله، بل الهيئة طرف الجعل ومقابل الجاعل، ويقبل ما يصدر منه ويتوجه إليه. وحيث إن حديث الصيرورة من الأكاذيب، إلا بوجه يرجع إلى القول الحق - كما أوضحناه على ما ببالي في قواعدنا الحكمية - فيتعين أن يكون ذلك الأمر هو الوجود الصادر منه تعالى، المضاف إليها واللاحق بها في الذهن، كما قيل: إن الوجود عارض المهية تصورا واتحدا هوية (14) فلا تكن من الخالطين. هذا بناء على تركيز البحث على أساطين المراسيل اللفظية. وأما الأدلة العقلية فهي في موقف آخر، ربما يأتي بعضها في المحل الأنسب إن شاء الله تعالى.


1- نوح (71): 19.

2- مجمع البيان 1: 61.

3- تفسير التبيان 1: 103، مجمع البيان 1: 61.

4- راجع التفسير الكبير 2: 102 - 103.

5- التفسير الكبير 2: 109.

6- الطلاق (65): 1.

7- راجع شرح المواقف 1: 241 و 8: 145 - 146.

8- راجع الكافي 1: 109 / 3.

9- راجع نهج البلاغة، صبحي الصالح: 274، الخطبة 186.

10- مثنوى معنوي، دفتر دوم، بيت 1756.

11- راجع بحار الأنوار 84: 199 / 6 و 344 / 19.

12- راجع بحار الأنوار 15 / 28 / 48، وعلم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.

13- علم اليقين، الفيض الكاشاني 1: 381.

14- شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 18.