المسائل الفقهية

المسألة الأولى: حول جواز الاستعانة بغير الله تعالى اختلفوا في جواز الاستعانة بغير الله تعالى، وربما يقال: إن قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) ناظر إلى أن الناس بعدما كانوا عالمين بأن الخلق كله لله تعالى، والأنداد لا يقدرون على شئ، فكيف يستعينون بغير الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به ويتوسلون إليه، مع أن لا خالق ولا رازق إلا الله ؟! وإذا كان جعل الأصنام والأوثان من جعل الند المنهي عنه، فجعل الأحبار والرهبان أندادا وأربابا من دون الله، كما كان اليهود والنصارى يتخذونهم أولى بكونه منهيا عنه، فما يفعله المسلمون من الاستشفاع بغير الله، ولا سيما الفرقة الاثني عشرية، فيتوسلون بأئمتهم وينادونهم في حل المشاكل والمعضلات، مع أنهم أيضا لا يقدرون على شئ. فهذه الآية تنادي بأعلى صوتها: أن هذه الصنيعة باطلة، وتلك الطريقة عاطلة وفاسدة جدا. أقول: قد مضى شطر من البحث حول المسألة في سورة الفاتحة (1)، وإجمال الكلام في المقام: أن ابتغاء الوسيلة لحل المشاكل الدنيوية والأخروية والجسمية والروحية، مما لابد منه في الحياة في جميع النشآت، لأن قانون العلية والمعلولية عام، والوصول إلى المعلول بغير العلة غير ممكن، فإذا كانت العلة مما لابد منها، فإن كان بين المعلول والعلة الكلية سنخية، فلا منع من إيكال الأمر إليها حتى ينحل به الأمر والمعضلة، ويدعو العبد تلك العلة العامة، وأما إذا فقدت السنخية بينهما، فلابد من التوسل بعلة مسانخة لتلك المشاكل والمعضلات. هذا في وادي العقل. وأما في وادي الشرع فيتوجه إلى هذه: أولا: أن هذه الآية لا تدل إلا على منع العرب المشركين واليهود والنصارى، المتخذين أربابا من دون الله على وجه خاص، يكونون شركاء في العبادة أو التأثير الحقيقي بتبديل الأمور عما تكون عليها، وأما منع المسلمين عن الاستعانة والالتجاء فلا، لما أن الضرورة تقضي بأن ذلك ليس من الشرك والند والضد لله تعالى، وهذا يظهر من التدبر في الأمور الدنيوية الجزئية وفي أمر المعاش، فإن في كل آن يتساند واحد بواحد ويتكئ انسان بانسان، ولا يعد ذلك من جعل الأنداد. وثانيا: أن الشفاعة - كما تأتي بتفصيل إن شاء الله تعالى - مما رخص به القرآن العزيز لمن ارتضى له الله تعالى، ومنه قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (2)، وقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (3) فإذا أذن بذلك فلا منع منه عقلا ولا شرعا. وثالثا: ينافي ما قيل قوله تعالى في سورة يوسف: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) (4)، وقوله تعالى في سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (5) وفي سورة الإسراء: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) (6). فبالجملة: التوسل إلى غير الله تعالى ليس من المقبحات العقلية حتى يمتنع الترخيص. نعم يمكن المناقشة في الآية الأولى: بأن نقل مقال إخوان يوسف لا يدل على رضى الشرع بذلك. وفي الآية الثانية: أن المقصود من الوسيلة هي الصلاة وفعل الخيرات وإقام الزكاة والحج والجهاد. نعم هذا خلاف إطلاق الآية المعارض بإطلاق الآية في المقام، ولو سلمنا دلالة هذه الآية على المنع عن الاستعانة بغير الله على الوجه الكلي، تكون الآية مقدمة على هذه الآية، وإطلاق هذه الآية لا يقاوم العموم المستخرج من قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) وتفصيله في الأصول. هذا، والذي هو التحقيق عندنا: أن المعارضة باقية بعد كون النسبة بينهما العموم من وجه، وعلى هذا لا تتم الآية في المقام لإثبات تحريم الشفاعة والاستشفاع والتوسل، ونرجع بعد ذلك إلى حكم العقل، فليتدبر.

المسألة الثانية: حول دلالة الآية على حرمة الرياء قد تكون أنداد الله تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون، وقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية، قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله، وفي الخوف من غير الله في أية صورة كانت، وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أية صورة. وعن ابن عباس، قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله به شرك (7). انتهى. وعنه أيضا لا تقولوا: لولا فلان لأصابني كذا. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إياكم و " لو "، فإنه من كلام المنافقين، قالوا: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) (8) " (9). وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني ندا؟" (10) فعلى هذا يحرم هذه المقاولات والأقاويل، لأنه من الند المنهي عنه بالآية الشريفة. ومن هنا يظهر وجه دلالة الآية الشريفة على حرمة الرياء في العبادة، بل حرمة الرياء مطلقا. والذي هو الحق: أن الآية لا تدل على الحرمة، لاحتفافها بالقرائن الشاهدة على أن التحذير إرشاد إلى حكم العقل هذا مع أن إرداف مشية الله بمشية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير ما إذا قال: الرجل لصديقه: إذا شئت أن تجئ عندي، فلا بأس، فإنه ليس من الند المذكور في الآية. ويشهد لذلك: قوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) (11)، فإن نسبة المشية إلى الخلق جائزة في الأمور كلها، ولكن مشية العبد في جوف مشية الله وطولها، أو جزء من الكل، أو ظل من الأصل، فتحريم هذه الأقاويل - مضافا إلى أنه خلاف القواعد العقلية والنقلية - خلاف السيرة القطعية، ضرورة أن المسلمين في صدر الإسلام وفي عصر المعصومين (عليهم السلام) ومصرهم، كانوا يتكلمون على هذه الأنماط، ويتفكهون بهذه النسب والإسناد، ويعاشرون على هذه الوتيرة، ولم يصل من الشرع الأقدس منع في خصوص هذه الأمور، ولو كان الكتاب يدل على المنع لكانوا يتناهون عن نهيه، ويشتهر المنع بين الأصحاب الأقدمين، بل والتابعين الأولين. فلا تخلط، وكن على بصيرة من أمرك.

المسألة الثالثة: حول جواز الاعتقاد بالوسائط العقلية الكلية ربما يقال: إن هذه الآية تدل على منع الاعتقاد بالوسائط العقلية الكلية، بزعم أنها تنزلات إلهية، أو أنها منبثقة من الإله، أو أنها مظاهره، أو بناء على مزاعم العقول العشرة، وأنه لا يمكن أن يصدر من الله إلا العقل الأول، تعالى الله عما يصفون، (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) وتعترفون بأنه الإله. وهذه المقالة من عقائد العامة ومن معتقدات الشيعة الإمامية إلا جملة يسيرة منهم، فإن القائلين بالتوحيد يعتقدون حسب النظر الأول: أن كل شئ مخلوق لله تعالى بإرادة خاصة به بلا واسطة، إلا مثل أفعال العباد، فإنها معركة الآراء. ولنا أن نسأل: بأنه إن جاز الاعتقاد بالواسطة التي هي الند عندهم في الأفعال، فيجوز في الحوادث الاخر، فإذا كانت البناية من البناء، فليكن الكرة السماوية من البناء الآخر، وإذا كان البناء الأول لا ينافي التوحيد فليكن الثاني مثله، ولو لم يجز استناد الأفعال إلى العباد - كما يقول به الأشاعرة - استنادا واقعيا حقيقيا، فلا يجوز في غيرها إلا أنه غير ملتزمين بذلك، فلو أمكن الجمع بين توحيده تعالى في الذات والصفات والألوهية والتأثير، وبين كون الأفعال صادرة عن العباد لأمكن في الدائرة الواسعة بالضرورة، ويأتي في محله: أن قاعدة صدور الواحد عن الواحد تؤكد التوحيد، وعليها بناء قانون العلية والمعلولية، فلا تكن من الجاهلين.


1- راجع الحمد، الآية 5، المسألة الثانية من المسائل الفقهية.

2- الأنبياء (21): 28.

3- البقرة (2): 255.

4- يوسف (12): 97.

5- المائدة (5): 35.

6- الإسراء (17): 57.

7- تفسير ابن كثير 1: 101.

8- آل عمران (3): 156.

9- لم نعثر على لفظ الحديث ولكن راجع مسند أحمد 2: 366.

10- راجع الدر المنثور 1: 35، وتفسير ابن كثير 1: 101.

11- التكوير (81): 29.