مسائل اللغة والصرف

الآية الثانية والعشرون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " الأرض " الأرض: كرة مظلمة مركبة من الجواهر الفردة، مؤنثة جمعها أروض وآراض وأرضون وأراض، جمع واحد متروك، كليال جمع ليلاة، وكل ما سفل فهو أرض، يقال: من أطاعني كنت له أرضا، يراد به التواضع (1). ومن المحتمل أن يكون وجه إطلاق الأرض على هذه الكرة كونها ذات كلاء كثير في قبال سائر الكرات في المنطقة الشمسية، وذلك لقولهم: أرضت الأرض وجدتها كثيرة الكلاء (2). ثم إن في جمع الأرض على أراض وغيره خلافا وبحثا طويل الذيل مذكور في " تاج العروس " (3). وقال في " المفردات ": الأرض الجرم المقابل للسماء، وجمعه أرضون، ولا تجئ مجموعة في القرآن، ويعبر بها عن أسفل الشئ، كما يعبر بالسماء عن أعلاه (4). انتهى. ويمكن أن يكون الجمع مع كونها شخصا واحدا باعتبار قطعاتها، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها) (5)، فإن الأرض أطلقت على قطعة منها. والذي يهمنا أن الأرض هل هي واحد بالشخص وهي الكرة المسكونة الحاضرة، أم هي موضوع للمعنى الأعم. والذي يظهر من بعض مواضع الكتب اللغوية هو الأول، والظاهر هو الثاني، لما عرفت من أن معناها قابل للانطباق على كل سافل بالقياس فلامنع من إطلاقها على ما في سمائنا إذا كان سافلا بالقياس إلى سمائه، فيكون القمر أرضا بالقياس إلى سمائه، والمريخ أرضا... وهكذا، ومجرد انس الذهن ومبادرة الكرة الحاضرة من لفظها لا يورث ضيق المعنى وتحدد الموضوع له. ويؤيد ذلك قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) (6) وحمل التمثيل على خلاف ما هو المعهود في السماوات ص غير جائز، فما قيل: إن المراد طبقات الأرض الطولية أو الأقاليم السبعة الأرضية غير مرضي.

المسألة الثانية: حول كلمة " فراش " الفراش: ما يفرش وينام عليه، " فعال " بمعنى " مفعول "، وهو من فرش الشئ: بسطه، وفلانا الأمر أوسعه وبثه (7).

المسألة الثالثة: حول كلمة " بناء " البناء: بناه يبنيه بناء وبنية وبنيانا، نقيض هدمه، والأرض: بنى فيها دارا ونحوها، والبناء المبني، والجمع أبنية، وجمعها الأبنيات (8)، وما في بعض كتب التفسير: السماء للأرض كالسقف للبيت متخذا من قوله تعالى: (والسماء بناء) (9) في غير محله، لأنه ليس إلا بمعنى التأسيس في البناية والتعمير، وأما كونه سقفا للأرض فهو أمر آخر، ولوازمه كثيرة غير ملتزم بها. وأما قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) (10) فهو أيضا محمول على ما يخطر بالبصر في بادي النظر، من غير كونه سقفا للأرض، كما هو المتعارف في البيوت. قال الزجاج: كل ما علا الأرض فهو بناء (11). انتهى. وهذا غير صحيح، لأن البناء مصدر في الأصل وإطلاقه على المبني من باب التوسع، فلا تخلط.

المسألة الرابعة: حول كلمة " ماء " الماء معلوم معناه، وقيل أصله " موه " قلبت الواو ألفا، لتحركها بعد الفتحة، ثم أبدلت الهاء همزة وسمع: اسقني ما - بالقصر - وتصغيره " مويه "، والنسبة إليه مائي وماوي والماهي، جمعه مياه وأمواه، وربما يقال: أمواء بالهمزة (12)، وفي بعض المكتوبات، ماء بالهمزات الثلاثة: الأولى الألف عين الفعل، والثاني لام الفعل، وهي المبدلة من الهاء، والثالثة بدل من التنوين، فلا يكتب إلا بها، خلافا للبصريين، حيث كتبوها بالهمزتين (13)، فيدخله التنوين. ومما ذكرنا يظهر: أن كلمة " الماهي " بمعنى الحوت في الفارسية عربية، لأن الحوت منسوب إلى " الماه " وهو الماء، والله العالم. وأنت خبير: بأن هذه التشبثات الباردة لا أساس لها في الاشتقاقات الكبيرة، ولو صح ما ذكروه للزم عدم جواز " فوه " لأنه على وزن " لوه "، فاغتنم.

المسألة الخامسة: حول كلمة " الثمرة " الثمر: حمل الشجر، الواحدة ثمرة جمعها ثمرات، وجمع الثمر ثمار، وجمع الجمع ثمر. الثمرة: النسل والولد، ثمرة الفؤاد ولده، وكل نفع يصدر عن شئ، كقولك ثمرة العمل الصالح، كذا ثمرة القلب المودة والإخلاص. انتهى ما في اللغة (14). والذي يشكل: هو أن المعنى الموضوع له هو الأعم، أم هو الخاص، وهو حمل الشجر، وإطلاقه على موارد أخر من الاستعارة. وأيضا يشكل: أن الثمرة هي المحصول المطبوع، أم هي أعم، فيكون الشوك ثمرة. وثالثة: هنا إشكال: وهو أن الثمرة تخص بمطلق حمل الشجر وإن لم يكن فيه نفع، أم يخص بما فيه النفع، وقد عرفت المناقضة في تعابير أهل اللغة. ورابعة: أن في اللغة أن الثمرة حمل الشجرة، ويحتمل أعميتها من الشجرة، فيكون ثمر ما لا ساق له ويسمى بالنجم من الثمرة أيضا، كما هو مقتضى اللغة أيضا، وحل هذه المشاكل الأربعة يحتاج إلى مزيد المراجعة والفحص والتأمل. والذي يظهر لي: أنها بمعنى محصول النبات، الأعم من الشجر والنجم، وكونه فيه النفع أو الضرر أو غير ذلك، ولكنه من الاستعارة إطلاقه على ثمرات الأنفس والأمور المعنوية، ومن الرجوع إلى كتاب الله وموارد إطلاقها، يظهر ما استقربناه، قال الله تعالى: (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) (15)، (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) (16).

المسألة السادسة: حول كلمة " رزق " الرزق: ما ينتفع به وما يخرج للجندي رأس كل شهر. وقال الكرخي: العطاء: ما يفرض للمقاتلة والرزق للفقراء. وأنت خبير بأنه خارج عن اللغة، ويطلق على المطر، ففي الكتاب العزيز: (ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض) (17)، وهذا أيضا مصداق معناه العام. جمعه أرزاق، والرزق بفتح الراء مصدر رزق يرزق. انتهى ما في اللغة مع تصرف مني (18). وقال في " المفردات " الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة دنيويا كان أو أخرويا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف، ويتغذى به تارة (19). انتهى، وقد مر تحقيق المبحث في ذيل قوله تعالى: (ومما رزقنا هم ينفقون).

المسألة السابعة: حول كلمة " أنداد " الند: قال في " الأقرب ": الند - بالكسر - المثل، ولا يكون إلا مخالفا، جمعه أنداد. يقال: ما له ند، أي ما له نظير، ويقال: هي ند فلانة، ولا يقال: هي ند فلان (20). وقال في " البحر " الند المقاوم المضاهي، مثلا كان أو ضدا أو خلافا. وقال أبو عبيدة: الند: الضد، وقال ابن عطية: وهذا التخصيص تمثيل لا حصر، وقال غيره: الند الضد المبغض المناوي من الندود، وقال المهدوي: الند الكفء والمثل. هذا مذهب أهل اللغة (21). وقال الزمخشري: الند: المثل، ولا يقال: إلا للمثل المخالف المناوي، ومعنى قولهم: ليس لله ند ولا ضد: نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه (22). وفي " المفردات ": نديد الشئ: مشاركه في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت، فكل ند مثل، وليس كل مثل ندا، ويقال: نده ونديده ونديدته، ويوم التناد، أي يند بعضهم من بعض (23). انتهى. أقول: هذه اللفظة لا توجد في القرآن إلا جمعا، ومن موارد الاستعمال التي تكون لزجر المشركين عن الشرك في العبادة، أو ما يقرب منها، يظهر: أن الأنداد هي المجعولات باسم الإله، فيكون الند مشاركا للشئ، وليس مماثله بحسب الواقع والآثار، فلا يكون التفاح ندا للتفاح الآخر ولا السواد ندا للبياض، ولا شريكا ولا شبيها بحسب الواقع ونفس الأمر. نعم التمثال ند ونديد، فتأمل.


1- أقرب الموارد 1: 8.

2- نفس المصدر.

3- راجع تاج العروس 5: 3 - 4.

4- المفردات في غريب القرآن: 16.

5- الحديد (57): 17.

6- الطلاق (65): 12.

7- أقرب الموارد 2: 915.

8- أقرب الموارد 1: 62 - 63.

9- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 229.

10- الأنبياء (21): 32.

11- مجمع البيان 1: 61.

12- أقرب الموارد 2: 1253.

13- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 229.

14- أقرب الموارد 1: 94.

15- النحل (16): 11.

16- الرعد (13): 3.

17- الجاثية (45): 5.

18- أقرب الموارد 1: 402.

19- المفردات في غريب القرآن: 194.

20- أقرب الموارد 2: 1285.

21- راجع البحر المحيط 1: 93.

22- راجع الكشاف 1: 95.

23- المفردات في غريب القرآن: 468.