التفسير على مسالك شتى والتأويل على مشارب مختلفة

فعلى مسلك الأخباريين: (يا أيها الناس) يعني سائر المكلفين من ولد آدم (اعبدوا ربكم) أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيه له ولا مثل له، عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم لا يخطل، وأن محمدا عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أفضل آل النبيين، وأن عليا (عليه السلام) أفضل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين منهم أفضل أمم المرسلين. (الذي خلقكم) من نطفة (من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون) (1) والعالمون (2). وقريب منه: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، أي اعبدوا بتعظيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي خلقكم نسما، وسواكم من بعد ذلك، وصوركم وأحسن صوركم، وخلق الله الذين من قبلكم من سائر أصناف الناس (لعلكم تتقون) أي وخلق الذين من قبلكم لعلكم كلكم تتقون، أي لتتقوا، كما قال الله عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (3). وقريب منه: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)، أي اعبدوه لعلكم تتقون النار، و " لعل " من الله واجب، لأنه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله، ثم يخيبه. انتهى ما في رواية عن تفسير الإمام (4). وقريب منه: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)، وتفكروا في أمر الله، فإن أفضل العبادة إدمان التفكر في أمر الله وفي قدرته، وليست العبادة الصلاة والصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل (لعلكم تتقون) بحسب مقام العمل، فإن الحكمة النظرية ابتداء العملية.

وعلى مسلك أصحاب الحديث: (يا أيها الناس) للفريقين جميعا، من الكفار والمنافقين (اعبدوا ربكم) أي وحدوا ربكم (الذي خلقكم والذين من قبلكم). هكذا عن ابن عباس (5). وعن ابن عباس أيضا، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: (يا أيها الناس...) إلى آخره يقول: خلقكم وخلق الذين من قبلكم (6) (لعلكم تتقون)، أي تطيعون. عن مجاهد (7).

وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الرأي والتدبير: (يا أيها الناس) من الكفار والمنافقين والمشركين وغيرهم حاضريهم وغائبيهم (اعبدوا ربكم)، وتوجهوا حين العبادة إلى ربكم، وأحضروه في قلوبكم، وارفضوا الأوثان والأصنام واتركوها، ولا تنصبوها نصب أعينكم (الذي خلقكم) لا الذي خلقتموه بأيديكم وأكلتموه عند المجاعة والحاجة (والذين من قبلكم)، فخلق الناس كلهم وخلق غيرهم بطريق أولى ووجه أعلى، لأن الذي خلقكم أولى بأن يخلق ما دونكم، فخلق ما تعبدونه من الأصنام والمعبودات، وخلق العابد، فهذا الخالق أولى بالعبادة من غيره (لعلكم تتقون) عن الأمور الأخر الممنوعة، فإن الاجتناب عن عبادة الشركاء يستلزم الاتقاء والاجتناب عن سائر المعاصي والمكروهات والمحرمات وترك الواجبات والمندوبات. وقريب منه: (يا أيها الناس) الأعم من الموجودين والمعدومين حين الخطاب الذين يوجدون حين توجه الخطاب إليهم، وهم بالغون حد التكليف شرعا وعقلا (اعبدوا ربكم) ولا تلتفتوا إلى غير الله تعالى من سائر المربين من البشر كمربي التعليم ومربي الأمور الأخر المادية، فإن الرب (الذي خلقكم والذين من قبلكم)، تجب عبادته عقلا وشرعا، فلا تكونوا من أرباب الرياء، والسمعة والعجب والذكر، وأخلصوا لله تعالى دينكم وعبادتكم، حتى تكون عبادتكم لله تعالى، وتقع له لا لغيره خالصة مخلصة في جميع نشأت وجودكم، من البصر والسمع والحركات والسكنات إلى القلب والروح والأسرار والحالات، فجميع الناس - في جميع الأحيان - في معرض الأخطار بالنسبة إلى مراتب الشرك في العبادة، وتكون الآية آمرهم بالعبادة الخالصة، ورادعهم عن الشرك الظاهر في البدن إلى الشرك المستتر في السر والخفي (لعلكم تتقون) من الخيالات الباطلة ومن الأوهام الشيطانية، ومن الخطورات القلبية الواهية، فتكونوا محققين بعين الله وموجودين بوجوده تبارك وتعالى. وقريب منه: (يا أيها الناس اعبدوا) بجميع أنحاء العبادة وكافة الواجبات والمندوبات، وبجمع أصناف الخضوع والخشوع بالقياس إلى جميع مراحل وجودكم ومراتب تعينكم، ونشئات حقائقكم الظاهرية والباطنية والسرية والعلنية ولا تخصوا الأوثان والأصنام ومصنوعاتكم عبادة أية عبادة كانت، وأي خضوع وحرمة، بل عليكم حصر الخضوع والخشوع في ربكم (الذي خلقكم والذين من قبلكم)، ولا تبعدوا غير هذا الرب ولا تركعوا ولا تسجدوا لغير الله، ولا تواضعوا وتحترموا غير ما هو المحترم بالذات، وغير ما هو يليق بذلك حقيقة وذاتا، فإن غيره كله من الأوثان والأصنام، والتوجه والالتفات إلى سائر الأشياء عين العبادة والشرك الذي هو الظلم العظيم، فإذا أمركم شئ فأتمروا، وإذا نهاكم فانتهوا، فلو كان التوجه والخضوع والتواضع لغيره بأمره، فهو له في الحقيقة، ولا يقع لغيره عند التوجه والتفكر، فخلقكم الله تعالى (لعلكم تتقون) بالعبادة عن سائر الوساوس الباطلة. وقريب منه: (يا أيها الناس) من سائر الأصناف غير الطوائف الثلاثة (اعبدوا) والتحقوا بالطائفة الأولى، وهم المتقون (ربكم الذي خلقكم) فصلوا وصوموا - صلواتكم المشروعة والصيام المأمور به - على الوجه الذي يأتي به المتقون (والذين من قبلكم) على اختلاف الألسن والعنصر والديانة والمذهب والمسلك (لعلكم تتقون) وتلحقون بالمتقين الذين كانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، فاتقوا الله حتى يستكمل كمالاتكم الخلقية والخلقية والاعتقادية، وتكونوا من الذين يؤمنون بالغيب وبالكتاب الذي لا ريب فيه هدى للمتقين.

وعلى مسلك الحكيم: (يا أيها الناس) الحاضرون، ولا شئ في العالم إلا وهو حاضر عند ربه، ولا غيب إلا بالقياس إلينا (اعبدوا ربكم) واخضعوا له ولا تستكبروا في جميع الآفاق والمواطن، فإذا كنتم في عالم الشهادة فاركعوا مع الراكعين، وإذا كنتم في البرزخ فقعوا له ساجدين، وإذا كنتم في القيامة ومع الملائكة المقربين، فكونوا أمثالهم، فمنهم سجد لا يركعون، ومنهم ركع لا يسجدون، فاعبدوا ربكم في العوالم السابقة واللاحقة حسب مقتضيات تلك العوالم والنشئات (الذي خلقكم والذين من قبلكم) المنتقلين عن الدنيا إلى الآخرة، (والذين من قبلكم) المنتسبين إلى أبيكم آدم، أو الذين انتسبوا إلى آدم قبل آدمكم في الأرض أو في غيرها، لعلكم ويترجى لكم أن تتقوا ترجيا واقعا وحقيقة، بحسب النظرة إلى أشخاصكم، وإن كان بحسب النظرة إلى الأنواع وكلية النظام، يمتنع أن ينسلكوا في عدة المتقين وفي زمرة المؤمنين. وقريب منه: (يا أيها الناس) القاطنون في عمود الزمان وغيره، الحاضرون في محضر ربكم (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) لأجل أنه خلقكم، فلا ترغبوا في شئ، ولا يستحق أحد منكم عليه شيئا، لأنه يكفي أن يستحق العبودية بحذاء خلقكم وبإزاء إخراجكم تدريجا من النقص إلى الكمال، وتربيتكم من الطفولية إلى الكبر والكهولة، وقد صنع بكم ما صنع بمن سبقكم من الآدميين، فضلا عن غيرهم (لعلكم تتقون) باختياركم وبإرادتكم، وتتقون الله في المحظورات والمشتبهات بأداء الفرائض وترك المحرمات.

وعلى مسلك العارف: (يا أيها الناس) والأعيان الثابتة الملازمة للأسماء والصفات، الحاضرة بعين حضور الذات عند الذات (اعبدوا) وتوجهوا بجميع أنحاء التوجه، وبجميع الأجزاء والأعضاء على اختلاف المقامات والمقتضيات (ربكم) المقيد والاسم الخاص، وهو الرب، فأحضروا في قلوبكم صورة الرب والاسم المخصوص المضاف إليكم (الذي خلقكم) بعد ما قدركم (والذين من قبلكم) قبلية زمانية ورتبة من رتبات الأنواع ومراتب التعينات الطولية (لعلكم) مترقبا ومتوقعا بعين التوقع التكويني الخارجي (تتقون) وترقون من التقييد إلى الإطلاق ومن الضيق إلى السعة، فتصلون إلى بحار عبادة الله، برفض التوجه إلى أية حيثية كانت من المسميات والأسماء.


1- المرسلات (77): 20 - 23.

2- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 135 / 68.

3- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 139 - 140 / 70 - 71.

4- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 142 / 71.

5- راجع تفسير الطبري 1: 160.

6- راجع تفسير الطبري 1: 160.

7- راجع تفسير الطبري 1: 161.