بعض المباحث الفلسفية

المبحث الأول: حول الكينونة السرمدية للمتفرقات الزمانية قد اختلفوا في أن المتفرقات الزمانية والكميات المتصلة الامتدادية، لها الكينونة السابقة الدهرية أو السرمدية بهوياتها الشخصية الوجودية... إلى آراء تفصيلها في قواعدنا الحكمية. وإجماله: أن البراهين العلمية المشفوعة بالمكاشفات، المنسوبة إلى أرباب البصائر، قائمة على أن المتفرقات الزمانية مجتمعات دهرية والمتفرقات الدهرية مجتمعات في عالم السرمد، وأن كل موجود في العالم السفلي الواقع في عمود الزمان له السبق، لكينونته الجزئية الوجودية، فيكون نسبة الكل إليه تعالى نسبة الحاضر، فلا غائب عنه تعالى، ولأجل هذه الخاصة الثابتة للأشياء القاطنة في المتدرجات، يصح خطابها بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم)، فهذه الآية وأشباهها تشهد على أن كلية الحوادث الجوهرية والعرضية - المتحركة المتدرجة بالطبع - حاضرة عنده، ليصح المواجهة والمقابلة والخطاب والعتاب. وتفصيل المسألة ذيل بعض الآيات الأخر إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني: حول علمه تعالى بالجزئيات اختلفوا في علمه تعالى بالجزئيات على أقوال: فمنهم من أنكره (1)، ومنهم من أثبت ذلك على سبيل الكلية (2)، ومنهم - وهو القول الفحل والرأي الجزل - أنه عالم بها على سبيل الجزئية (3). وربما يستدل بهذه الآية على القول الأول، ضرورة أن قوله تعالى (لعلكم تتقون) لا ينبغي أن يكون حقيقة إلا على فرض الجهل في حقه تعالى وتقدس، كما هو مقتضى سائر موارد استعمال كلمات الترجي والتوقع، ولذلك ابتلوا بهذه المشكلة في الكتب الأصولية، وفروا منها كل فرارا، وهربوا منها مهربا خاصا. وأنت قد أحطت خبرا بما تلوناه عليك في بحوث اللغة والصرف ما لا يزيد عليه، وتبين - بحمده وثنائه - أنها كلمات استعملت في معانيها الحقيقية، من غير أن يلزم منه عجزه تعالى ولا جهله تبارك وتقدس. وتحصل فيما سلف: أن الآية لو دلت على جهله لدلت على عجزه، وحيث إن عجزه تعالى ممنوع عند كافة الأنام، فدلالتها على جواز جهله ممنوعة جدا أيضا. هذا، مع أن المسائل العقلية لا تقتنص من الإطلاقات العرفية، ولا من المفاهيم اللغوية، ولو كانت قرآنا، ضرورة أن الاستعمال أعم من الحقيقة، ولا سيما في الكتاب.

المبحث الثالث: حول ربط الحادث إليه تعالى من المسائل الخلافية بين أهل النظر من المتكلمين وأصحاب الشريعة والفلاسفة، واختلفوا فيه أشد الاختلاف، حتى اشتد النزاع بين أرباب الحكمة وربات المعرفة هو: أن الموجودات الزمانية والكائنات المتدرجة الوجود في الطبيعة بذاتها أو بعوارضها، هل هي مستندة إليه تعالى بلا واسطة، فيكون خلق المتأخر والمتقدم متساوي النسبة إليه تعالى، في كون الكل معلوله تعالى ومخلوقه ومفعوله، أم هناك وسائط مجردة ومادية هي العلل المباشرية، وهو تعالى خالق العلل المتوسطة، وناظم العوالم المتكثرة المترتبة، فيكون عليته للمتأخر الموجود في المادة والمدة، باعتبار عليته لعلله المتقدمة على وجه لا يلزم منه نقص وتنازل، ولا تحديد وتركيب، وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى المذهب الأول، حيث قال: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) من استناد الخلق إلى الله تعالى، الظاهر في أنه لا واسطة ولا خالقية لغيره تعالى، فلا يكون بين المتأخرات القاطنة في عمود الزمان والمكان، وبين المجرد الأول والرب الحقيقي واسطة كالعقول العشرة التي يقول بها المشاؤون، ولا العقول الطولية والعرضية التي يقول بها الإشراقيون، فهناك ليست إلا الله إله العالمين وخالقيته التي هي فيضه المقدس والوجود المنبسط، والمخلوق الذي هو على حسب اختلاف الدرجات في ذلك الانبساط، مختلف الوجود، فمنه ما هو مجرد، ومنه ما هو متكمم، ومنه ما هو مادي ممتد وزماني طبيعي، كما ذهب إليه أرباب العرفان والعرفاء الشامخون بعين الشهود والبرهان. أقول: هناك نظران: الأول: فيما هو التحقيق في مسألة كيفية حصول الكثرة في العالم، وهو أمر يأتي - إن شاء الله - في محل أنسب وموقف أحسن. الثاني: في أن الآية هل تنافي المقالات الاخر؟فإن قلنا بأن لازم القول بالوسائط كون نسبة الخلق إليه تعالى مجازا، فللاستدلال المزبور وجه، وأما إذا قلنا بأن وساطة العلل المتوسطة المجردة والمادية ليست وساطة الإيجاد والإفاضة والإبداع، بل هي وساطة تشبه الوسائط الإعدادية في المركبات المادية، ويعبر عنه بممر الفيض في الوسائط المجردة، على وجه يكون المتأخر أشد قربا منه تعالى بالقياس إلى ما يباشره، فلا تلزم المجازية في الإسناد، فلا يتم الاستدلال.


1- راجع شرح المقاصد 4: 121، وشرح المواقف 8: 74.

2- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 359 - 360، وشرح الإشارات 3: 307 - 316.

3- راجع الأسفار 6: 227 - 237 و 263 - 280، والمبدأ والمعاد، صدر المتألهين: 66 - 91.