بعض البحوث الكلامية

حول الاستدلال على المسائل الإلهية: من المسائل الخلافية ما نسب إلى جمع من الحشوية، حيث توهموا: أن التوغل في الاستدلال على المسائل الإلهية وعلى وجود الصانع، مما لا يجوز، لأن النظر لا يفيد العلم، ولو كان مفيد العلم ولكنه غير مقدور، مع أن ذلك بدعة ولم يأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) به. وقال الفخر: هذه الآية تدل على جواز الاستدلال واتخاذ البرهانيات لإثبات رب المصنوعات وإله الكائنات، حيث أردفه تعالى بما يدل على وجود الصانع (1). وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن الإرداف بما يدل أعم من الاستدلال، وهذا من الفخر عجيب. ثم إن استدلال الرب لا يرخص لاستدلال الخلق، والذي هو المهم أن هذه المسائل من الحشو في الكلام ولو كان عن غير الحشوية، فضلا عما إذا كان منهم - خذ لهم الله تعالى - فإن آراءهم: إما أن تكون من سخافتهم الروحية، أو لعنادهم مع أصول المذاهب، ضرورة أن العقل الفطري ناهض على الاستدلال. نعم هناك مشرب أحلى يشير إليه الشاعر العارف الفارسي: پاى استدلاليان چوبين بود پاى چوبين سخت بي تمكين بود (2) وحول هذه المسألة والاستدلال بحث يأتي في موقفه إن شاء الله تعالى.

تذييل

حول التكليف بالمحال: من المسائل الخلافية في الكلام وفي الأصول: أن التكليف بالمحال هل يجوز أم لا؟(3) وقد استدل بهذه الآية أحيانا على جوازه، فإن أدل شئ على إمكانه وقوعه، وفي هذه الآية تكليف بالنسبة إلى المؤمنين والكفار، مع سبق إخباره تعالى بأنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. وأنت قد عرفت في ذيل الآية السابقة: أن هذه الإخبارات ربما تكون لحث الناس على الإيمان، وليست الآية متعرضة لقضية شخصية حتى يلزم كذبها. هذا أولا. وثانيا: إن ما هو المحال هو تكليف الكفار بالعبادة بما هم كفار، وأما تكليف الناس بالعبادة وفيهم الكفار، فليس من التكليف المحال ولا بالمحال، لما عرفت أن التكليف القانوني العام جائز، ولا يقاس بالتكليف الشخصي والجزئي. هذا. وثالثا: لا دلالة بالصراحة على العموم حتى يتم الاستدلال، لإمكان دعوى اختصاص الآية في الذين لم يخبر الله تعالى عن حالهم، فتكون الآيات السابقة قرينة على صرف هذه الآية عن العموم والإطلاق، فاغتنم وكن على بصيرة من أن الأمر في الآية إرشادي، لا تكليف رأسا، كما مر، ولأجل ذلك تركنا كثيرا من البحوث العلمية هنا الراجعة إلى كيفية فرض تكليفه تعالى للعباد، فلا تخلط.

عود على بدء

قد أشرنا إلى أن هذه الآية تدل على إمكان التكليف بالمحال خلافا لأكثر المخالفين. ووجه الدلالة: أن الجمع بين عموم هذه الآية وعموم قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (4) يوجب إمكانه، ضرورة أن من شرائط التكليف والأمر احتمال الأثر واحتمال الانبعاث أو القطع به، وفي صورة القطع بعدم التأثير لا معنى للأمر. وهذا هو البحث المعنون في الأصول تحت عنوان: أنه هل يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه أم لا؟وقد ذهب أصحابنا إلى الثاني، وأكثر المخالفين إلى الأول، وقد تحرر تحقيق المسألة في محله (5). وإجماله: أن هذه المسألة من فروع مسألة أخرى: وهو أنه كيف يعقل صدور الأمر الجدي - بل التكليف الجدي - من العالم بالهويات بالنسبة إلى طائفة العصاة والكفار والملحدين والفاسقين، الذين لا يسمعون ويستهزئون ولا يؤمنون، سواء توجه إليهم الإنذار وعدمه؟وتصير النتيجة امتناع عقابهم، لأنه فرع التكليف الممنوع في حقهم. وبالجملة: امتناع تكليف الفاقدين شرط التكليف - كاحتمال الانبعاث والانزجار في الأوامر والنواهي - واضح، وهذه الآية بضميمة ما سبق يمكن أن يستدل فيها على المسألة الكلامية، وهذه المسألة أصولية، وتصير النتيجة عدم استحقاق طائفة من الفجار للعقاب. ولذلك ذهب جمع منا إلى أن الأوامر: بين ما هي إعذارية وبين ما هي واقعية، وأما الأوامر الواقعية كالأوامر الشائعة المتعارفة إلى من يحتمل في حقه الاستماع والتأثير، وأما الأوامر الإعذارية فهي تلك الأوامر المتوجهة إلى هؤلاء الناس من الأضلين الساقطين القاسطين، فإن بها ينقطع أعذارهم، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) (6)، وبهذه الأوامر يستحقون العذاب والعقاب. وفيه: أن الأوامر الامتحانية والإعذارية ولو كانت أوامر واقعية في وجه وصادرة عن جد، إلا أن مجرد كون الأمر صادرا عن جد لا يليق بأن يكون موجبا للاستحقاق، ضرورة أن الله تبارك وتعالى لا يريد الانتقام، ولا يريد قطع عذر العباد، بل يريد الهداية والإصلاح، فإنه أرحم الراحمين. فعلى هذا لو احتج العبد العاصي الكافر: بأن سبب استحقاق سائر أهل النار ليس إلا أنهم مكلفون بالأصول والفروع، وقد أراد الله منهم الإيمان والهداية، فكفروا ولم يمتثلوا أوامره التكليفية، وأما نحن ففي مخلص لم يكن الله تعالى يريد منا شيئا جدا، ولا يعقل أن يرشدنا جدا إلى ما لا يسمع، ولا يمكن توجيه الأوامر الإرشادية الجدية بالنسبة إلينا، فعليه كيف يعقل أن يعاقبنا على ما لا يريد منا. وإن شئت قلت: فليكن عقابنا على ما يعاقب الآخرين، وليس قطع العذر كافيا لاستحقاق العقوبة. فما ذهب علماؤنا الأصوليون - إلا بعضهم - إليه: من أن حل هذه المشكلة بالأوامر الإعذارية ممكن، غير واقع في محله. والذي تنحل به هذه المشاكل أحد أمور ثلاثة: الأول: أن العقاب من تبعات الذوات والأخلاق والأفعال، والأوامر الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية. الثاني: أن امتناع التكليف من ناحية سوء اختيار العبد، فلا يكون - حينئذ - هؤلاء العباد معذورين. وبالجملة: ربما لا يتوجه إليهم التكليف، لقصور في المقتضي، أو لوجود المانع الراجع إليه أيضا، وربما يكون ذلك لأجل امتناع العبد عن الامتثال، لكن العقلاء بناؤهم على استحقاق هذا العبد. الثالث: ما أشرنا إليه في هذا الكتاب مرارا - وتنقيحه في الأصول -: أن امتناع التكليف في حقهم، ناشئ من تخيل انحلال الخطابات الكلية القانونية إلى الخطابات الشخصية الجزئية، وحيث قد تحصل في مقامه فساد هذا الانحلال، يصح التكليف الفعلي بالنسبة إلى طائفة العصاة والعاجزين والكفار والمنافقين والفجار والجاهلين المعلوم عدم استماعهم إلى التكاليف، وجميع العباد مشتركون في هذا التكليف، ومختلفون في الأعذار، فمنهم من يقبل عذره، ومنهم من لا يقبل عذره، وعندئذ ينحل كثير من المشاكل العلمية في شتى النواحي ومختلف الميادين، ونحن نشير إليها في محالها، وتحقيق أصل المبحث ليطلب من موسوعتنا في علم الأصول (7). والله هو الموفق المؤيد.

بحث

حول اختيارية الأفعال: هذه الآية لمكان الأمر بالعبادة والحث عليها، ولمكان نسبة الاتقاء إلى الناس، ولمكان ترجي الاتقاء منهم، تدل على فساد مسلك القائل بعدم اختيارية الأفعال، وهم الأشاعرة، ولو أمكن المناقشة في الأمر وفي الترجي، فلا يمكن المناقشة في الثالث، ضرورة أن المتوقع هو حصول الاتقاء والتقوى من الناس، وأنهم يعبدون الله حتى ينسلكوا في زمرة المتقين بأفعالهم وأفكارهم المطابقة لأصل الشرع ونظام الإسلام.


1- راجع التفسير الكبير 2: 87.

2- مثنوى معنوي: 105، دفتر أول، بيت 2128.

3- راجع شرح المقاصد 4: 296، وشرح المواقف 8: 200.

4- البقرة (2): 5.

5- تحريرات في الأصول 2: 237.

6- الأنفال (8): 42.

7- تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.