بعض المسائل الأصولية والفقهية

المسألة الأولى: شمول الخطابات للمعدومين اختلفوا في شمول الخطابات - الموجودة في الكتاب والسنة - للمعدومين وقت النداء والخطاب على أقوال وآراء (1)، وهذه المسألة مورد الخلاف بين الخاصة والعامة، فمن العامة من يقول بالشمول، ومن الخاصة من يقول بامتناع الشمول، أو بمجازية الشمول. وحيث إن الحق أحق أن يتبع، دون عقول الرجال، ننقل الأقوال بلا طائل، ولا سيما قول من زعم اختصاص الخطاب بحاضري مجلس المخاطبة والأمر والنهي، ويكون الغائبون والمعدومون مشتركين مع الحاضرين في الأحكام، للأدلة الاخر العقلية والنقلية، كقصور الأدلة كثيرا عن شمول النساء، مع قيام الأدلة الخاصة على اشتراكهن مع الرجال في التكليف، إلا ما قام الدليل على خلافه. والذي هو التحقيق: أنه لا قصور في شمول الخطابات والقوانين العامة الكلية عن شمول جميع الأفراد، لأن المخاطبة والأمر والنهي ليس مع الغائبين ولا المعدومين، بل الأحكام مجعولة على العناوين الكلية على نهج القضايا الحقيقية، وهذا الأمر مما يتضح سبيله بمراجعة القوانين المصوبة في مجالس النواب والشيوخ فكما لا قصور فيها بالنسبة إلى المعدومين والغائبين، كذلك الأمر هنا. هذا، مع أن كثيرا من الأحكام المجعولة ليست مشتملة على الخطاب والنداء والأمر والنهي وبالجملة: تفصيل المطلب في تحريراتنا الأصولية (2). والخطابات الموجودة في السلف، وفي النصائح والأشعار بالنسبة إلى الإنسان، مثل القوانين العامة الإنشائية. والشبهة في قبال هذه المسألة من الشبهة في مقابل البديهة، وكما أن القضايا الإخبارية، كقولك: النار حارة، وكل إنسان ضاحك، لا يقصر عن شمول المعدومين، لما أنه حين الانعدام لا شمول، وحين الوجود لا قصور في ألفاظ القضية الإنشائية والإخبارية، كذلك القضايا الإنشائية والقوانين. هذا كله، مع قطع النظر عن بحث تختص به الخطابات القرآنية، دون القوانين الواردة في السنة النبوية والأحاديث العلوية والجعفرية، وهو أن المخاطبة الحقيقية لا تحصل بين الرب والمربوب، فإن جبرئيل يحكي للرسول الأعظم، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكي للأمة، فلا يخاطب الله تعالى أحدا، لا جبرئيل أمين الوحي، ولا الرسول المبلغ، ولا الأمة الإسلامية، كما لا يخاطب جبرئيل الرسول الأعظم، ولا الرسول أحدا، فما في الكتاب الإلهي كله بشكل الخطاب والنداء، وليس بواقعهما، وحكاية الأمر والنهي توجب الامتثال قهرا، ولكن لا يكون الخطاب حاصلا بين الآمر والمأمور والناهي والمنهي عنه وهكذا، ولنا في هذه الورطة بحث عميق خارج عن أفق الخاص، بل خاص الخاص، ربما نشير إليه في المسائل الراجعة إلى كيفية الإيحاء والوحي، ويحصل هناك أن الخطاب يمكن أن يحصل حقيقة، فافهم واغتنم. وبالجملة: تحصل أن أمثال الخطابات القرآنية ولو لم يكن خطابا حتى يستتبع المحاذير العقلية، ولكنها قانون عام كلي يشترك فيه الحاضر والباد، والمعدوم حين المعدومية لا شئ حتى يتوجه إليه التكليف، وإذا صار شيئا يسمى إنسانا، يتوجه إليه هذه الخطابات بحسب ما يشتمل عليه من الأحكام التكليفية والوضعية، نعم المجنون وغير البالغ إما خارجان للانصراف، أو لدليل، والتحقيق عدم تمامية الانصراف. نعم بحكم العقل لا يتنجز التكليف بالنسبة إلى المجنون ومن يلحق به، وبحكم الشرع لا يتنجز التكليف بالنسبة إلى طائفة من غير البالغين، ولا ينبغي الخلط بين الشمول الإنشائي والشمول على نعت التنجيز، كما تحرر في الأصول بتفصيل.

المسألة الثانية: حول تكليف الكفار بالفروع اختلفوا في مسألة تكليف الكفار بالفروع على أقوال، والمسألة خلافية بين أهل الوفاق والخلاف، والمشهور بين أصحابنا تكليفهم بها، وذهب الكاشاني (3) والمحدث البحراني (4) وبعض آخر إلى القول الثاني، والمسألة بتفصيل يأتي في ذيل بعض الآيات المستدل بها على هذه المسألة. والذي نريد الإشارة إليه: هو أن هذه الآية حسب عمومها تقتضي عدم اختصاص التكليف بالفروع في حق المسلمين والمؤمنين، فإن العموم المستفاد منه يورث انسحاب قلم التكليف إلى قاطبة الأنام، ويوجب اشتراك الكل في وجوب القيام بالعبادة عند الرب ذي الفضل والإنعام، فإذا وجبت العبادة عليهم كالصلاة وغيرها، فغير العبادات أولى بذلك. نعم هنا شبهة أشرنا إليها في الأصول (5): بأن هذه الآية لا تدل على وجوب العبادة تكليفا، فإن ما هو الواجب بين العبادات هي العناوين الخاصة، كالصلاة والصوم والحج وغيرها، والعبادة هو العنوان المشترك بينها، ولا يمكن إيجاب هذا العنوان ثانيا، فيكون الأمر هنا للإرشاد والتوجيه إلى العبادات المشروعة الواجبة. نعم لا تدل على لزوم كل عبادة مشروعة حتى المندوبات، بل هي إرشاد إلى لزوم أن يعبد الله تعالى وحده، ولا يكون له شريك في العبادة من الأوثان والأصنام، من غير تعرض لها بالنسبة إلى الإيجاب التكليفي، أو إلزام كل صنف من العبادات المشروعة في الإسلام، كما أشرنا إليه فيما سلف. وربما يخطر بالبال: أن القدر المتيقن من الأصناف المندرجين في هذه الآية الكريمة، هم المؤمنون في العبادة والمشركون فيها، وهم مع اعتقادهم بالله العالم، ومع علمهم بالمبدأ والمعاد في الجملة، كانوا يتخذون الأصنام معبودا لهم والأوثان مسجودا لها، فنزلت هذه الآيات لهدايتهم وإرشادهم، فكيف يمكن أن يكون الإرشاد في هذه الآية ناظرا إلى غيرهم من المؤمنين، فهذه الطائفة كانوا من الكافرين بالضرورة، وتكون مورد النظر في هذه الآية الشريفة بالبداهة، ولا معنى لإرشادهم الإلزامي إلى عبادة الله تعالى، مع عدم كونهم مكلفين بالصلاة، وحيث دلت الآية على تكليفهم بالصلاة، فيعلم تكليف سائر الفرق من الكفار بها وبغيرها، لعدم القول بالفصل الراجع إلى القول بعدم الفصل، فيصير مقتضى الإجماع المركب اشتراك الكل في جميع التكاليف. وتمام الكلام حول المسألة يأتي في غير مقام. إن قلت: يمكن الالتزام بان العبادة بعنوانها من الواجبات الشرعية، قضاء لحق الأوامر الظاهرة في الوجوب التكليفي. قلت: لا مناقشة في كبرى المسألة، وهي أن الأوامر ظاهرة في الوجوب التكليفي وسائر الدواعي تحتاج إلى القرينة. ولكن لنا المناقشة: في أن الأمر في هذه الآية لو كان مستتبعا للتكليف يلزم تعدد العقاب عند ترك الصلاة وغيرها، لأن الصلاة أيضا واجبة شرعية بالضرورة، فمن تركها يعاقب على ترك الصلاة مرة وعلى ترك العبادة أخرى، وهذا مما لا يمكن الالتزام به. هذا، وقد تحرر منا في الأصول: أن العناوين التي بينها نسبة العموم والخصوص المطلق، لا يمكن إيجابها التأسيسي، كما لا يمكن إيجاب العنوان الواحد مرتين (6)، مثلا: إذا ورد: اضرب زيدا، ثم ورد: اضرب زيدا، كما لا يكون الأمر الثاني تأسيسا، ولا يعقل ذلك، كذلك الأمر هنا، فإن النسبة بين الصلاة والعبادة عموم مطلق، وما كان شأنه ذلك فلابد من التصرف في إحدى الهيئتين، اما هيئة الأمر الأول أو الثاني، وحيث إن إنكار وجوب الصلاة غير ميسور، فيحمل الأمر هنا على الإرشاد والتوجيه العقلاني، فاغتنم.

المسألة الثالثة: حول استحقاق العقاب والثواب من المسائل الخلافية المحررة في الكتب العقلية أسسها، وفي الكتب الأصولية أيضا طائفة من بحثها: هو أن العقاب والعذاب والجحيم والعتاب يكون بالاستحقاق، سواء كان بنحو الجعالة أو التبعية، ولكن الثواب والأجر والجنة والجزاء هل هو بالاستحقاق، فيكون العبد ذا حق على ربه، أم هو بالإفضال والإنعام؟وتفصيل المسألة يأتي في مناسبة أوضح وذيل بعض الآيات الأخر إن شاء الله تعالى. وإجماله: أن هذه الآية ربما تدل على أن الاستحقاق بلا أساس، لأن الأمر بالعبادة يكون معللا: بأن الرب يستحق العبودية، لأنه الذي خلقكم وخلق من كان قبلكم، وما يأتي بعد ذلك فلا يستحقون شيئا، بل اللازم والواجب عليهم عقلا أو شرعا، هي عبادته لأجل هذه الجهة وتلك النعمة والعطية. وأنت خبير بما فيه، فإن الترغيب بعبادة الله تعالى، وتوجيه الملة الإسلامية وغير الإسلامية إلى الطريقة الصحيحة في عبادتهم، بترك عبادة غيره تعالى من الأوثان المنصوبة على أكتاف الكعبة أو الأوثان والأصنام الإنسانية بالتوجه إلى الدنيا وشؤونها في العبادة بل وشؤون الآخرة في باطن ذواتهم وحقيقة حالهم، كما مضى تفصيله فيما سلف ذيل سورة الفاتحة بعونه تعالى وهدايته، فإن الترغيب من الأمور العقلائية، الرائجة بين الموالي العرفية والعبيد، من غير تناف بين ذلك وبين كونها بالاستحقاق إذا اقتضى الدليل الآخر ذلك، فهذه الآية لا تدل على أن علة وجوب العبادة هو التقييد المذكور في الآية، لأن التقييد والتوصيف يمكن أن يكون بلحاظ أمر آخر أشير إليه، فلا تخلط.

المسألة الرابعة: مشروعية عبادة المميز اختلفوا في مشروعية عبادة المراهقين والمميزات على قولين أو أقوال (7): فقيل - أو يحتمل أن يقال -: بأنها غير صحيحة فعلى الموالي منعهم عنها، كما عليهم منعهم عن سائر المحرمات. وقيل: بأنها عبادات تمرينية، وليست صحيحة. وقيل - وعليه أكثر المعاصرين -: إنها صحيحة. واستدلوا لصحتها: بأن الأمر بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ (8)، فتكون عبادة الصبي صحيحة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما نسب إليه -: " مروا أطفالكم بالعبادة " (9). وقد تحرر منا في محله: أن هذه المسألة غير تامة عقلا (10)، ولا نحتاج في صحة عبادتهم إلى الأمر. هذا، ويكفي لصحتها العمومات والإطلاقات، فإنها تشمل الأبناء، كما تشمل الآباء، وإنما لا تجب على الطائفة الأولى للقرينة على عدم الوجوب، ولا قرينة على عدم وجود الأمر، فقوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا) يكفي بكون المميزين - ولا سيما أهل العلم منهم - مندرجين فيه، فيكون الأمر بالعبادة مستكشفا عن الأمر الإرشادي العام، ضرورة أن المرشد إذا كان هو الله، ويكون الإرشاد عاما، والمرشد إليه عاما، يعلم منه أن المرشد إليه معروف، وليس بمنكر، فإذا كان كذلك فيكون مأمورا به بالأمر المخصوص به، لأنه به يصير معروفا. وهذا التقريب ينفعكم في استكشاف تكليف الكفار بالفروع. نعم لأحد دعوى: أن الآية ليست إلا بصدد زجر عبدة الأوثان، فلا مصداق لها في عصرنا، فتأمل.


1- راجع تحريرات في الأصول 5: 303 وما بعدها.

2- راجع تحريرات في الأصول 3: 437 وما بعدها.

3- راجع الوافي، الفيض الكاشاني 1: 20.

4- راجع الحدائق الناضرة 3: 39 - 44.

5- تحريرات في الأصول 2: 152.

6- تحريرات في الأصول 2: 257 وما بعدها.

7- راجع حول هذه المسألة والأقوال فيها العروة الوثقى وحواشيها، كتاب الصلاة، فصل في صلاة القضاء، المسألة 35.

8- محاضرات في أصول الفقه 4: 76.

9- راجع عوالي اللآلي 1: 252 / 8، وسائل الشيعة 3: 12 كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 3، الحديث 5.

10- تحريرات في الأصول 2: 254.