وجوه البلاغة وعلم المعاني

الوجه الأول: حول الخطاب العام قد أشرنا آنفا: إلى أن الأجيال السابقين كانوا على طوائف: المتقين والكافرين والمنافقين والمشركين، والآيات السابقة إلى هذه الآية تعرضت لتوجيه المسلمين إلى أحوالهم وخصوصياتهم ونعوتهم الحسنة والسيئة، وقد قصدت هذه الآية الكريمة لتوجيه الأمة إلى حال المشركين، الذين ينحصر فساد عملهم الظاهر الأهم في إشراكهم في العبادة الذي هو الظلم العظيم، وحيث إن هذه الخصيصة مشتركة بين جميع الطبقات حتى الطبقة الأولى وطائفة المتقين، ضرورة أن للشرك مراتب جلية وخفية قلما يتفق حتى للأوحدي التخلص عنه والتنزه منه، غير أسلوب الآيات بإفادة الخطاب العام والتوجيه الكامل الشامل وجئ بكلام يملأ الخافقين، ولا يشذ عنه عين، فقال: (يا أيها الناس) المشترك فيه جميع الطوائف المزبورة مع الطائفة الخاصة، الغير المسبوق في هذا المجال من المقال، وهذا في غاية الدقة وغاية المتانة في استيعاب الكل بذكر الخاصة المشتركة العامة.

الوجه الثاني: حول تناقض الصدر والذيل ربما يوهم المناقضة صدر الآية وذيلها، فإن الخطاب بما أنه عام يشمل جميع الأجيال والطبقات، وقوله تعالى: (اعبدوا) لا يمكن أن يكون عاما، لأن طائفة من الناس كانوا يعبدون ربهم الذي خلقهم، ولأجل هذه المنافرة المتوهمة ربما ذهب بعضهم إلى اختصاص الآية الشريفة بالكفار، ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى بعد آية: (وإن كنتم في ريب)، فخروج المؤمنين بل الذين يعبدون ربهم قطعي، فتكون الآية مخصوصة بالمشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، ويتقربون بها إلى الله تعالى، ويشهد له المنساق من الآية الكريمة، فإن قوله تعالى: (ربكم الذي خلقكم) كأنه سيق لإفادة أن الواجب عبادة الخالق لا غيره، فتكون الآية لردع عبدة الأوثان، وربما يدل عليه قوله تعالى في الآية التالية: (ولا تجعلوا لله أندادا). وربما يقال: إن هذه الآية من قبيل قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) فكما أن هناك يكون طلب الهداية راجعا إلى طلب الاستدامة والاشتداد، يكون الأمر هنا طلبا للعبادة وللاستدامة على عبادة الله والاشتداد في ذلك (1). أقول: أمثال هذه الخطابات العامة الكلية - سواء كانت قانونية أو إرشادية - كثيرة، ولا يضر بعمومها القانوني ولا بشمولها الإرشادي، امتثال جماعة وعملهم بها قبل التقنين والإرشاد، ضرورة أن عائلة البشر بين سعيد وشقي ومتوسط، والسعداء كثيرا ما لقوة إدراكهم يعملون بالخيرات، ويتركون الشرور، ومع ذلك ليسوا خارجين عن الأوامر الكلية العامة المتوجهة إلى عموم الناس، الآمرة بالخير والناهية عن الشر. والسر كل السر ما تحرر في الأصول: من أن الخطابات القانونية وغيرها، ليست تنحل إلى الخطابات الجزئية والشخصية، بل هي خطابات كلية عامة، يشترك فيها العصاة والكفار والسعداء، والذين كانوا يصنعون الخير طبعا، ويتركون الشر جبلة، وهذه المناقضة المتوهمة نشأت من تحليل قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) إلى الخطابات الجزئية والشخصية، فيكون خطاب من يعبد الله تعالى في نهاية الإخلاص من اللغو، لما لا يترتب على الأمر والبعث المزبور أثر وتحريك، وأما على ما تحرر فهو خطاب كلي قانوني عام، لا يلاحظ فيه خصوصيات المخاطبين، بل يكفي وجود جماعة غير عابدين لربهم الذي خلقهم لتوجيه الكل بهذا الخطاب العام، وتفصيله يطلب من تحريراتنا الأصولية (2)، وقد أبدع هذه المقالة في هذا الميدان والدنا المحقق النحرير - جزاه الله خيرا (3) - وقد استفدنا منها المسائل الكثيرة، ورتبنا عليها الآثار، وبها تنحل معضلات غير عزيزة. ثم إن في هذا المقام كلاما آخر في طور غير هذا النمط، يأتي عليكم في بعض البحوث الآتية إن شاء الله تعالى. بقي شئ: ربما يظهر من شيخنا الطوسي - قدس سره القدوسي - وجه آخر به تنحل هذه المعضلة وهو: أن الأمر بالعبادة معناه الأمر بكل ما هو عبادة الله، من معرفته تعالى ومعرفة أنبيائه والعمل بما أوجبه عليهم وندبهم إليه، وهو الأقوى (4). انتهى. وأنت خبير: بأن المعرفة ليست عبادة إلا بالمجاز والادعاء، والإتيان بالواجبات والمندوبات ولو كان من العبادة أحيانا، إلا أن هذه الآية بصدد سوق الناس من عبادة الباطل إلى الحق، وفي مقام الردع عن الأباطيل والضلالة وعبادة الأوثان إلى الهداية وعبادة الله تعالى. فبالجملة: الأمر ولو كان إرشادا وموعظة ولكنه عام شامل، ويكون نظره إلى هذه الجهة من الجهات، لا الذي قواه، فلا تخلط.

الوجه الثالث: حول تساوي نسبة المتكلم إلى المخاطبين عند الإرشاد من وجوه البلاغة أن يكون المتكلم في كلامه متساوي النسبة، وينظر بعين واحدة فيما يريد إرشاد عائلة البشر من الشر إلى الخير، ولا يلاحظ في هذا المضمار من الأثر جانب جماعة الأبرار، فيكون على هذا صاحب كلام يلقيه إليهم ليهديهم إلى السعادة، كأنهم على نهج واحد وسبيل فارد، حتى لا ييأسوا من روح الله، وحيث إن الآيات السابقة اتخذت سبيل التوصيف والتفكيك بين الناس، بتوجيه المؤمنين من الكملين وغيرهم من القاطنين في الأرض السفلى، فأخذ الله تعالى هنا بتنبيه كافة الملل إلى إمكان الاهتداء واستعدادهم للوصول إلى غاية الغايات، وشرع في توجيههم إلى أن لا يخسروا ولا يروا أنفسهم في الشقاوة الأبدية، فخاطبهم من غير واسطة، وكلمهم بغير حجاب، وشرفهم بالخطاب حتى يجدوا في أنفسهم الاهتزاز والالتذاذ، فيذوقوا حلاوة الاختصاص، وأنهم في هذا النمط من البحث في عرض النبي الأعظم والرسول المكرم والمولى الأفخم المفخم، فكان في هذه الآية انصراف عما سبق، ولذلك تغير أسلوب الكلام في المقام حتى لا تزل الأقدام إذا أرادوا الإسلام والانسلاك في ثلة المسلمين وجماعة المؤمنين، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أن اليأس من رحمة الله تعالى من المعاصي الكبيرة، وعلى كل إنسان أن يجد على الدوام نفسه بين الخطين خط الجنة وخط النار، ولا يخرج عن الوسط، إلا بعد مفارقة الأبدان بالدخول في دار النيران، والله ولي الانسان، وعليه التكلان.

الوجه الرابع: التأكيد في الآية إن المقام كان يقتضي أن يكون الخطاب مقرونا بالتأكيد، بل المناسبة المشار إليها دعت إلى أن يعد الخطاب الكلي العام في حكم الشخصي الجزئي، لما فيه الرأفة والمحبة واللطف الشديد، ولأجل ذلك خص النداء على هذا النهج بقوله: (أيها الناس) لما فيه من التأكيد من ناحية " أي " ومن ناحية هاء التنبيه، وقد مضى فيما سلف: أن كلمة " أي " عملها تحليل الخطاب حكما لا واقعا، فلا تنافي بين هذه المقالة وما مر من البحث السابق، ضرورة أن الخطاب القانوني بالنسبة إلى العموم قانوني، ولكنه بحساب المخاطبات شخصي، لأن المخاطب عنوان عام لا الخطاب، فتأكيده على النمط المزبور في نهاية اللطف، لما عرفت أن الآيات السابقة كان وجهها اليأس والتهكم والتثريب، فلابد - بلا فصل - من إبراز اللطف والاهتمام بهم وإعلام الرجاء والسعادة في حقهم، فيكون الخطاب شاملا له. ومن الغريب توهم اختصاص الخطاب والآية بمشركي مكة (5)، ظنا أن جميع الآيات المشتملة على كلمة (يا أيها الناس) مخصوصة بهم - كما مر في بحث النزول، ومر ما فيه - تمسكا برواية علقمة في تأييد هذا التخيل على ضعف سندها ووهن متنها، وإرجاع الآية إلى أهالي مكة مع نزولها في المدينة، لا يخلو عن تعسف وتأسف. ومما ذكر سابقا يظهر وجه فساد ما تمسكوا به عقلا من: أن المؤمنين غير مقصودين، لأنهم كانوا يعبدون ربهم الذي خلقهم، والملحدين غير منظورين، لأن العبادة فرع المعرفة، والأمر بالمعرفة غير ممكن، لأنه إن كانت المعرفة حاصلة فهو من تحصيل الحاصل، وإن لم تكن حاصلة فلا يمكن الأمر والإرادة الجدية بالنسبة إليها، كما تحرر في الأصول (6). أقول: سيمر عليك ما هو حقيقة الحال في المسائل الأصولية، وكيفية دلالة الآية على أن الكفار مكلفون بالفروع، كما هم مكلفون بالأصول، فانتظر حتى حين.

الوجه الخامس: حول الإتيان ب? " ربكم " إن في توصيف الرب وفي الإتيان به نهاية التلطيف وغاية التوجه إلى عطف الناس إلى عبادة الله تعالى، فإن الذي ينبغي أن يعبد، وينبغي أن يؤجر ويجزي، ويليق أن يتوجه إليه ويخضع له ويخشع لمقامه ولحضرته، هو الرب الذي يربي الإنسان، ويعطي كل شئ حقه من الماديات والمعنويات، ومن الجسمانيات والروحانيات، ومن التكوينيات والاعتباريات، فيصير صحيح الخلقة لا سقيمها، وعالما بالقضايا لا جاهلها، وعارفا بالحقائق لا ذاهلا عنها، ويصير متمكنا في الخلق على البرية، ورئيسا على الرعية في سياسة المدن إلى سياسة المنازل والبدن، وغير ذلك من الكمالات، فلا ينبغي أن يعبد في قبال هذا غيره، وأن يرغب بحذاء هذا الوجود لوجود آخر، فالرب الذي خلقكم، وخلق الذين من قبلكم، فيكون محيطا بالمخلوقين، فإن من تصدى لخلقكم، وتصدى لخلق الذين من قبلكم، تصدى لخلق كل شئ غيركم، من الأمور الخالية الفانية أو الباقية ومن الأمور الآتية، ومع ذلك كله لم يكتف في ترقيق شعور البشر - إلى جانب العبادة الصالحة - بذكر الرب الذي خلقهم وخلق من قبلهم، بل أتى بما فيه مصلحتهم العائدة إليهم والكمال المرجوع لديهم، وهو التقوى الذي هو غاية آمال الكملين، ونهاية طموح العارفين، فعقب قوله: (اعبدوا ربكم) بقوله: (لعلكم تتقون) حتى يتوجه عامة الناس ومجتمع البشر إلى الآثار الخاصة الدنيوية، فضلا عن الخيرات الأخروية التي تترتب على تلك العبادة.

الوجه السادس: حول الإتيان ب? " الذين من قبلكم " ربما يتوجه السؤال عن وجه الإتيان بقوله تعالى: (والذين من قبلكم)، فإنه لا فائدة فيه بعد التنبيه على أن ربكم هو الذي خلقكم، فاعبدوه لعلكم تتقون، وكان يكفي في توصيف الأول توجيه الناس إلى لزوم عبادة الرب الذي خلقكم، فإن خالقكم يستحق العبودة، دون الأوثان والأصنام، فالتوصيف الثاني مما لا يترتب عليه غرض واضح ونظر صحيح. ثم إن هذه الآية خطاب عام قانوني - كما سيأتي في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى - فمن كان يقرؤها في صدر الإسلام، كان من الناس، ومن الذين خلقهم الله وخاطبهم، وإذا هلكوا وماتوا يندرجون في قوله تعالى: (والذين من قبلكم) بالقياس إلى الطائفة الأخرى التي لا تزال توجد، فاغتنم وتدبر.


1- راجع البحر المحيط 1: 94، والجامع لأحكام القرآن 1: 225.

2- راجع تحريرات في الأصول 3: 437 وما بعدها.

3- راجع تهذيب الأصول 1: 242 - 243.

4- راجع تفسير التبيان 1: 98.

5- راجع الكشاف 1: 89، والبحر المحيط 1: 93.

6- هذه الشبهة العقلية قد ذكرها الرازي في التفسير الكبير 2: 85 وأجاب عنها، وراجع تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.