الإعراب والنحو

قوله تعالى: (يا أيها الناس) قد اشتهر بينهم: أن " أي " منادى مفرد مبني على الضم (1)، وقال الكسائي والرياشي: إن الضمة حركة إعراب (2) خلافا للآخرين. وأيضا اشتهر بينهم: أن ال? " ها " للتنبيه، والناس مرفوع على الصفة ل? " أي "، خلافا لما نسب إلى أبي عثمان المازني، فإنه أجاز النصب بتوهم جواز القياس على قولهم في " يا هذا الرجل " (3). وحكي عن أبي الحسن في أحد قوليه: أن " أيا " في النداء موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: " يا أيها الرجل " فتقديره: يا من هو الرجل (4)، وقيل: جئ ب? " ها " عوضا عن ال? " يا " الأخرى، وإنما لم يأتوا ب? " يا " حذرا عن انقطاع الكلام، فجاؤو ب? " ها "، حتى يبقى الكلام متصلا (5). وقال سيبويه: كأنك كررت " يا " مرتين، وصار الاسم بينهما، كما قالوا: " ها هوذا " (6). واستقرب بعضهم: أن تعذر الجمع بين ال? " يا " والألف واللام حداهم إلى أن يأتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف التعريف، وأجروا عليه المعرف باللام، وهو المقصود بالنداء، ويشهد على أنه المخصوص بالنداء التزامهم برفعه دائما، فكأنهم جعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشره النداء، تنبيها على أنه المنادى. انتهى ما في كتب القوم (7). أقول: ربما يظهر المناقضة بين مفاد " أي " ومفاد الجمع المحلى باللام، ضرورة أن " أي " تدل على العموم البدلي والجمع يدل على العموم الاستغراقي، فكيف يمكن الجمع بين الكلمتين المزبورتين في جملة واحدة نحو ما نحن فيه ؟! ثم إن ما هو المقصود والغرض من الإتيان ب? " أي " ولو كان عدم لزوم الجمع بين حرفي التعريف كما عرفت، ولكنه لا يمنع عن كون كلمة " أي " في محل الإعراب، وتكون ذات معنى، ولا وجه لدعوى أنه لا معنى له أصلا ورأسا، فإنه باطل قطعا ويقينا، فلابد على كل تقدير من تطبيق القواعد الأدبية عليها، فما نسب إلى بعضهم واستقربه الآخرون لا يخلو عن سفاهة، كما لا يخفى. وأما ما في كتب اللغة والنحو من أن ل? " أي " معاني خمسة، ومنها أنها تجئ منادى في قولهم: " يا أيها الرجل " (8) فهو من الغلط بالضرورة، فإن كونها منادى ليس من معانيها المفردة التي وضعت " أي " لها، ولا معنى ل? " أي " ولا لغير " أي " في الجملة المركبة إلا ما هو معناها عند الوضع والإفراد، وما ربما يقال: إن للجمل وضعا يخص بها، مما أفسده الوجدان والبرهان في الأصول (9). فتحصل إلى هنا نقاط ضعف القوم فيما أفادوه، وبقي ما هو حقيقة المقصود من هذه الجملة الناقصة. وتوهم: أنها جملة تامة ناشئ من كون حرف النداء بمعنى الفعل، أي " أنادي " وأمثال ذلك، وكون الجملة ناقصة بالضرورة يشهد على فساد رأيهم في تفسير حرف النداء، كما لا يخفى، فافهم وتدبر. والذي يظهر لي: أن بمراجعه بعض الألسنة الأخرى - كالفارسية - يتبين: أن هذه الكلمة والجملة مشتملة على النداء والمنادى وتأكيد الخطاب والتوجيه بإفادة اختصاص المذكور في الكلام بالنداء شخصا، مثلا في الفارسية ربما يقال: (أي حاضرين)، وربما يقال: (أي أشخاص حاضرين) أو يقال: (أي اشخاصى كه حاضر هستيد)، فإنه يحصل التأكيد في الجملتين الأخيرتين توجيه الخطاب إلى الحاضرين بأشخاصهم، وكأنه يحصل به تجزئة الخطاب إلى كل فرد فرد بالغاية وبذكر ما يدل عليه. فعلى هذا يكون بحسب اللفظ " أي " منادى، وبحسب المعنى تأكيدا لما هو المخصوص بالنداء. ومما يدل على ذلك: أنه لا يأتي " أيها " إلا على المعرف سواء كان مفردا نحويا " أيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " أو كان جمعا نحويا: " أيها الذين آمنوا "، أو شبه جمع نحويا: " أيها الناس ". ومن هنا يظهر: أن لل? " ها " أيضا معنى يشابه معنى " أي " هنا في توكيد هذا الأمر المؤكد بالتنبيه، وأن الخطاب يخص بهم، ولا يشككون فيه تشكيكا ناشئا من التخيلات الممكن خطورها ببال الناس، فجميع الناس كل واحد منهم مخصوص بهذا النداء العالمي العام الشامل. بقي المناقضة على حالها، فإن " أي " تدل على العموم البدلي والجمع على العموم الاستغراقي حسب مصطلحات الأصول، وقد مر منا دفع هذه الشبهة ذيل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم)، فإن ضمير الجمع يرجع إلى الألف واللام الموصول حسب معتقدهم في الألف واللام، وهو لا يدل على الجمع، فكيف يصح رجوع ضميره إليه؟وهكذا إرجاع ضمير الجمع إلى كلمة " من " الموصول، فإنها تدل على البدل، فليتأمل.

بقي شئ

حول الألف واللام في " الناس " اختلفوا في أن الألف واللام هنا للتعريف، كما هو المشهور (10)، أم هي بدل عن " يا " و " أي "، وهو وإن كان منادى، إلا أن نداءه لفظي، والمنادى في الحقيقة هو المقرون ب? " أل "، وهذا رأي ابن نزار (11). والذي هو التحقيق: أن الألف واللام هنا وفي الجمع المحلى باللام ليس للتعريف، ولا يقتضي الاستيعاب، لعدم شاهد عليه من أهل اللسان، وما هو الأظهر أن مع وجود الألف واللام لا يدخل التنوين لفظا ولا معنى، وإذا كان التنوين دالا على التنكير والوحدة فلابد من الألف واللام، حتى لا يكون في الكلام دال عليه إذا كان نظر المتكلم إلى عدم إفادة التنكير أو التوحيد، وقد مر تفصيله فيما سبق. قوله تعالى: (اعبدوا ربكم) جملة ابتدائية ليست ذات محل. ويمكن أن يقال: إنها عطف على الأولى، لما فيه من قوله: " أناديكم أيها الناس واعبدوا ربكم "، وقد مر بطلانه بما لا مزيد عليه. قوله تعالى: (والذين من قبلكم) عطف وذو محل نصب، لكونه عطفا على المفعول به السابق، وهو الكاف والميم، و (من قبلكم) ظرف لغو متعلق بمحذوف هو صلة " الذين ".قوله تعالى: (لعلكم تتقون) يظهر أن هذه الجملة في حكم جواب الأمر، أي " اعبدوا ربكم لعلكم تتقون وتصيروا متقين " فتكون جملة (تتقون) في محل الرفع خبر الكلمة " لعل ". هذا حكم الآية بحسب الإعراب بالنسبة إلى أجزائها، وأما نفس الآية بمجموعها فظاهرها أنها استئناف وشروع في باب آخر أجنبي عما سبق، فلا يحتمل العطف أو الارتباط المعنوي بما سلف. والذي يظهر لي كما يأتي تفصيله: أنها في حكم المعطوف، لأن الآيات السابقة مشتملة على بيان أحوال المتقين والكافرين والمنافقين، وقد بقي بيان حال المشركين في العبادة الذين ليسوا من القبائل الثلاث، فأريد توجيههم إلى الطائفة الأولى، وهم المتقون بترك الشرك العبادي، فاغتنم.


1- راجع البحر المحيط 1: 94، الجامع لأحكام القرآن 1: 225.

2- البحر المحيط 1: 94.

3- مجمع البيان 1: 59، البحر المحيط 1: 94.

4- البحر المحيط 1: 94.

5- الجامع لأحكام القرآن 1: 225.

6- الجامع لأحكام القرآن 1: 225.

7- الجامع لأحكام القرآن 1: 225.

8- راجع مغني اللبيب: 40 - 41.

9- تحريرات في الأصول 1: 111 وما بعدها.

10- راجع روح المعاني 1: 183.

11- نفس المصدر.