اللغة والصرف

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " يا " " يا " حرف لنداء البعيد حقيقة، أو حكما كما في صورة تنزيل غفلة السامع ونسيانه منزلة البعد، أو لغرض آخر، وقد ينادى به القريب توكيدا. وقيل: هي مشتركة بين القريب والبعيد (1)، والمراد من الاشتراك هي الشركة المعنوية، فيكون لمطلق النداء، ولو كان مشتركا لفظيا يكون للقريب والبعيد. فما يظهر منهم لا يخلو عن تعسف وتأسف. وهي أكثر أحرف النداء استعمالا، ولذا لا يقدر عند الحذف سواها. وهذان الأمران شاهدان على أن " يا " لمطلق النداء، وإلا فلا معنى لتقديرها في صورة القريب، ولا ينادى اسم الجلالة والاسم المستغاث و " أيها " و " أيتها " إلا بها، ولا المندوب إلا بها وب? " وا "، وربما يلي ياء النداء ما ليس بمنادي، كالفعل في " ألا يا اسجدوا "، أو الحرف، نحو (يا ليتني كنت معهم) (2)، وعندئذ قالوا: هي للنداء والمنادى محذوف، والأظهر أنه للنداء والمنادى نفس الجملة. وسيظهر أن حرف النداء موضوع لماذا، حتى يتبين صحة استعماله حقيقة في أمثال هذه المواقف. وقيل: إن وليها دعاء أو أمر فهي للنداء، لكثرة وقوع النداء قبلهما، وإلا فهي للتنبيه (3)، وسيظهر ضعفه، كما سيظهر وجه قول الراجز: " يا لك من قبرة بمعمر " (4)، وقولهم: ياله كذا، ويا له رجلا، ويا له من رجل، وغير ذلك. ثم إن جمعا زعموا أن " يا " اسم فعل معناها أنادي (5)، وقد أمالها بعضهم عند القراءة (6). وهذا القول من قبيل قول النحاة: " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء، مريدين به تفسير المعنى الحرفي بالمفاهيم الاسمية، فكأن القائل المذكور أراد تفسير المعنى الحرفي للياء بمفهوم اسمي، فتدبر.

المسألة الثانية: حول معنى حروف النداء إن الألفاظ للمعاني، وتحكي عنها عند الاستعمال، فتكون حاكيات. ومعنى الحكاية وجود المحكي قبل الاستعمال، حتى يكون اللفظ في ظرف الاستعمال حاكيا له، وهذا مما لا يتصور في حرف النداء وبعض الحروف الاخر، وحروف النداء أظهر الحروف في أنها أدوات إيجادية وتوجد بها معانيها، مع أن سببيتها لوجود المعاني تناقض كونها مستعملة فيها، بداهة أن الاستعمال فرع وجودها، فكيف يعقل أن يكون السبب فرع المسبب ؟! ولذلك غمضوا عيونهم وغضوا أبصارهم في الأصول، وقالوا: الاستعمال على ضربين: إيجادي وحكائي (7)، وحروف النداء من الاستعمالات الإيجادية، غفلة عن أنه أمر لا يناسب العقول العرفية، بل ولا العقل البرهاني، لأن الاستعمال الإيجادي توصيف باطل غير معقول. والذي هو التحقيق: أن هذه الحروف موضوعة لاعتبار المعاني الحاصلة بغيرها تكوينا، مثلا الصوت الرشيد العالي نداء البعيد حقيقة، وهذا الصوت بناء ارتكازي من الناس على ندائهم إخوانهم عند الحاجة وإرادة الإعلان والإعلام، وحيث توجه عائلة البشر بعد ذلك إلى لزوم اعتبار هذا النداء، ولما لا يصح التصويت المزعج، ولا ينبغي أحيانا رفع الصوت في المحاضر والمحافل، توسل إلى وضع لغة أو لغات يعتبر وراءها هذا النداء العالي، أي إن المتكلم في صورة النداء العالي كان يريد الاهتمام بالأمر، فإذا ألقى كلمة ياء مثلا، فهو يريد الأمر المهتم به، فلا استعمال لهذه الحروف في شئ، بل هو استعمال إلقائي، نظرا إلى انتقال المخاطب إلى ما أراده وقصده وراء هذه اللفظة. وقيل: جميع الألفاظ من هذا القبيل. وتفصيله في الأصول وأصولنا (8)، فلا تذهل.

المسألة الثالثة: حول كلمة " أي " " أي " تأتي على وجوه خمسة على المشهور (9): الشرطية، أيا ما تفعل أفعل. الاستفهامية، (أيكم زادته هذه إيمانا) (10)، ويمكن حملها على الشرطية محذوفة الجواب، أي: أيكم زادته هذه إيمانا فنعلم به ونطلع عليه. الموصولة، خلافا لأحمد بن يحيى، نحو: " سلم على أيهم أفضل "، أي على الذي هو أفضلهم. ويشهد لفساد رأي المشهور: أن تفسيره بالموصول يحتاج إلى مؤنة زائدة، فإن كلمة " أي " تدل على العموم البدلي، بخلاف " الذي ". وهي عند الكوفيين وجماعة من البصريين معربة دائما كالشرطية والاستفهامية. المعنى الرابع: الموصوفة، خلافا للأكثر، ووفاقا للأخفش، فتكون دالة على معنى الكمال، نحو: " زيد رجل أي رجل "، وحالا من المعرفة، نحو: " مررت بأحمد أي رجل ". الخامس: أن تكون وصلة لنداء ما فيه " ال " ملحقة ب? " ها " التنبيه، نحو: يا أيها الرجل، ويا أيتها المرأة، وقد يقال: يا أيها المرأة، وقيل: هي بمثابة " كل " مع النكرة، وبمثابة " بعض " مع المعرفة (11)، وفيه نظر واضح، فإن " كل " للعموم الاستغراقي، وأي للعموم البدلي، كما تحرر في الأصول (12).

المسألة الرابعة: حول كلمة " ها " " ها " تأتي على وجوه: الأول: اسم فعل بمعنى " خذ "، ويجوز مد ألفها، وتستعمل بكاف الخطاب وبدونها، ويجوز في الممدودة أن تستغني عن الكاف بتصريف همزتها تصاريف الكاف، فيقال: هاء للمذكر، وهاء للمؤنث، وهاؤما وهاؤم وهاؤن، ومنه قوله تعالى: (هاؤم اقرؤوا كتابيه) (13)، وهذا من غريب التصاريف. الثاني: تأتي ضمير مؤنث، تستعمل مجرورة الموضع ومنصوبته، نحو: (فألهمها فجورها وتقواها) (14)، والهاء الضمير، والألف علامة التأنيث، أو يقال: إن الهاء للتأنيث. الثالث: تأتي للتنبيه، فتدخل: تارة على اسم الإشارة غير المختصة بالبعيد، نحو هذا وهذاك، إلا أنها تدخل من المتوسط على المفرد (15)، ولم يثبت لي أن " ها " هنا لها معنى مستقل، ولا يناسب موارد استعمال الإشارة إلا ما شذ، فإنه كثيرا ما يستعمل في موارد مخاطبة الإنسان نفسه في الشعر والنثر، أو مخاطبة الغائب، فلا يكون محل للتنبيه عادة حسب المتعارف، فدعوى: أن " هذا " من حروف الإشارة، أولى من دعوى: تركبها من هاء التنبيه والإشارة. وأخرى: ضمير الرفع، نحو قوله تعالى: (ها أنتم أولاء) (16)، (17) ولازم ذلك كونه للتنبيه الأعم من المفرد والجمع، كما لا يخفى. وثالثة: تجئ نعتا ل? " أي " في النداء، نحو (يا أيها الناس)، وهي في هذا الموضع واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء، وقيل: للتعويض عما تضاف إليه، ويجوز في هذه ضمها على لغة بني مالك من بني أسد، فيقولون: " يا أيه الرجل " بضم الهاء، ومنه قوله تعالى في سورة الرحمن: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) (18) فيكون الضم للاتباع والمجاورة (19)، وفي غير هذا الموضع أيضا. والذي هو التحقيق: أن المنادى هو الناس، و " أي " تفيد العموم البدلي، دفعا لتوهم كون الناس بالعموم المجموعي مورد النداء، وحيث لا يتصور العموم المجموعي في نحو (يا أيها النبي) و " يا أيها الرجل "، فتكون " أي " تفيد العموم البدلي الأحوالي، ولأجل أن " أي " لا تكفي للفصل بين ياء النداء والمنادى المعرف بالألف واللام جئ بالهاء حتى يستحسن الكلام، ويخرج عن الشناعة والاشمئزاز في المفرد.

المسألة الخامسة: حول كلمة " خلق " خلق الأديم - من باب نصر - خلقا وخلقة: قدره قبل أن يقطعه، خلق الشئ: أوجده وأبدعه على غير مثال سبق، والإفك: افتراه، الخالق الصانع تبارك الله أحسن الخالقين، أي أحسن المقدرين أو الصانعين، أو هو مبني على زعم الزاعمين. انتهى ما في " الأقرب " (20). وقال ابن حيان: الخلق أصله التقدير، خلقت الأديم: قدرته. وقال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد والإحداث والإبداع والاختراع والإنشاء متقارب (21). انتهى. أقول: هاهنا بحثان: الأول: أن هذه المادة - بحسب اللغة - ليست من مختصاته تعالى، فإن اللغة مضافا إلى موارد الاستعمال تشهد على الأعمية، ومنه قوله تعالى: (تخلقون إفكا) (22)، وقوله تعالى: (أحسن الخالقين) (23)، وفي الصافات: (وتذرون أحسن الخالقين) (24)، والحمل على المجازية خلاف الأصل. هذا ولا يساعد الاختصاص تاريخ اللغات، فإنها حدثت في مواطن المشركين طبعا، ثم بعد نشر التوحيد أطلقت عليه تعالى، ولا ينبغي الخلط، فإن جميع اللغات يشترك فيها غيره تعالى بحسب المفهوم العام، إلا ما هو بالقياس إليه علم من الأول، أو صار علما ثانيا، وفي كثير من الآيات ما يومئ إلى أعمية المفهوم، مثلا قوله تعالى: (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) (25) ليس في مقام نفي الخالقية عنهم لأجل عدم صدق المفهوم، بل الظاهر منها ومن أمثالها الكثيرة توسعة المفهوم، ولكنها في مقام تعجيزهم عن الخلق والتكوين. ثم إن توهم: أن الخلق هو التقدير غير صحيح، فإن من التقدير ما ليس بخلق، كما في تقدير الأشياء الغير المنتظمة على كيفية منتظمة. الثاني: هل الخلق بمعنى إيجاد الشئ وإخراجه من العدم البحت والليس المحض إلى الوجود، أم الخلق - بحسب اللغة - إيجاد الشئ من الشئ، كإيجاد الإنسان من النطفة، والعلقة من المضغة، والثمرة من النواة... وهكذا؟لا يبعد الثاني حسب الموارد. هذا بحسب اللغة. وأما بحسب الاصطلاح - في الكتب العقلية - فالخلق مقابل الإبداع، وأن الخلق أعم من الكائنات والمخترعات، فإن الكائنات هي العنصريات، والمخترعات هي الأثيريات عند القدماء، والمبدعات هي الوجودات التي لا تحتاج إلى أكثر من الإمكان الذاتي في الوجود. وأما الذي ربما يظهر لأهل الوقوف على حقائق الكتاب الإلهي: أن الخلق في اصطلاح الكتاب العزيز مقابل الأمر، فإن الأشياء بحسب التكوين بين ما هي مجردات محضة لا تعانقها ظلمات المادة وشرور الطبائع، وهي الأمريات، وبين ما هي متعانقة مع المواد والطبائع وموجودات في الزمان والمكان، وهو الخلق، فجميع الموجودات المادية - السماوية والأرضية - من الخلق، وما هو الفارغ بحسب الذات والفعل، أو بحسب الذات فقط، من الأمريات، وهذا الاصطلاح ربما يحصل من الرجوع إلى آيات: منها قوله تعالى: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) (26)، وقوله تعالى: (ألا له الخلق والامر) (27)، وقوله تعالى في موضعين: (أحسن الخالقين) (28)، فإن صفة الخلق أعم، وأما صفة الإبداع - أي الإيجاد من كتم العدم ومن لا شئ - فهي مخصوصة بالله تعالى. وقوله تعالى: (من شر ما خلق) (29)، فإن المجردات في أفق التجرد ليست ذات شرور، وقد اشتهر أنه لا تزاحم بين المجردات. وتمام الكلام في ذيل كلمة " أمر ". ومما يدل على أن مادة الخلق أعم، ولا تخص به الله تعالى قوله تعالى: (إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) (30). ومما يؤيد ذلك: أن النحويين ابتلوا في قوله تعالى: (وخلق الله السماوات والأرض) (31) أنه لو كانت السماوات مفعولا به، للزم أن تكون هي قابلة للفعل وللخلق، فلابد وأن تكون موجودة قبل الخلق، حتى يقع الفعل عليها، كما هو شأن المفعول به. وتلك البلية ترتفع وتضمحل على التقريب المزبور، لبداهة أن السماوات والأرض، تحصلان في الموجودات السابقة عليها التي هي قوابلها الاستعدادية، فيكون الفعل صادرا من الله تعالى ومتعلقا بتلك المادة، وتصير هي الإنسان والسماء والأرض، وعندئذ يصح أن يقال: خلق الله الإنسان... وهكذا. وسيمر عليك في محله أن هذه الآية فيها بحوث علمية، ولعل تكرارها في الكتاب لاشتمالها على ما يفهمه المتأخرون الذين هم أدق نظرا.

المسألة السادسة: حول كلمة " قبل " " قبل " نقيض " بعد "، وهي ظرف زمان، وقال جمع: إنهما للمكان أيضا، فيقال: مكة قبل المدينة، أو بالعكس باختلاف حالات الأشخاص، وربما يستعملان بحسب المنزلة: إن فلانا عند السلطان قبل فلان، أو بعده، وفي الترتيب الصناعي، يقال: تعلم المنطق قبل الفلسفة، والأدب قبل الفقه، والعرفان بعد الحكمة. فما اشتهر: أنهما ظرفان للزمان من الغلط، بل هما بحسب المعنى أعم، وتابعان ما يضافان إليه ويعتبران بالقياس إليه. وبالجملة: هي معربة ومبنية، تعرب فيما إذا ذكر المضاف إليه ودخلت عليه " من "، نحو كنت نسيا من قبل هذا، وتكون مبنية إذا حذف المضاف إليه ونوي معناه فقط دون لفظه، نحو (لله الامر من قبل ومن بعد) (32)، وإذا نوي لفظه ومعناه أجريت بلا تنوين، وإذا لم تضف تعرب منونة، نحو: فساغ لي الشراب وكنت قبلا وفيه اختلافات اخر ناشئة من ملاحظة المناسبات من غير استنادها إلى أمور صحيحة أصيلة، فراجع.

المسألة السابعة: مفاد هيئة الأمر اختلفوا في مفاد هيئة الأمر على أقوال كثيرة محررة في الأصول: فذهب جمع إلى الاشتراك اللفظي بحسب اختلاف موارد الاستعمال (33)، فربما عدوا له معاني أكثر من عشرة ونيف، فإنه كما يكون للتعجيز تارة، وللدعاء أخرى، يكون للوجوب وللاستحباب وللترخيص، وغير ذلك من المعاني التي تكون خارجة عن الموضوع له ومفاد الهيئة، وتخيلوا أنها من معانيها على سبيل الاشتراك اللفظي. وذهب جمع آخر إلى الاشتراك بين الوجوب والندب (34)، وقيل: هو لنفس طلب الفعل، واللزوم والندب يستفادان من القرائن الخارجة (35)، وعند الإطلاق يحمل على الوجوب، لأن عدم الإتيان بقرينة الندب قرينة على الوجوب. والذي اختاره المحققون من الأصوليين: أن هيئة الأمر تفيد البعث والإغراء نحو المادة كالإشارة، ولكنها ليست موضوعة لمفهوم البعث والإغراء والتحريك الكلي، بل هي لمصداق التحريك والبعث، فيكون موضوعا لمعنى حرفي لا اسمي، وهو البعث الخارجي، لا المفهوم الكلي (36). ويتوجه عليهم: بأن معنى الاستعمال هو وجود المعنى الموضوع له في الرتبة السابقة عليه، فلابد من وجود الإشارة الخارجية أولا حتى تكون الهيئة مستعملة فيها، وتفيد معناها، وحيث لا إشارة في الخارج في ظرف الاستعمال، فكيف يكون هو موضوعا لمعنى البعث والإغراء، فكما ان زيدا موضوع لمعنى موجود كذلك الهيئة موضوعة لذلك المعنى الموجود بنحوه الخاص به اسميا كان أو حرفيا. ومن هنا يظهر ما هو الرأي الفصل والنظر الجزل: وهو أن هيئة الأمر وضعت لتنوب مناب الإشارة، وتحدث حادثة تحصل بالإشارة في الاعتبار والبناء العقلائي، فما هو يحصل من الإشارة - وهو التحريك نحو المادة - يحصل من الهيئة في الاعتبار. وأما المعاني الاخر المستفادة منها فهي داخلة في دواعي الاستعمال، فإنها تارة تستعمل بداعي التعجيز، وأخرى بداعي الدعاء، وثالثة بداعي الإيجاب والتشريع... وهكذا، واختلاف الدواعي لا يورث اختلاف المعنى المستعمل فيه بالضرورة، وتعيين أحد الدواعي - في قبال سائر الدواعي - بالقرينة الجزئية الموجودة والعدمية أو الكلية. ومن القرائن الكلية العامة العدمية: أنه إذا أطلقت الهيئة، ولم يكن في البين قرينة على أحد الدواعي المذكورة، يحمل بحكم العرف وبناء العقلاء على الوجوب وتمامية الحجة من قبل المولى، وهذا يستند إلى القرينة العدمية العامة، لبناء العقلاء في إفادة سائر الدواعي على ذكر القرائن المفيدة والمعينة. وتمام الكلام حول ذلك في الأصول (37)، وإنما أشرنا إليه هنا، لاحتياج المفسر للكتاب الإلهي إلى التعمق والتدبر في هيئات الأمر والنهي، فاغتنم.

المسألة الثامنة: حول كلمة " لعل " " لعل " من الحروف المشبهة بالفعل وفيها إحدى عشرة لغة، وهي: لعل وعل وعن وغن وأن ولان ولون ورعل ولعن ولغن ورغن (38)، وتصير معها اثنتي عشرة لغة. ولا يخفى ما فيه من الأضحوكة. إذا اتصلت بها ياء المتكلم يجوز أن يلحقها نون الوقاية (39)، وهو الأولى والأكثر، يقول: لعلني، ويقول أحيانا: (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) (40). واشتهر: أنها كسائر أخواتها تعمل في الاسم عمل النصب، وفي الخبر عمل الرفع (41)، وحكي عن الفراء وأصدقائه: أنها تنصب الاسمين معا، نحو " لعل زيدا منطلقا " (42)، وعن السيرافي في شرح " الكتاب ": أنها حرف جر زائد عند بني عقيل، ومجرورها في محل رفع بالابتداء، نحو بحسبك زيد (43). ثم إنه تتصل بها " ما " الكافة، وعن جماعة يجوز إعمالها حملا على " ليت " (44). وقد ذكروا لها معاني (45): أحدها: التوقع، وهو ترجي المحبوب، والإشفاق من المكروه، وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله، وقول فرعون فيما مر: (لعلي أبلغ الأسباب) جزاف أو تخيل إمكان (46). ثانيها: التعليل، وهو رأي جماعة، وفيهم الأخفش والكسائي (47)، ومنه عندهم قوله تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) (48)، ومن لم يثبت ذلك يتوسل إلى الحمل، حذرا عما يتوجه من الإشكال العقلي الآتي. ثالثها: الاستفهام، وهو المحكي عن الكوفيين (49)، ومنه قوله تعالى عندهم: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (50). ورابعها: بمعنى " عسى " فيما إذا كان خبرها مقرونا ب? " أن " أو بحرف التنفيس. وقيل بامتناع كون خبرها فعلا ماضيا، خلافا للحريري (51). وفي بعض الكلمات الكلية: كل ما في القرآن من " لعل " فهي للتعليل إلا (لعلكم تخلدون) (52)، فإنها للتشبيه (53). قال في " الأقرب ": وهذا غريب لم يذكره النحاة (54). وقيل: " لعل " يأتي بمعنى " كي " (55)، وقيل: هو في القرآن بمعناه (56)، ويكذبهم قوله: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (57). وسيظهر: أن منشأ هذه التخيلات الباردة عدم بلوغهم إلى حقيقة المرام في المقام، وإلا فهي بمعناها في القرآن أيضا. أقول: أنت خبير بأن " لعل " ليست إلا بمعنى التوقع والترجي حسب الأصل والتبادر والاطراد، وحملها على التعليل لا يخلو عن تعسف، فإن قوله تعالى: (لعله يتذكر أو يخشى) (58) لو كان تعليلا لكان إخبارا، وكان لازمه تذكره بعد قولهما، مع أن الأمر لم يكن كذلك، فهو إنشاء لا إخبار بالضرورة، وإنما وجه تخلفهم عن اللغة إلى هذه المعاني الباردة تخيلهم الإشكال العقلي في المسألة، ضرورة أن الترجي والتوقع يستحسن من الجاهل، وأما العالم بالواقعيات فلا يترشح منه إرادة الترجي والتوقع. ولأجل هذه الشبهة المذكورة في الكتب الأصولية ابتلي فيها أهلها بأن المشكلة لا تنحل إلا بذهابنا إلى المجازية (59)، وهو أيضا غير صحيح. أو إلى أنه مجرد إنشاء لا جد وراءه، فإن ما هو الممتنع عليه تعالى هو الترجي جدا، والتوقع واقعا، لا إنشاء، فبحسب الإرادة الاستعمالية لا مجازية، وإنما المجازية بحسب الإرادة الجدية، وهي ليست بمجازية في اللغة حتى يكون من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، ضرورة أنها موضوعة لإبراز التوقع والترجي الأعم من كونه إبرازا مطابقا للواقع والجد أو مخالفا. وفيه: أنه يستلزم الكذب، فإن إظهار الرجاء إذا لم يكن في القلب رجاء كذب، كما لا يخفى. ولنا أن نقول: إن الترجي والتمني والتوقع بالقياس إلى الممتنعات بالغير جائزة، لأن النظر في حين الترجي إلى طبع الأمر وإلى مقتضى طبع الواقعة والقصة، مثلا يجوز مع العلم بعدم حصول الملك الكلي للإنسان، أن يترجى ذلك ويتوقع بحسب الحكم الاقتضائي وإن كان ممتنعا بالغير، أو معلوما عدم حصوله، ولا سيما إذا كان مبادي هذا الامتناع بالغير حاصلة باختياره، ولعل منه قوله: (لعلي أبلغ أسباب السماوات) ومن هذا الباب، فافهم ولا تخبر أحدا ما في القرآن العزيز. فإن امتناع تذكر فرعون وأمثاله يستند في وجه أعلى وافق أرفع إليه تعالى، من غير لزوم الجبر والتسخير، نظرا إلى ما يقتضيه النظام الكلي، فإذا كان الأمر كذلك يمكن أن يترجى جدا تذكر فرعون، لأجل الحب إلى الخلق والعشق بالنسبة إلى المخلوقين، إلا أنه لأجل اقتضاء المصالح الكلية العامة في النظام الإلهي يمتنع بالغير ذلك، وهو يعلم بهذا الامتناع من غير أن يلزم الجهل مستندا إليه، كن على بصيرة. ومن كان له قدم راسخ في كيفية الوحي، يتمكن له حل المشكلة من ذلك الطريق، ولعل في موضع نشير إليه حتى يتبين الرشد من الغي. والله هو الغفور الرحيم.

تذنيب

حول الرجاء في الآيات يظهر من العلماء الأصوليين: أن من الألفاظ المستعملة في الكتاب الإلهي ما يدل على التمني، ومنه " ليت "، مع أنه ليس في الكتاب الإلهي منه عين، وما يدل على الرجاء ربما يلازم الجهل، وما يدل على التمني يلازم العجز، فما يظهر أحيانا من الآلوسي من استلزام الترجي للعجز (60) غير صحيح. نعم إذا تعلق الترجي بالاقتدار يوهم العجز، ولكنه لا ينافي القدرة الواقعية، فلازمه أيضا هو الجهل بالقدرة، لا العجز. وبالجملة: ربما يقال: حل الإشكال بأن الترجي بلحاظ حال المتكلم أو المخاطب، فإذا قيل: (لعلهم يتقون) (61) أريد به إحياء الرجاء في قلوبهم، وهكذا إذا قيل: (لعله يتذكر أو يخشى)، فإذا أريد به إحياء الرجاء في موسى (عليه السلام) بالنسبة إلى فرعون، حتى يتمكن موسى (عليه السلام) من الأمر جدا، والنهي حقيقة لا صورة وإنشاء، ضرورة أنه لا يمكن الأمر الجدي من الله تبارك وتعالى في حقه، بعد كونه عالما بأنه لا ينبعث ولا ينزجر من الأمر والنهي، فتأمل. فبالجملة: جميع ما قيل لو صح بالنسبة إلى بعض الآيات لا يتم، ولا تنحل المشكلة بالنسبة إلى قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (62)، ولذلك قالوا: إن " لعل " هنا للاستفهام، مع أن الاستفهام أشد إلصاقا بالجهل من الترجي والإشفاق، مع أنه لا داعي إلى الاستفهام وتعليل استعماله في الأشعار والأدب جدا. وقد تبين مما ذكرنا: أن قصور الوصول إلى حل المعضلة، أوقعهم في هذه التشبثات والتفصيل في الاستعمالات.

بقي شئ

في ترك أداة التمني وهو أن ترك أداة التمني ربما كان لأجل عدم مسانخته مع المقام الربوبي، ضرورة أن نسبة الأمل والرجاء إليه تعالى ليس فيه إلا إظهار العشق والمحبة والعلاقة المتعانقة مع كمال القدرة والعلم، فإنه يأمل ويرجو أن يصل العبد إلى المقامات العالية بالاختيار، وأما التمني ففيه من التواضع والانحطاط غير اللائق بالجناب الإلهي. والله العالم.

تحقيق

حول إظهار المحبة بأداة الترجي قد ذكرنا فيما سبق أن أداة الترجي ليست موضوعة لأن تستعمل حال الجهل بما يترجى، بل هو أعم منه ومن إظهار المحبة والعلاقة بتحقق المرجو. ويتوجه على هذه المقالة: أن إظهار العلاقة إن كان خلافا لواقع العلاقة يكون كذبا وإن كان كاشفا عن ذات العلاقة يلزم كون الذات مركبة، للزوم كونها محلا للعلاقات، فالعلاقة فيها ليست إلا العلم والإرادة والقدرة، وهكذا، على ما تحرر في محله. فعلى هذا لابد من الالتزام بالمجاز والتجاهل، أو غير ذلك من المناسبات الممكن الالتزام في المقام. اللهم إلا أن يقال: إن في نفس إظهار العلاقة علاقة فانية في العلاقة الكلية الثابتة للذات ولا يخص المتقون بالعلاقة المخصوصة بهم، وإن كانوا مخصوصين بحسب مقام الفعل والعلم الفعلي بأشياء كثيرة. وإن شئت قلت: إن كلمة " لعل " موضوعة لإنشاء الترجي وإظهار العلاقة الاعتبارية اللحاظية، لأن المتقين مع قطع النظر عن الجهات الخارجية والموانع الهامة مورد العلاقة، ولكن لجهات خارجية، وهو النظام وقانون العلية والمعلولية، ليس تقواهم وفلاحهم وشكرهم، وهكذا كل شئ ورد في القرآن تلو أداة الترجي مورد الإرادة الخاصة المنتهية طبعا إلى تحققهم بهذه الصفات، وربما تكون هذه الاستعمالات لانتقال الناس أن الوصول إلى هذه الكمالات تحت اختيارهم، وليست قضايا حتمية حتى يشتغل الآيس بالمعاصي ويترك المؤمن مصير طاعته تعالى، فاغتنم.

بقي بحث آخر

حول إظهار الخوف ب? " لعل " إن في أمثال قوله تعالى: (لعل الساعة قريب) (63)، وقوله تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) (64)، وقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) (65) تأتي " لعل " للإشفاق وإظهار الخوف اللازم لإظهار المحبة والمودة، وظاهر الآيتين الأخيرتين أن المتكلم خائف على نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتقاله وزهوق روحه بالتضحية لأمر الرسالة والتبليغ، وهذا الأمر لا يجوز في حقه تعالى. وتوهم: أن القرآن نزل على العربي المبين، ومعناه جواز هذه الاستعمالات على المجاز والادعاء والتوسع غير بعيد، مضافا بعد اشتمال القرآن على تلك المجازات والاستعارات الكثيرة والكنايات العامة الموجبة لنهاية فصاحته وبلاغته، ولكن الشأن أن " لعل " في هذه المواقف وفي المواقف السابقة - إلا ما شذ - لا تستند إلى الله تعالى، وليست موضوعا لإفادة أن المتكلم هو المترجي والخائف المشفق وإن كان ظاهرا فيه بدوا، ففي هذه المواضع يكون معناه أن هناك خوفا من أن تقتل نفسك وتذبح وريدك، وأما أن الخائف هو الله تعالى أو هو غيره فهو ساكت عنه، فيكون الكلام في مقام إفادة أن موقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) موقف الخوف من هلاكه وفنائه، فعلى هذا تلك الاستعمالات في الآيات الأخر، ربما تكون على كثرتها من هذا الباب، وتنحل المشكلة بغير مجاز، إلا قوله تعالى: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا). اللهم إلا أن يقال: إن الآية ولو كانت كالنص في أن المترجي هو الله تعالى، ولكن لا نصوصية أيضا فيها، فإن معناها أن الرجاء والمرجو أن يحدث الله أمرا، وأما الراجي لذلك فربما كانت النفوس الاخر، فتدبر.


1- أقرب الموارد 2: 1494، مغني اللبيب: 191.

2- النساء (4): 73.

3- مغني اللبيب: 191.

4- راجع الصحاح 6: 2562، والبيت لطرفة بن العبد.

5- البحر المحيط 1: 92.

6- البحر المحيط 1: 93.

7- راجع كفاية الأصول: 36، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 37، مناهج الوصول 1: 77.

8- راجع تحريرات في الأصول 1: 107.

9- راجع مغني اللبيب: 40 - 41، وأقرب الموارد 1: 26.

10- التوبة (9): 124.

11- أقرب الموارد 1: 26.

12- تحريرات في الأصول 5: 207.

13- الحاقة (69): 19.

14- الشمس (91): 8.

15- أقرب الموارد 2: 1365.

16- آل عمران (3): 119.

17- أقرب الموارد 2: 1365.

18- الرحمن (55): 31.

19- راجع أقرب الموارد 2: 1365.

20- أقرب الموارد 1: 296.

21- البحر المحيط 1: 93.

22- العنكبوت (29): 17.

23- المؤمنون (23): 14.

24- الصافات (37): 125.

25- الواقعة (56): 59.

26- الإسراء (17): 85.

27- الأعراف (7): 54.

28- المؤمنون (23): 14، الصافات (37): 125.

29- الفلق (113): 2.

30- المائدة (5): 110.

31- الجاثية (45): 22.

32- الروم (30): 4.

33- راجع مفاتيح الأصول: 111.

34- الذريعة 1: 53، المستصفي 1: 426.

35- الوافية، الفاضل التوني: 68، راجع مفاتيح الأصول: 110.

36- مناهج الوصول 1: 243.

37- تحريرات في الأصول 2: 77 - 78.

38- أقرب الموارد 2: 1148.

39- راجع نفس المصدر.

40- غافر (40): 36 - 37.

41- راجع أقرب الموارد 2: 1148.

42- راجع مغني اللبيب: 149، وأقرب الموارد 2: 1148.

43- نفس المصدر.

44- راجع مغني اللبيب: 150، وأقرب الموارد 2: 1148.

45- نفس المصدر.

46- مغني اللبيب: 150.

47- مغني اللبيب: 150.

48- طه (20): 44.

49- راجع مغني اللبيب: 150.

50- الطلاق (65): 1.

51- مغني اللبيب: 150، أقرب الموارد 2: 1148.

52- الشعراء (26): 129.

53- أقرب الموارد 2: 1148.

54- راجع أقرب الموارد 2: 1148.

55- الجامع لأحكام القرآن 1: 227، روح المعاني 1: 186.

56- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 276.

57- الطلاق (65): 1.

58- طه (20): 44.

59- راجع فوائد الأصول 2: 127، وكفاية الأصول: 342.

60- راجع تفسير روح المعاني 1: 185.

61- الأعراف (7): 164.

62- الطلاق (65): 1.

63- الشورى (42): 17.

64- الشعراء (26): 3.

65- الكهف (18): 6.