النزول وتأريخ الآية

الآية الواحدة والعشرون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

في أول طليعة الأمر يتوجه القارئ إلى سؤال الارتباط بين الآيات السابقة المشتملة على أحوال الأصناف الثلاثة في اعتبار والسبعة في آخر، وبين هذه الآية، ويتقوى في النظر مقالة ابن عباس ومجاهد وعلقمة والحسن: أن كل آية أولها (يا أيها الناس) مكية، وكل آية أولها (يا أيها الذين آمنوا) مدنية (1)، فتكون هذه الآية بحسب النزول متقدمة على الآيات السابقة وأجنبية عنها، وإنما عقبت الآيات السابقة بها عند جمع الكتاب الإلهي، أو أنها نزلت ثانيا من غير لزوم مراعاة الارتباط، لأن النزول الثاني ليس إلا على مبنى بيان كيفية تأليف الآيات والسور. فما اشتهر: أن سورة البقرة كلها مدنية إلا آية واحدة هي غير هذه الآية، محل المناقشة، وربما يقال: إن ما حكي عن ابن عباس وأشباهه غير صحيح بشهادة هذه الآية، فإنها مدنية وأولها (يا أيها الناس). ويؤيد الكلام الأول قول القاضي، حيث قال: إن كان مبنى الكلام السابق على النقل فمسلم (2). انتهى. أقول: إن هذا الخطاب العام العالمي، لا يناسب إلا ما بعد انبساط الإسلام ونفوذه في الناس الموجودين في شبه جزيرة العرب، وحيث إن توبيخ الكفار والمنافقين يستحسن فيما إذا كان مشفوعا بالرأفة والرحمة، وممزوجا باحتمال هدايتهم وإسلامهم، يصح تعقيب الآيات السابقة بتوجيه الخطاب العام حتى يتوهموا أن القرآن لا ييأس منهم وأن الكتاب الإلهي لا يحسبهم صما وعميانا على الإطلاق، بل يرى فيهم بعد نور الهداية وإمكان الرجوع إلى الحق، فيكون هناك شدة الارتباط. وأما ما حكي عنهم فهو لو صح كلام غالبي لا كلي، أو حل المشكلة بالالتزام بتكرار النزول، فتارة نزلت في مكة، وأخرى في المدينة، ولاحد دعوى أن المحكي عن ابن عباس غير ثابت (3)، وعلى فرض ثبوته غير حجة. ثم إنه غير خفي: أن الآيات السابقة كانت تشتمل على ثلاث مواضيع، وتنقسم بحسب الموضوع إلى ثلاث أقسام، وهذه الآية والتي بعدها إلى قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أيضا موضوع رابع من موضوعات سورة البقرة، ولذلك جمع كثير من المفسرين بينهما بحسب التفسير والبحث.


1- تفسير التبيان 1: 98، الكشاف 1: 89، البحر المحيط 1: 94، الدر المنثور 1: 33.

2- راجع التفسير الكبير 2: 82.

3- انظر البحر المحيط 1: 94.