تفسير الآية 45 والآية 46

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النور/45) ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النور/46)

فسرنا في المجلس السابق آيتين تتحدّثان عن التغيّرات والظواهر الجويّة، وهدفها كما أشرت هو معرفة الله والدلالة على توحيده. أمّا هذه الآية فتتحدّث عن خلق الحيوانات، أو ما يسمى في المصطلحات المعاصرة باسم "علم الأحياء" ويبقي الهدف أيضا ليس مجرد معلومات عن الكائنات الحية، بل هو إثبات وجود الله، وبعبارة أخرى يعتبر القرآن هذه الأمور - حسب تعبيره - آيات الهية تظهر قدرة الله وعظمته. ولهذا السبب فالكلمة الأولى التي تقرع سمع الإنسان في هذه الآية وفي تلك، هي كلمة "الله" ﴿أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ ويقول في هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾. فما هو الموضوع الذي تتناوله هذه الآية؟

تتضمّن هذه الآية إضافة إلى الهدف الأساسي الذي هو الله الخالق، موضوعين آخرين أحدهما: أن أصل حياة جميع الحيوانات المتحركة هو الماء. والثاني: أن هذه الحيوانات جميعها سواء الزاحف منها أم الماشي على اثنين أم على أربع قد خلقت بمشيئة الله وقدرته.

الموضوع الأوّل الذي قال فيه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ جاء هذا الموضوع أيضا في آية أخرى أكثر شمولية، وهو قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء/30) وهنا تأكيد واضح على أن العنصر الأساسي في الحياة هو الماء الذي اصبح اليوم من جملة الأمور القطعية من جوانب متعددة منها: أن جسم الإنسان مع كل مافية من أعضاء وجوارح وجلد وعظام وشحم، يشكّل الماء نسبة كبيرة فيه قياسا إلى العناصر الأخرى، وقد تصل هذه النسبة إلى 80% بمعنى أن الشخص الذي يزن 50 كيلو غراما تكون كمية الماء في جسمه 40 كيلو غراما، وبقية العناصر عشرة كيلوغرامات، حسب ما ذكره لي طبيب متخصّص كان يوصيني بالإكثار من شرب الماء ويتلو علي الآية الشريفة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ كل خلية من خلايا جسمنا التي يقال عنها أنها تتألف من ثلاثة أجزاء رئيسية هي: النواة، والغشاء، وسائل البروتوبلازم، تعتبر المادة السائلة أهم أقسام الخلية من الوجهة الحياتية، والتي يشكّل الماء العنصر الأساسي بها. إذن الماء هو المادّة الأساسية في تكوّن كلّ حيوان متحرّك.

من الطبيعي أنّ كلمة"الدابّة" لا تشمل جميع أنواع الكائنات الحيّة. إلا أنّ مصدر نشوء سائر الكائنات الحية هو سائل كالنطفة، وحتى الحيوانات التي تخرج من بيضة، يشكل الماء أيضا العنصر الأساسي من مكونات كل بيضة.

إضافة إلى أن الأهم من كل ذلك هو بداية نشوء الحياة على الكرة الأرضية وهو موضوع أكثر العلماء من البحث فيه لكنهم لم يتوصّلوا حتى الآن إلى نتيجة قطعية بشأنه. وإنّما تدور جميع النظريات حول فرضية نشوء الحياة من الماء ولم تنشأ من اليابسة.

وهذا هو السبب الذي يجعل من الماء رمزا للحياة. وردت كلمة الماء في مواضع أخرى من القرآن الكريم بصفته رمزا للحياة وكناية عنها، بل وحتى كناية عن الحياة المعنوية. وذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾ (الملك/30). وظاهر الآية واضح جدا، إلا أنّ تفاسيرها الواردة عن الأئمة الأطهار اعتبرت الماء تعبيرا عن الحياة المعنوية. وبهذا يكون معناها: إذا زال من بينكم حجة الله، أو الأمام فمن ذا الذي هو منشأ الحياة المعنوية عبرت عنه الآية بـ "الماء".

وعلى كلّ حال فالماء هو سر الحياة ورمزها. أما عن علاقة هذا العنصر بالحياة في نظر العلوم الطبيعية فقد أفاضت العلوم الطبيعية في ذكره، والمتخصصون أكثر منا معرفة واطلاعا على هذا الموضوع، لكن القدر المسلم به أنه ليست ثمة مادة أكثر صلة بالحياة من عنصر الماء.

﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النور/45).وهذه الكائنات الحية بعضها يزحف على بطنه كالحية وبعض الديدان الأخرى، وبعضها يسير على رجلين كالإنسان والطيور، وبعضها الآخر يسير على أربعة أرجل.

وبما أن الإنسان وضع هنا في مصاف غيره من حيث مبدأ خلقته من الماء، وأن الآية أول ما ذكرت الزواحف وبعدها الأحياء السائرة على رجلين، وبعدها الكائنات السائرة على أربع. وقدمت ذكر الإنسان في مجال الأحياء التي تسير على رجلين، أراد البعض أن يتخذها (هذه الآية) كدليل يثبت نظرية تطوّر الأنواع، وحاولوا كتابة مواضيع عنها في الصحف والمجلات. وهذه النظرية نظرية قديمة ربّما مّر عليها أكثر من ألفي سنة أو أكثر، ولكنها بعدما ارتدت ثوبا علميا لم يمض عليها أكثر من قرنين.

ظهرت نظرية عن الكائنات الحية تحت عنوان "تسلسل الأنواع" أو "تطور الأنواع" هناك الآن أنواع من الحيوانات، والإنسان بذاته يعتبر نوعا خاصا منها، وهناك أيضا الحصان، والحمار، والبقرة، والجمل، وأنواع الطيور، وأنواع الأسماك، وأنواع الوحوش والضواري فما هي أصول هذه الحيوانات؟ وهل أصل كلّ واحد منها يختلف عن أصل الآخر؟ وهل أصل جميع الأبقار بقرة واحدة ؟ وأصل جميع الجمال جمل واحد ؟ وهل يعود أجداد هؤلاء الناس جميعا إلى جد واحد؟ وهل يعود أجداد هؤلاء الناس جميعا إلى جد واحد؟ ثمّ هل الأصل أو الجد النهائي لكلّ منها لا صلة له بسائر الحيوانات الأخرى؟ أم هذه الأنواع التي نراها اليوم مع ما بينها من الاختلافات والتفاوتات تعود أساسا إلى فصيلة واحدة كبيرة؟ كأن تعود الخيل والجمال أو السباع والأبقار والقرود وأنواع الطيور والأسماك والحيّات والحشرات، بكل فصائلها إلى أسرة واحدة ويرجع الجميع إلى جدّ واحد. وإذا كان الأمر كذلك، فمن هو ذلك الجد؟ وعلى أية هيئة كان؟ هناك بطبيعة الحال- فرضيات كثيرة في هذا الحقل، والبعض يميل إلى تطبيق ما جاء في القرآن على كلّ ما تقول به العلوم، ولهذا يعتقدون أن الآية تشير إلى خلقة جميع الكائنات من ماء واحد. والمراد من ذلك أن الحياة أول ما بدأت بخلية واحدة نشأت على سبيل الفرض أول أمرها إلى جوار بركة ماء، إذن فالحيوانات تعود بأجمعها إلى حيوان يتألّف من خلية واحدة وهذا الأخير يعود مصدره إلى الماء، ثمّ أنّه تكامل تدريجيا، فنشأت عنه الزواحف والدواب، ثم قال القرآن: ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾.

ولكن وللحق أقول أنّ هذه الآية لا تحمل أيّة دلالة أو تصريح بهذا المعنى. ولا يمكننا أن نستنبط من هذه الآية أنّها تشير حتما إلى نظرية تطوّر الأنواع. ولكن ثمة قضية أخرى في هذا الصدد وهي أنّنا يجب أن لا نقع في ذات الخطأ الذي وقع به بعض الجهلة الذين قالوا: إذا كانت الأنواع قد توالدت من بعضها الآخر، فهذا يدلّ على انعدام الخلقة وقدرة الخالق. فلم يكن هناك أسد حتى نقول أنّ الله قد خلقه، ولم يكن هناك حصان لنقول أن الله خلقه، ولا بطة لنقول أنّ الله خلقها.

أنّ هذا الرأي في الحقيقة رأي ساذج، فهب أنها جميعا تعود إلى جد واحد ذي خلية واحدة. إذن فالحياة الأولى قد ظهرت على وجه البسيطة من حيوان ذي خلية واحدة. ولكن من الذي أوجده؟ لم يصرّح العلم حتى الآن بأنّ حيوانا من خلية واحدة ينبثق من تلقاء نفسه بلا أن يكون قد اشتق من كائن حي آخر .

وحتى داروين الذي قال بهذه النظرية كان يعتقد أنّ أصل جميع الأنواع تعود إلى سبعة أحياء، وهنا تكون تلك الأحياء السبعة قد خلقت بنفخة إلهية.

كان داروين موحّدا ومسيحيا متمسكا بالدين، ويقال أنه حين الاحتضار ألصق الإنجيل بصدره ولم يتركه، داروين نفسه لم يكن على هذه الدرجة من الداروينية التي يسير عليها بعض الصبيان ممن قرأوا بضعة اسطر عن "نظرية التطوّر" أو "الداروينية" ويريدون من بعدها إنكار الله والقيامة وكل شيء.

ثانيا: هل أننا نعترف بالله خالقا لنا حينما يكون قد خلق جدنا على هيئة إنسان مرة واحدة؟ فهذا الموضوع لا صلة له بذاك، فنحن من خلق الله على كل الأحوال والقرآن الذي يقول: خلقكم الله يقول: انظروا إنكم كنتم نطفة في الرحم، فجعل الله النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاما، فكساها لحما، إلى نهاية عملية الخلق، إلا أننا نخلق نحن تدريجيا في رحم الأم ونمر بهذه السلسلة من التطورات إلى أن نصبح جنينا وهذا الجنين يكبر على الدوام، نكون في هذه الحالة خلق دائمة، بل وأن العالم بأسره - كما يقول العرفاء- في حالة خلق على الدوام، ولو كان الله تعالى قد خلق الخلق ثم انتحى جانبا - والعياذ بالله - ولا يحصل أي جديد في عالم الخلقة ‎، لما وقع أي تغير في الكون. ولكن بما أن العالم في حالة دوران وحركة وكل شيء فيه يفنى ويحدث على الدوام - جوهرا وعرضا- فهذا هو معنى أن العالم في خلق دائم.

ليس ثمة فارق من حيث الخالقية والتوحيد بين أن تكون الأنواع خلقت دفعة واحدة أو أنّها تكاثرت من بعضها الآخر. ومعنى هذا الكلام أن نظرية داروين تحمل من معاني التوحيد ما تحمله أية نظرية توحيدية أخرى. إلا أنّ البعض تصوّر - ما لم يكن قد خطر حتى على بال داروين نفسه - أنّ ثمّة سلسلة من القوانين الطبيعية في مجال تطور الكائنات الحيّة تمّ الكشف عنها، وأنّ تلك القوانين الطبيعية كافية لوحدها لتطويرها، ولا ضرورة في إنجاز هذا النظام لوجود مبدأ ما وراء الطبيعة، أو ضرورة لتدخّل إرادة غيبية ولكن كيف؟

عرضوا من أجل ذلك جملة من المبادئ -التي كان داروين نفسه قد ذكرها أيضا ولكن بخصائص أخرى- وهي:

1. حب البقاء: كل كائن حي يحب ذاته ويسعى للحفاظ عليها، ويتنازع مع الآخرين في سبيل ذلك. وهو ما يؤدّي تلقائيا إلى مبدأ آخر هو:

2. التنازع لأجل البقاء: وهذا التنازع يؤدي بشكل طبيعي إلى تغلب الموجود الأقوى و ألاصلح للبقاء أو انتخاب الأصلح.

3. مبدأ بقاء الأصلح أو انتخاب الأصلح.

4. مبدأ تأثير البيئة: من الطبيعي أن للبيئة تأثير على الكائنات الحيّة.

5. مبدأ الوراثة: وهو ما ترثه الأجيال من سلفها وتنقله بالوراثة إلى خلفها.

وقد تعرضت هذه المبادىء للنقد والتجريح في ما بعد. لكن ما أثبته العلماء الالهيون هو حتّى لو افترضنا أن هذه القوانين التي تعتبرونها كافية للتطور كانت صحيحة، فهل تكفي لوحدها لإيجاد إنسان من خلية واحدة ولو بعد مرور ملايين السنين، بحيث يتّصف بمثل هذا الجهاز المنظم الدقيق؟ داروين نفسه الذي طرح مبدأ "التكيّف مع البيئة" الذي يعني أنّ كلّ موجود حيّ يتكيّف مع البيئة التي يعيش فيها، كان قد طرحه بشكل أثار ضدّه بعض الاعتراضات القائلة بأنه طرح هذا المبدأ وكأنّه مبدأ غيبي. وهذا هو الحق. لأنّ هذا المبدأ اثبت أنّ لدى كل موجود في أيّة بيئة كان، قوّة داخلية خفيّة تجعل وضع أعضائه وجوارحه وظروف حياته بشكل يتلائم مع المحيط الجديد حتّى بدون إرادته أو رغبته. وهذا من الأسرار الخفية في عالم الخلق، أي من الأسرار التي تثبت أنّ مبدأ الهداية الإلهية موجود في كيان الموجودات كافة، وأن ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ موجود في كل مكان، ويهدي الكائنات في أيّة ظروف كانت نحو خيرها وكمالها بدون أن تعي ذلك أو تدركه.

ها نحن الآن جالسون هنا، وقلب كل واحد منّا يعمل بانتظام وفق ميزان معين، وكبده يعمل بميزان معيّن، ودمه له ميزان معين، ولكريات دمه البيضاء ميزان معين، وكريات دمه الحمراء لها ميزان معين. وإذا ما تغيرت ظروفنا المحيطية كأن يصعد أحدنا إلى طبقات الجو العليا حيث ينخفض الضغط الجوي هناك تتغيّر عند ذاك حاجات البدن، وما أن تتغير حاجات البدن - واقصد طبعا أن لا يكون الصعود سريعا، وإنما صعود تدريجي يتسنى فيه للجسم ابداء ردّ فعله ازاء الجو الجديد- حتى يغير جهاز البدن نظامه تدريجيا ليتكيّف مع الوضع الجديد. فإذا كان عدد كريات الدم البيض على سبيل المثال كبيرا ولا حاجة لها هناك، يتخلص من بعضها، أو بالعكس إذا كان البدن بحاجة إلى المزيد من كريات الدم البيضاء يبادر إلى إنتاج عدد كبير منها.

وحتّى إذا لم تكن القضيّة تتعلّق بتغير البيئة، وإنّما حتّى إذا فقد الإنسان كميّة كبيرة من دمه على أثر حادثة دهس أو كسر أو جرح، ويكون البدن حينها بحاجة إلى مقدار معين من الدم، يبادر الجسم كله إلى العمل من أجل إنتاج الدم.

والبدن عادة ما دامت فيه كمية كافية من الدم فهو في حالة استقرار وسكينة، ولكن ما أن يشعر بالحاج إلى الدم حتى يسارع للمشاركة في تأمين حاجته. إلا أن البدن لا ينتج اعتباطا، بل الشرط الأول لإنتاج الدم هو توفر الماء. فأنتم تلاحظون أن الشخص الذي يصاف بجرح ويفقد كمية من دمه يشعر بعطش شديد. لأنّ البدن في مثل هذه الحالة يكون بحاجة شديدة إلى الدم، والشرط الأول لإنتاج هو توفر الماء. فيحصل لديه هذا العطش لكي يشرب الماء ويسارع البدن بعدها الإنتاج الدم. وهذا ما لا يمكن العثور على تعليل له بين الأسس الطبيعية العمياء التي يقول بها داروين. وهناك الكثير من أشباه هذه القضايا.

سبق لي وأن نشرت في ما مضى مقالا في مجلة "مكتب تشيع" تحت عنوان:"التوحيد والتكامل" اثبتُّ فيه أنّ نظرية داروين إن أصابت وإن أخطأت لا ضرر لها على مبدأ التوحيد، بل أنها تنطوي على دعم وتأييد النظرة التوحيدية حيث تثبت وجود يد خفية تتولى تدبير وهداية الكائنات الحيّة من داخلها بما يدفعها إلى التكيّف مع متطلّبات ومستجدّات الحياة.

والآن ما هي العبرة التي نتّخذها في هذا المجال؟ هل هي مجرد معلومات عن علم الأحياء وأن الكائنات الحية قد خلقت جميعها من الماء؟ صحيح هذا علم. وأن الله تعالى قد خلق كائنات مختلفة - مع أنّه أصلها جميعا من الماء - ربّما بالصورة التي عرضها داروين في نظريته" تطور الأنواع"، أو وربّما بشكل آخر. ولكن على كلّ الأحوال ظهرت أنواع كثيرة يستعصي على الإنسان الواحد معرفتها كلّها. بمعنى لو أننا أردنا التعرف على أنواع تلك الحيوانات لا ستلزم ذلك منا سنوات طويلة، وربّما نجد أنفسنا في ختام المطاف عاجزين عن هذا العمل. أضف إلى أنّ المتخصّص إذا عرف أنواع الحيوانات الصحراوية، فهو غير قادر على معرفة الأنواع البحرية منها.

إذن ما هو الهدف الذي يبتغيه القرآن؟ هدف القرآن هو كلمة"الله". القرآن يريد لنا أن نلتفت دائما إلى هذه النقطة وهي كيف أن شؤون الخلقة في هذا العالم تعكس لنا وجود ذلك النور، وأن جميع هذه الحركات والسكنات لا تجري بشكل أعمى، بل أن نورا إلهيا موجود في جميع ذرات الكون، وأن كل هذه المظاهر تعكس مشيئة الله وتقديره وحكمته. ولهذا السبب أشار بعد ذكره الزواحف والدواب إلى أن الخلق ليس منحصر بهذه الأنواع التي ذكرناها هنا على سبيل المثال لاغير، وذلك قوله عز من قائل: ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾. بمعنى أن هذا كلّه من خلق الله وجاء وفقا لمشيئته: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وقدرة الله لا حدّ لها، يخلق ما يشاء وكيف يشاء. وهو قدير وعليم وحكيم ومريد. ولا يخلق شيئا كيفما اتّفق وبلا حكمة. فمع أنّ قدرته مطلقة ومشيئته لا راد ولا حدَّ لها إلا أنّه يخلق كلّ شيء على أساس الحكمة.

كان هذا الفصل من بداية سورة النور إلى هنا مختصا بموضوع التوحيد، يريد القرآن أن يثبت من خلاله أنّ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ كما أنه قال بعد إتمام هذا الموضوع، وكأنه يريد الإشارة إلى الانتقال إلى موضوع آخر مستقل من جهة ومرتبط بهذا الموضوع من جهة أخرى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ وقال المفسرون أن الآيات المقصودة هنا هي آية النور فما تلاها. والحقيقة أنه يريد أن يقول إلى أننا نلفت انتباهكم مرة أخرى إلى ما سبق قوله: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾.

مهمة القرآن التوعية والهداية: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هذه هي آيات التوعية والهداية. ولكن ما الذي تريد الآية تسليط الضوء عليه؟ أنه الطريق. فالإنسان مخلوق سائر ومتحرك، وهو سائر على طريق وينبغي له الله يهدي من يشاء، وهذا معناه انه لا هداية بلا مشيئته كما أوضح في مواضع أخرى تسير وفق نظام معين قد يشمل أشخاصا دون غيرهم. وهناك آيات أخرى أوضحت حقيقة هذا الموضوع.

جاء في إحدى الآيات الشريفة في بداية سورة البقرة قوله عز وجل: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ ولكن كيف يهدي الله بالقرآن جماعة ويضل آخرين؟ أليس القرآن وكتاب هداية، وليس كتاب ضلالة؟! يقول في ذلك: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة/26) أي الذين مسخوا وأفسدوا فطرتهم النزيهة. والقرآن حبل الله الذي أنزله لينتشل الإنسان من مهاوي ظلمة الطبيعة. ولكن من الذي يجوّز له التمسك بهذا الحبل؟ هو الإنسان. ولكن الذي لا يتمسّك به فالذنب ذنبه. ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة/26). وقد تكرّر هذا المعنى في آيات قرآنية كثيرة، وأن للضلالة والهداية نظاما خاصا، وأن الضلالة عقوبة إلهية.

وخلاصة الموضوع هي أنّ النور الإلهي قد أضاء تلك الدار في أقصى درجات الإضاءة وهو المثل الذي ضربه بالمشكاة والمصباح لأنّه كان أقوى وسيلة للإضاءة، وأن النور الإلهي قد غمر الكون بأقصى درجة من النور. وهذا الموضوع صحيح جدا. أمّا إذا أردنا تطبيق هذا المثل على الإنسان، فالقول صحيح أيضا وهو ما قاله ابن سينا، وهو طبعا من الوجهة الإيمانية أكثر صحّة، كما جاء في الروايات. فضلا عن أنّ الرواية لا تقارن مع كلام ابن سينا، فهي تنسجم تماما مع الآيات اللاحقة لها، لأنّها - أي الآيات اللاحقة- تضرب مثلا بقلب الكافر الذي يكون مظلما. ولو كان المثل للمؤمن فمعنى ذل أنّ قلب المؤمن مضيء كالدار التي فهيا مثل هذا المصباح، على العكس من قلب الكافر الذي تخيّم عليه الظلمة.

وإذا كان المثل لعموم المجتمع الإنساني، والنور الذي أضاء للمجتمع البشري، وهو النور المقدّس لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) نلاحظ هنا أيضا أن المثل كامل وجامع. وسأتناول في المجلس القادم تتمة الآية(لا يعلم هل عقدت المجالس اللاحقة أم لا وعلى كل حال لم تقع بأيدينا مواضيع أخرى من الأستاذ الشهيد عن تفسير سورة النور) وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

أسألك اللّهمّ باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجل الأكرم يا الله، اللهم أنر قلوبنا بالنور الذي جعلته في القرآن لأهل الإيمان، اللهم واجعل نيّاتنا خالصة لوجهك، ونجّنا من الظلمات، واغمر أمواتنا برحمتك.