التفسير والتأويل على المسالك المختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) هذا مثل قوم ابتلوا ببرق، فلم يغضوا عنه أبصارهم، ولم يستروا منه وجوههم، لتسلم عيونهم من تلألئه، ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلصوا فيه بضوء البرق، ولكنهم نظروا إلى نفس البرق، فكاد يخطف أبصارهم، فكذلك هم المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالة على نبوتك الموضحة عن صدقك في نصب أخيك علي (عليه السلام) إماما، ويكاد ما يشاهدون منك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أخيك علي (عليه السلام) من المعجزات الدالات على أن أمرك أمره، وهو الحق الذي لا ريب فيه. (كلما أضاء لهم مشوا فيه) إذا ظهر ما قد اعتقدوا أنه الحجة مشوا فيه، ثبتوا عليه، وهؤلاء كانوا إذا نتجت خيولهم الإناث ونساؤهم الذكور قالوا: يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، إنه مبخوت مدال وصاحب بخت وحفي. (وإذا أظلم عليهم قاموا)، أي إذ أنتجت خيولهم الذكور ونساؤهم الإناث، ولم يربحوا في تجاراتهم، وقفوا وقالوا: هذه بشؤم هذه البيعة التي بايعناها عليا، والتصديق الذي صدقناه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم). (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك المؤمنون، وتوجب قتلهم، (إن الله على كل شئ قدير) ولا يعجزه شئ (1). وعن الصادق (عليه السلام) في توحيد الصدوق عليه الرحمة، قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): " هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة، من غير أن تصغر الدنيا، أو تكبر البيضة؟قال: إن الله عز وجل لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون " (2)، ولا يخفى متانة الجواب البرهاني. ومن الأجوبة على المغالطة التي هي من الصناعات الخمس، قول الرضا (عليه السلام) على ما في خبر محمد بن أبي نصر، فقال (عليه السلام): " وفي أصغر من البيضة، وقد جعلها في عينك، وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها " (3). وذيل الخبر يشهد على أن الجواب إسكاتي.

وعن أرباب الحديث: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. قاله ابن عباس (4). وقال ابن إسحاق عن ابن عباس: أي لشدة ضوء الحق. (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا)، أي كلما ظهر لهم من الإيمان شئ استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فتظلم قلوبهم ويقفون حائرين (5). وعن ابن عباس ثالثا: أي يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة، قالوا: ليرجعوا إلى الكفر (6). وعنه رابعا: أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين. وبه قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة وابن أنس والسدي بسنده عن الصحابة (7). وفي رواية خامسة عنه وعن جمع من الصحابة: (أو كصيب من السماء...) إلى قوله: (إن الله على كل شئ قدير) أما الصيب والمطر كانا رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشوا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصروا قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله تعالى شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم، فرقا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل فيهم شئ أو يذكروا بشئ فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما. وإذا (أضاء لهم مشوا فيه) فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحا (مشوا فيه) وقالوا: إن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دين صدق، فاستقاموا عليه، فكانوا إذا هلكت أموالهم وولد لهم الجواري وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فارتدوا كفارا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهم (8).

وعلى مسلك المفسرين وأرباب الرأي والنظر: (يكاد البرق)، أي البرق الذي يجعلون أصابعهم خوفا منه في آذانهم (يخطف أبصارهم) زائدا على هلاكهم من ناحية آذانهم. وبعبارة أخرى: هم يفرون من إصابة البرق من ناحية آذانهم بجعل أصابعهم فيها، وفي عرض هذه الإصابة يخطف البرق أبصارهم، ولا يتمكنون - حينئذ - من جعل الأصابع عليها، فيكون عذاب الله محيطا بهم ومستوليا عليهم. (كلما أضاء لهم)، أي أضاء البرق ممشاهم وطريقهم والجادة والشارع لهم (مشوا فيه) وتحركوا وفروا (وإذا أظلم) البرق (عليهم) ممشاهم وممرهم (قاموا) وسكنوا وتوقفوا (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم)، أي ولو شاء الله هلاكهم لصنع بهم ذلك، أو ولو شاء الله في حقهم شيئا لكان هو إهلاكهم بإذهاب سمعهم وأبصارهم. (إن الله على كل شئ قدير) ومقتدر، ولا يعجز أن يذهب بسمعهم ولو جعلوا أصابعهم فيها، وبأبصارهم ولو توسلوا لمحافظتها بأمر وبحافظ، فإن جميع الأشياء خواصها تحت إرادته تعالى. وقريب منه: (يكاد البرق) السماوي (يخطف أبصارهم) الجسمانية والبرق الباطني الحاصل من رعد الصفات المذمومة والحسد والأحقاد أبصارهم الباطنية وبصائرهم المودوعة في أنفسهم حسب أصل الخلقة (كلما أضاء لهم مشوا فيه)، أي ضاء لهم البرق مشوا في البرق، باعتبار أن البرق مستول على ممشاهم وطريقهم. (وإذا أظلم) وإظلام البرق بالانتفاء والانعدام (عليهم)، فصاروا في ظلمة السبيل والطريق (قاموا) من الانحراف وحالة الهوي التي كانوا يمشون عليها وكأنهم كانوا يمشون في البرق راكعين، كما هو المتعارف في حال الخوف، لعدم تمكنهم من الرؤية الصحيحة، ولأجل رفع الموانع عن الطريق، فقاموا وسكنوا عند استيلاء الظلمة عليهم. (ولو شاء الله) شيئا في حقهم وإذهاب أبصارهم وأسماعهم وإهلاكهم من النواحي المختلفة، (لذهب بسمعهم وأبصارهم). وقيل: وعيد بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم، حتى لا يتوصلوا بهما إلى ما لهم كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم (9). وقريب منه: لأظهر عليهم نفاقهم، فذهب منهم عز الإسلام. وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفي ضوء البرق فأعماهم. وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليه. (إن الله على كل شئ قدير)، فلا يخص بقول وتفسير خاص، بل جميع هذه المعاني قابلة لأن تكون مقصودة، فإن الله تعالى على كل شئ قدير، فهو المقتدر على إرادة الكل. وقريب منه: (يكاد البرق) وما في الكتاب الإلهي والقرآن العظيم من الحجج القامعة والنواميس القاطعة (يخطف أبصارهم) وقلوبهم المتشتتة، ويسرق ما في باطنهم بحدوث التحير والتزلزل في ذاتهم (كلما أضاء لهم) وتلألأ الإسلام في الخير والغنائم والأمور المطلوبة الدنيوية (مشوا فيه) وأسرعوا نحوها لجلب منافعهم ونيل آمالهم (وإذا أظلم عليهم) واشتد الأمر على المسلمين، وتحملوا من المشقات الخارقة للعادات (قاموا) ورجعوا وتحيروا زائدا على التحير الأول، وأخذوا بأصابعهم وعضوها بأضراسهم الخسيسة الخبيثة. وقيل: إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا، وأما بعد ما ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب. وقيل: هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا: هذا الذي بشر به موسى، فلما نكبوا بأحد وقفوا وشكوا (10). (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) حتى لا يتوجهوا إلى مناصبهم الاجتماعية والشخصية والدنيوية والأخروية، أي لذهب بكل خاصة لهم من الخواص الإنسانية والحيوانية، حتى يصبحوا أضل من الحيوان، كما هم كانوا كذلك بحسب الذات والطينة، و (إن الله على كل شئ قدير)، ولا يعجزه شئ، ولامانع من بسط قدرته إلى جميع أماكن حكومته، من الجواهر والأعراض والحركات والسكنات. وقريب منه: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) ولكن يمتنع أن يشاء، لأنه خروج عن النظام العام، وهي العلية والمعلولية، وهذا الامتناع لا ينافي قدرته تعالى: (إن الله على كل شئ قدير). وقريب منه: أن أبصار المنافقين تكون عاجزة عن إدراك الآيات المنيرة، فإذا تلألأت أطرافهم من البرق البعيد عنهم يمشون يسيرا، وهؤلاء المنافقون لشدة الخوف واليأس عن البلوغ إلى آمالهم، لا يقدرون على الحركة في أمر حياتهم والتوثب في معيشتهم، وكأنهم واقفون وينظرون إلى ما يحدث لهم من الحوادث الأرضية والسماوية، وإلى بختهم ونصيبهم وحظهم، ويرون ما يحصل لهم من اقتران الكواكب ومقارنات السيارات وآثارها الحاصلة منها. ومن العجيب أنهم لشدة تحيرهم وانغمارهم في الضلالة، يأملون الحياة والمعيشة مع ما يخافون منه ويحذرون، وكأنهم على الدوام يتدبرون في هذه الأمور، وأبصارهم متوجهة ومحدقة إلى الأطراف مع غفلتهم عما فيهم من الذخائر المودوعة والقوى المعنوية، فإذا (أضاء لهم مشوا فيه) شيئا على خلاف طبعهم، (وإذا أظلم عليهم) يتوقفون حسب طينتهم وسجيتهم. (ولو شاء الله) فلا يكتفي بفناء نور قلوبهم، وبإهلاك مقتضيات فطرتهم، وإعدام أملهم فقط، بل الله يقدر على أن يذهب بنور أبصارهم وأسماعهم، حتى لا يتمكنوا من أن ينتفعوا منها في الظاهر من الحركات والسكنات، وكأنهم صاروا حيوانات من قبل سوء سريرتهم وخبث فعالهم، لما لا يدركون بالبصر ما يدركه الإنسان، ولا يستخبرون بالسمع ما يسمع به البشر، فهم قد أخمدوا في وجودهم نار المخابرات ونور الاستعلامات، ولو شاء الله تعالى لصنع بهم ما ينبغي لهم بعد ذلك بما قد ظلموا أنفسهم، والله لا يظلم أحدا، فهم قد تجاوزوا عن حد الاعتدال بسوء الاختيار، فصح لهم وحقيق بهم أن يصيروا بعد ذلك صما وعميانا، بل ويخرجوا عن حد الحيوانية إلى حد الجماد والنبات، فإن خمود نيران البصر والسمع يستتبع خمود سائر القوى الإنسانية والحيوانية، والله تعالى (على كل شئ قدير)، إلا أنه تعالى ليس ظلاما للعبيد، وأنه تعالى بمجرد الاقتدار على شئ لا يصنعه، لأنه ربما يكون ظلما، فإذهاب سمعهم وإبصارهم حسب استحقاقهم، ولكنه تعالى لكمال رحمته ورأفته في حقهم، أبقاهم على حالهم لعلهم يهتدون.

وعلى مسلك الحكيم الخبير والعارف البصير: (يكاد البرق) السماوي الظاهري (يخطف أبصارهم) الموجودة في وجوههم. و (يكاد البرق) الاجتماعي والإسلامي (يخطف أبصارهم) الاجتماعية والمدنية. و (يكاد البرق) الغيبي الإلهي الأزلي (يخطف أبصارهم) وقلوبهم وفطرتهم، ولكن الرحمة الإلهية الأبدية والأزلية سبقت غضبه، ولا يصنع بهم في هذه النشأة ما يعجزهم عن الهداية والاهتداء إلى الطريق المستقيم والإسلام العزيز. (كلما أضاء لهم) البرق في تلك الجهات الثلاث (مشوا فيه) غافلين عما بصددهم من العذاب والعقاب في النشآت الثلاث: الدنيا والبرزخ والقيامة (وإذا أظلم عليهم قاموا) جاهلين بأن القيام والوقوف أضر بهم، فهم في حيرة عجيبة واضطراب شديد (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم)، إلا أن العناية الإلهية والرحمة الربانية تمنع عن إعماء قلوبهم القاسية، وأن تصم آذانهم الوقرة، رأفة بالعباد ورفقا بالناس حتى الكفار، وشرهم المنافقون الأخباث. (إن الله على كل شئ قدير) سواء كان ممتنعا أو ممكنا، لأن الممتنع بالغير لا ينافي الاختيار والاقتدار. وقريب منه: (إن الله على كل شئ قدير) بالقدرة الأعلى من قدرة سائر المقتدرين بالقياس إلى فعالهم وأعمالهم، فإنهم القادرون عليها، وهو تعالى قدير وأشد قدرة وأكثر سلطنة عليها، رغم أنف من يعجزه عن نفوذ قدرته في طائفة من الأشياء. وقريب منه: (كلما أضاء لهم) فوجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا (مشوا فيه وإذا) حبس عليهم طريق الكرامات و (أظلم عليهم) سبيل المعجزات تركوا الطاعات. وعن بعضهم: (كلما أضاء لهم) مرادهم من الدنيا في الدين (مشوا فيه) وأكثروا من تحصيله (وإذا أظلم عليهم قاموا) متحيرين (ولو شاء الله لذهب) وقد ذهب (بسمعهم وأبصارهم)، فإن العالم على الدوام في تحرك نحو الزوال والفناء (إن الله على كل شئ قدير) بأنحاء القدرة بإفنائهم دفعة وتدريجا، وإهلاكهم في الروح والبدن، وإسقاطهم بين أنفسهم وبين المؤمنين.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 133 - 134.

2- راجع التوحيد: 130 / 9.

3- راجع التوحيد: 130 / 11.

4- تفسير الطبري 1: 154.

5- تفسير ابن كثير 1: 96.

6- راجع تفسير ابن كثير 1: 96.

7- راجع نفس المصادر.

8- راجع تفسير الطبري 1: 154.

9- راجع حول الأقوال الآتية البحر المحيط 1: 92.

10- الجامع لأحكام القرآن 1: 224.