الأخلاق والموعظة والإرشاد

اعلم يا رفيقي وعزيزي، وعليك بالتأمل يا شقيقي وقرة عيني: أن النفاق - كما أشير إليه في ذيل بعض الآيات السابقة - والكفر، كالإيمان ذو مراتب مختلفة ومراحل شتى، فكما أن من الكفر والنفاق ما يجتمع مع بعض الأنوار وقسم من الهدايات والتوجهات، كذلك الإيمان يجتمع ويعانق النفاق والكفر بل والإلحاد، فإن من المؤمنين بحسب ظواهر الإسلام والمسلمين - حسب تخيلاتهم ومعتقداتهم - من يكون مندرجا في سلك الكفار والمنافقين، لأجل ما فيهم من خصيصة وأثارة، وأي نفاق أعظم من المؤمن الذي يكون إيمانه مستودعا عنده ؟! فإن المنافق حسب رأي جمع من الفقهاء مسلم، لما يقر بالشهادتين، ولكن لمكان عدم دخول الإسلام في قلبه ونفسه وعدم تدينه به حسب رأيه واعتقاده، يعد عندنا من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل. والمؤمن المسلم الذي يعتقد بالإسلام ويدافع عنه، ولكنه لما يدخل الإيمان في قلبه يكون من المنافقين ومن الأسفلين أعمالا. وإنما الفرق بينهما: هو أن المنافق والفرقة الأولى لمكان ما لا يجد في نفسه شيئا من الإيمان ربما يتبصر، ويدخل في سلك المؤمنين الذين قال الله تعالى في حقهم: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) (1). وأما المؤمن المنافق المستودع إيمانه، فلأجل تخيل نجاته، ولما يجد في نفسه الغرور والاغترار بالنجاة والصلاح، يكون في معرض الأخطار المحيطة ومحط المهالك المفنية حتى يموت ويزول إيمانه، فيكون منسلكا في صدر الآية إذا حضره الموت. فيا أخي وصديقي: لا تكون هذه الآيات إلا لتوجيه الأمة الإسلامية وغيرهم إلى الأخطار والعقبات، وليست هذه الأنوار القدسية والأسرجة الإلهية، إلا لسوق عائلة البشر نحو السعادة الدائمية الأبدية، سعادة لا شقاوة بعدها، وهداية لا ضلالة من ورائها، وهي لا تحصل بمجرد المقاولات اليومية والأقاويل الليلية والترنمات الآنية، بل لابد من القيام وشد الإزار وعقد المنطق، حتى يتجاوز المهالك والعواقب والعقبات الشديدة والدرجات الكئوبة. وهذا مما لا يحصل إلا بتخليص العمل والقول وبتركيز الهمة في الطاعة والبعد عن المعصية، وأن يدعو الله تعالى في جميع حالاته العلانية والسرية وفي جميع الآنات الليلية والنهارية، لينجيه من الضلالة، فيكون تارك المشتبهات من المحرمات وآتيا بالمندوبات وموارد الاحتياط حتى يحصل له التوفيق للوصول إلى العزيز الرحيم، ويتمكن من النزول إلى فناء الله الكريم. وليست هذه الخصائص المذكورة في هذه الآيات الكثيرة، ولا الأمثلة المعلنة لأحوال المنافقين، إلا لتوجيه علماء الدين الذين هم ظواهرهم تكذب بواطنهم، والذين هم بحسب الصورة والزي وبحسب القول والمشي، يكونون في زمرة المسلمين والمؤمنين، وأما بحسب الباطن والحقيقة وبحساب السريرة والسجية، يعدون من المنافقين. فيا عجبا من يوم يحشر الناس على صفوفهم وعلى أصنافهم، وهذه الجماعة من علماء الدين الإسلامي وفضلاء المذهب الجعفري يحشرون في صف المنافقين، وفي زمرة المفسدين الفاسقين، لكونهم من أهل النفاق، فإن حقيقة النفاق أظهر تجليا فيهم وأبين ظهورا في وجوههم. والله يعصمنا من النار، ويعصمنا من هذه الملاحدة والفسقة، ويعصم دينه وإسلامه من هذه الزمرة الفجرة الكهنة. ونرجوه تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى النجاة في جميع النشآت، وأن يهدينا إلى سبيل الهداية والسعادة، ويوفقنا لنيل الآمال والأماني العقلية والشرعية، برفض السيئات من الأفعال والشرور من الأفكار، وبجلب الحسنات من الأعمال والخيرات من الآراء، وأن يقوينا على طاعته بالوصول إلى خدمة الأولياء والأبرياء، فإن قرة عين العبد هي الصلاة وخدمة هؤلاء الخواص من الناس حتى يصير منهم ويلتحق بهم، فإن المرء محشور مع من أحبه، وذلك لأجل أنه يصير العاشق عين وجود المعشوق، والمحب عين حقيقة المحبوب، فعليك بمواصلة الاستغفار في الأسحار، وبمرافقة الأخيار والأبرار، فإنه أحسن أنعم الله على عبده، وله الشكر على ما أعطانا.


1- النساء (4): 145 - 146.