البحوث الفلسفية والمسائل الحكمية

البحث الأول: حول مفهوم الشئ من المسائل الخلافية بين المتكلمين وبعض الشاذين منهم: أن مفهوم الشئ هل يخص بالموجود أم هو أعم منه ومن المعدوم؟(1) ومما يستدل به على الأعمية قوله تعالى: (إن الله على كل شئ قدير)، فإن الماهية في ظرف وجودها، خرجت من العدم بالقدرة إلى الوجود، فهي في حال عدمها تحتاج إلى الصورة، فتكون هي شيئا يمكن أن يتعلق بها القدرة، فالشئ أعم، كما قال سيبويه: إنه أول الأسماء وأعمها وأبهمها (2). انتهى. أقول: لست أدري أن جمعا من العقلاء والمتكلمين اعتقدوا أن المعدوم بالحمل الشائع - أي ما ليس في الخارج - يصدق عليه الشئ، وهذا بعيد عن الجاهلين، فضلا عن المنتسبين إلى الفضل والتحقيق. ولو اعتقدوا أن الأشياء والأعيان والماهيات في ظرف تقررها الماهوي، يصدق عليها شئ بما هو هو، فيكون مفهوم الشئ من أجزاء ذاتها، فهذا أيضا بعيد عن ساحتهم وإن كان جمع منهم يتوهمون أن الشئ جنس الأجناس، وقد تحرر في محله: أن الأجناس العاليات مختلفات الذوات. ولو أريد من صدق الشئ على المعدوم، أي أنه يصدق على المعدوم في الخارج الموجود في الذهن، ويصدق على المعدوم في أفق الأعيان الخارجية، الموجود بنور العلم وفيضه الأقدس، فهو حق صرف لا غبار فيه، فالعنقاء ليس بشئ في الخارج، وشئ في ظرف تقررها الماهوي، لا على وجه الذاتية، بل على وجه الانتزاع منها بلحاظ موجوديتها الذهنية والعلمية. فعلى هذا يرتفع الخلاف بين هؤلاء العقلاء وتصير النتيجة: أن الشئ - بحسب المفهوم - غير مفهوم الوجود والوحدة، إلا أن الكل متساوقات، فلا يكون مورد يصدق الموجود إلا ويصدق الشئ وبالعكس. ولأجل ما تحرر يصدق الشئ على الممتنعات أيضا، وذلك لأنها وإن ليست في الخارج بالضرورة، ولكنها متصورات ذهنية، وموجودات بالحمل الشائع في النفس، وأشياء ذهنية نالها الفيض الأقدس، دون المقدس. فما في كلمات جمع منهم: من توهم اختصاص الصدق بالواجب والممكن أيضا غلط، وسيظهر زيادة توضيح حول هذه المسألة في سائر البحوث إن شاء الله تعالى.

البحث الثاني: حول عموم قدرته بناء على ما تحرر يلزم أن يكون الله تعالى مقدور نفسه، والممتنعات أيضا مقدور الله تعالى، والكل يستحيل بالضرورة، فالآية تدل على مسألة أخرى خلافية: وهي أن إطلاق الشئ عليه تعالى غير جائز، خلافا لجمع، وهو الأكثر، وقد استدل بها جهم على مدعاه وببعض الآيات الأخر التي تأتي في محالها (3). ونتيجة الاختلاف المشاهد عنهم أمر عجيب وهو: أن منهم من يقول: بأن الشئ لا يطلق على المعدوم، ومنهم من يقول: هو لا يطلق على الواجب والممتنع، فيكون على هذا منحصر الصدق بالممكن الموجود، والممكن الموجود لا يتعلق به القدرة، فقوله تعالى: (إن الله على كل شئ قدير) لا مصداق له لما أن ما يتعلق به القدرة ليس بشئ وما يصدق عليه الشئ لا يتعلق به القدرة. أقول: أولا: على تقدير صحة المباني المشار إليها يمكن أن نقول: بأن الممكن الموجود مقدور الله تعالى بالفعل، ضرورة أن وجود الممكن، عين قدرته الفعلية وإرادته الفعلية ومشيته الفعلية وعلمه الفعلي، فإن الموجود المنضم إليه الممكن مخلوقه تعالى، وربط محض به حدوثا وبقاء ومتدل إليه، فكيف لا يكون هو مقدور غيره أو خارجا عن سلطانه الذاتي وإرادته الذاتية وقدرته القديمة الأزلية ؟! وثانيا: إن المباني المذكورة قابلة للإصلاح على الوجه الذي تحرر، ولا أظن أنه يختلف فيه بعد ذلك اثنان، والتفصيل يطلب من مظانه.

البحث الثالث: عموم قدرته على الأفعال تدل هذه الآية على عموم قدرته ونفوذ سطوته وسلطنته في جميع الأشياء، سواء فيها الجواهر والأحداث، فجميع الأفعال الإنسانية محط قدرته، ومهبط نفوذ إرادته تعالى، خلافا لجمع المعتزلة والمفوضة، القائلين باستقلال العباد في أفعالهم، بل هم يقولون باستقلال العلل في تأثيراتها. ويمكن المناقشة في الاستدلال المزبور: بأن إثبات القدرة له تعالى بالنسبة إلى كافة الأفعال، لا ينافي استقلال العباد في صنعهم وأعمالهم، ضرورة أن الله تعالى يقدر على إيجاد المانع عن صنيعهم وفعلهم، ويقدر على أن يخلق أفعالهم بلا وساطتهم. وهذا غير ما عليه المحققون، وهو أن كل فعل من الأفعال الصادرة عن العباد مستندة إلى قدرة العبد وقدرته تعالى، ولا تدل الآية الشريفة على أن الله تعالى أعمل قدرته في كل فعل، فلا ينبغي الخلط كما خلطوا. نعم حكي عن أبي هاشم وأبي علي الجبائيين: أنهما أنكرا مقدورية فعل العبد لله تعالى (4)، ولا أظن أنهم يلتزمون بعجزه تعالى عن سد المانع عن تأثير قدرة العبد، وعلى هذا يكون فعله مقدورا لله تعالى بهذا المعنى. أقول: هذه المسألة تدور حول مسألة القدرة وحقيقتها، وأن قدرة الله تعالى كقدرة العبد منتظرة لحالتي الإرادة والدواعي الزائدة على الذات، أم هي طور آخر من القدرة، ونمط أعلى من السلطة. وحيث إن لهذه المسألة محلا آخر حسب ما هو بناؤنا في هذا الكتاب، فنشير إجمالا إلى أمر ينتهي إلى دلالة الآية - حسب ما هو الحق في القدرة - على أن كل شئ في العالم إذا تحلى بحلية الوجود وتجلى بجلوة النور والحقيقة، يكون ذلك بإقداره تعالى وقدرته الأزلية، ضرورة أن قدرته تعالى عين ذاته تعالى وعين علمه تعالى، ولا يكون هناك أمر زائد على ذاته الوحدانية البسيطة، فتكون قدرته وإرادة الله تعالى واحدة بوحدة الوجود الذي هو الأصل وأصل كل كمال وجمال، فهو تعالى مفيض الوجود، ومخرج الماهيات من " الليس " إلى " الأيس "، والوسائط إمكانات استعدادية وممرات الفيض الأزلي، فهو قادر على كل شئ بالقدرة الفعلية، لا بمعنى أنه تعالى يقبض قدرته تارة ويرسلها أخرى، كما في العباد، فإن أخذ القدرة وقبض الإرادة ثم بسطها يرجع إلى قبض إرادته وبسطها، وهو محال. نعم القبض والبسط في الوجود متصور، أي في فعله تعالى حاصل متحصل بالضرورة، فهو تعالى قادر ذاتا، وقدرته عمالة نافذة دائمية أزلا وأبدا على وجه تعلق علمه بتبعات أسمائه وصفاته. فالمحصول مما قدمنا: أن الآية لا تدل على شئ حسب الدلالات اللفظية. نعم على مبنى التحقيق يكون الآية شاهدة على أنه تعالى قادر بالقدرة المعمولة لا بالقدرة المخزونة فقط، كما هو تعالى عالم بالعلم المعمول، أي العلم الفعلي الخارجي، وهو صفحة العالم كله وبالعلم المخزون الذي هو ذاته. ومما ذكرنا يظهر ضعف ما في كتب القوم من الاستدلال بهذه الآية على أن المحدث شئ، والله قادر على كل شئ خلافا للمعتزلة، وذلك لما عرفت أن من يقول بذلك يفسر القدرة بما لا ينافي عموم قدرته وكون العبد مستقلا في إحداث الحدث، فلا تخلط.

البحث الرابع: القدرة على الشئ المحدث من المسائل الخلافية بين المعتزلة وغيرهم أن المحدث قبل حدوثه مقدور لا بعد حدوثه، والمحققون من الفلاسفة على أن الشئ مقدور الله قبل حدوثه وحال حدوثه، والآية حسب عمومها تدل على أن الشئ المحدث مقدور أيضا. وإذا كان هو تعالى قادرا على كل شئ فلابد من أن يكون كل شئ قابلا لتعلق القدرة به فنفي القابلية خلاف عمومها، ولهذا الكلام منهج علمي، وهو أن الشئ الموجود واجب بالوجوب الغيري، ومناط القدرة هو الإمكان والفقر، والوجوب ينافي القدرة، لأنه عين الاستغناء وضد الحاجة، وهذا نظير ما ترى في العرفيات فإن الفقير السائل يحتاج، فإذا أجيبت دعوته فهو الغني غير المحتاج، فجميع الموجودات بعد الوجود شئ، ولا تتحمل القدرة ولا تقبل السلطنة ثانيا. ولعل لأجل هذا المنهج من الكلام قال المعتزلي: إن القدرة بالقياس إلى الأعدام إخراج من كتم العدم، وبالقياس إلى الموجودات إفناء إلى دار العدم، وبالقياس إلى مقدورات غيره تعالى إيجاد المانع وسد عن قدرة غيره تعالى. والجواب: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار والاقتدار، فالممكن المحفوف بالوجوبين - الوجوب الجائي من قبل العلة، فإن الشئ ما لم يجب لم يوجد، والوجوب اللاحق به من ناحية الوجود، وإن الشئ إذا وجد وجب - هو تحت قدرة العلة والسبب التام وتحت استيلاء الوجوب الذاتي، لأنه بوجوده عين التدلي إلى علته، فكيف يكون غير مقدور، مع أن القدرة الفعلية التي هي تجلي القدرة الذاتية تلازم الماهية وتعانقها، لأن الوجود المعانق للماهيات الممكنة نفس قدرته تعالى التي بها ظهرت تلك الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية. فتحصل: أن قضية عموم الآية نفوذ قدرته تعالى، وتعلقها بالمقدورات الموجودة يكون تعلقا فعليا. ومن هنا يظهر فساد مقالة أخرى للمعتزلة: وهي أن مقدور العبد ليس مقدوره تعالى، معللين بلزوم اجتماع القدرتين على واحد، فإن ذلك بالنظر إلى مبناهم الفاسد، وهو أن القدرة تلازم الفعل، فتدبر.

البحث الخامس: دلالة الآية على عموم العلم هذه الآية حسب لازمها تدل على عموم علمه تعالى، ضرورة أن عموم القدرة لا يمكن إلا بعموم العلم، فبناء على الملازمة لابد من عموم علمه، خلافا لجمع حيث أنكروا، بل لازم ذلك سبق علمه تعالى على ما يوجد في ما لا يزال. نعم لا تدل على أن علمه بهذه المقدورات الجزئية، يكون على وجه الجزئي، أو يكون على وجه الكلي، وسيمر عليك تحقيقه في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.


1- راجع كشف المراد: 32، وشرح المقاصد 1: 351 - 366، وشرح المواقف 2: 211 - 214.

2- انظر مجمع البيان 1: 58، وراجع تاج العروس 1: 83.

3- التفسير الكبير 2: 81.

4- التفسير الكبير 2: 81، وراجع كشف المراد: 283، وشرح المواقف 8: 64.