وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول: حول أن الآية تتمة للمثال أن التمثيل الأول كان له ذنب، وهو قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) وهذا التمثيل الثاني أيضا له ذنب، وهو قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)، وكما كان من المحتمل استقلال الآية المشار إليها في نفسها، يحتمل هنا استقلال هذه الآية، من غير كونها تتمة المثال الثاني، فيكون هو الثالث من الأمثلة أم الرابع منها، وعلى كل تقدير غير خفي تناسب التمثيلين من هذه الجهة، ومن اللطيف عدم تصدر الآية المومى إليها بحرف العطف وأشباهه، وهكذا هذه الآية.
الوجه الثاني: لزوم ذكر هذه الآية لو لم تذكر هذه الآية كانت الآية السابقة ناقصة من ناحيتين: الأولى من ناحية ابتلائهم بالظلمات. الثانية من ناحية ابتلائهم بالبرق. فإن الآية السابقة تعرضت لجهة ابتلائهم بالرعد، فقالت: (يجعلون أصابعهم في آذانهم)، فإنه يناسب الرعد والأصوات المزعجة، ولأجل ذلك أتت الآية اللاحقة لبيان حال ابتلائهم بالظلمات والبرق، على سبيل اللف والنشر غير المرتب، فأوضح حالهم عند إصابتهم بالبرق في ابتدائها، وبقوله: (وإذا أظلم عليهم) أوضح ابتلاءهم بالظلمة.
الوجه الثالث: مضمون الآية تعقيب للسابقة في أن هذه الآية تعقيب لبيان المقصود في الآية الأولى، وهو تشديد تحير المنافقين حال نفاقهم، كما يشتد تحير المصابين بالصيب المشتمل على البرق، فإنهم لأجل وقوعهم في الظلمات، ابتلوا ببلية عجيبة وعظيمة من الحركة والسكون، وبالنتيجة أحسوا الخطرات المختلفة ومخرقات شتى من الضواحي الكثيرة. أم تكون هذه الآية أيضا تمثيلا ثالثا جئ به لفضح أحوالهم الخبيثة ومقاصدهم السيئة. خلاف. والمخالفون توهموا أن التشبيه الاستعاري هنا من المفرق، فشبه الإسلام بالبرق والأبصار هي الطرق التي يتوصل المنافقون بها إلى تنفيذ أفكارهم، والمراد من الإضاءة حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، ومشيهم فيه اهتداؤهم أو إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه. وقيل غير ذلك من الأقوال المختلفة المحكية عن قدماء المفسرين. والذي يظهر للمحقق: أن هذه الآية تتمة لتوضيح مكايد المنافقين، على طريق التمثيل المشترك بين التشبيه المفرق والمركب، مع كون كل واحدة من هذه الجمل أيضا مستقلة في كونها من المركب المستقل المخصوص بها فلا تخلط. وذلك لأن المنافقين ذوو أفكار وأفعال، ذوو أفكار من جهة انحرافهم عن الطينة الأولية المخمورة، وذوو أفعال لأجل ابتلائهم بالمسلمين ووقوعهم فيما لابد منه، وهو الفرار عن تبعات الإسلام محافظة على حضارتهم التخيلية، وهذه الآية في موقف توجيه الأمرين. قوله: (يكاد البرق) بحسب الاستعمال معلوم، فإن لفظة البرق إلى آخر الألفاظ المستعملة في الآية مفردة، وإلى آخر هذه الآية بحسب الإسناد على وجه المجاز في المفرد والإسناد كلا على الوجه المحرر عندنا في حقيقة المجاز (1). وأما المراد الجدي - حسب ما يظهر - فهو أن برق الطينة والفكر الصحيح إذا لمع وظهر في باطنهم، يكاد يخطف أبصارهم المحدقة على المسلمين، ويذهب بأبصارهم الحاصلة لهم في تأييد أنفسهم وأصدقائهم كلما أضاء البرق، وتلك الفكرة والخطور الفطري الباطني العقلاني تميل بهم إلى الإسلام ومشوا فيه، لأنهم بذلك يخرجون من الظلمات المحيطة بهم. (وإذا أظلم عليهم) - بالعرض وبالنظر إلى ما حصل لهم بالفعل من الأفكار الموجودة الباطلة المملوة بها خزانة أنفسهم وخيالهم، فينمحي نور الفطرة وضياء الحق - (قاموا). هذا حال التمثيل بحسب أشخاص المنافقين بالنسبة إلى أفكارهم الخاصة بهم. وأما حال التمثيل بالنسبة إلى حالهم في المجتمع وأفعالهم في مجتمع المسلمين، فهو أن البرق وتقدم الإسلام بين الحجازيين، يكاد يخطف أبصارهم، ويسيطر على المنافقين، حتى عموا وصموا من شدة البغض والغضب والهدة والانزعاج (كلما أضاء لهم)، وطلع على وجه كانوا يتمكنون من الوصول إلى مقاصدهم وإدامة مرامهم (مشوا فيه) واستفادوا منه (وإذا أظلم عليهم) واخذوا من الجوانب المختلفة (قاموا) لدفع ما توجه إليهم من الأخطار والمهالك. فتحصل: أن هذا المثال يعلن ويظهر حقيقة المنافقين في الحال الانفرادي والاجتماعي بأحسن أسلوب وأعلى طريقة وأقصر الكلام وأوجز الحال.
الوجه الرابع: حول تحديد المنافقين من وجوه البلاغة: أن الآية الشريفة في مقام تحديد المنافق، وأنه بحسب ماهيته الاجتماعية أمره يدور بين الحركة والسكون، وهذا لأجل كونهم كالحيوان، لا يتدبرون في عواقب الأمر وغايات الأفعال والأعمال، بل مدار عملهم وأفعالهم على أن يكون طريق مشيهم مضاء ومظلما، فإن كان مضاء يتحركون ويتقدمون، وإلا يقوموا ولا شأن لهم وراء ذلك، كما هو دأب الحيوان الذي هو الحساس المتحرك. ومن هنا يظهر وجه بلاغة آخر: وهو أن تمام طبيعة المنافقين هو انتظار المنافع المادية، فإذا أضاء لهم يعقبون في مرامهم وفي ما أظلم عليهم، فلا يتدبرون في شئ من الأشياء، بل يكونون واقفين وقائمين. وأيضا يظهر من كلمة " كلما "، ومن إفادة المطلب بشكل القضية الشرطية، ومن كلمة " إذا " التوقيتية المفيدة لوقوع الفعل في الاستقبال، أنهم في جميع الأحيان والأزمان، وفي تمام أوقات التدين بالنفاق والتشرع بشريعة الحيوان، يكونون هكذا، وعلى هذا يتبين أن ذاتهم لا تقتضي أزيد من ذلك، وسجيتهم صارت رديئة حيوانية أو أضل منها.
الوجه الخامس: صحة قراءة " أضاء " قوله تعالى: (أضاء لهم) لابد وأن يكون متعديا، لأن البرق فاعله، وهو الضياء بالذات، فمن قرأ: " ضاء لهم " (2) غير صحيح، ومن العجيب ما في بعض التفاسير هنا من اختيار كونه لازما مؤيدا بالقراءة المزبورة (3). وبالجملة: أضاء البرق، أي أعطى البرق ضياءه، فاستضاء طريق المشي والممشى.
الوجه السادس: إسناد الإظلام إلى البرق قوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم) مشتمل على لطف بديع، وهو إسناد الإظلام إلى البرق حسب الظاهر، خلافا لما هو المعروف بينهم، وذلك لأن البرق ربما يضئ، وربما ينتفي وجوده، فيكون الظلمة كأنها مستندة إلى البرق وعدمه، فالبرق - بما هو هو - لا موجود ولا معدوم، وإذا وجد أضاء، وإذا انعدم أظلم بعدمه، فيصح الإسناد في غاية اللطف والبلاغة. وقد مر إمكان تعدية " أظلم " بالحرف.
الوجه السابع: صنعة الطباق في الآية من المحسنات البديعية صنعة الطباق الموجود بين الإضاءة والإظلام، وبين المشي والقيام، وبين لهم وعليهم. وغير خفي أن " اللام " للنفع و " على " للضرر، والآية من هذه الجهة تشبه قوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (4).
الوجه الثامن: حول مرجع ضمير " فيه " يظهر من القوم أن ما في قوله تعالى: (كلما أضاء لهم) أمورا محذوفة، والأصل هكذا: كلما أضاء لهم فيه الممشى مشوا فيه وإذا أظلم عليهم فيه الممشى قاموا. والالتزام بهذه مشكل. ويحتمل: أن يكون قوله تعالى: (فيه) بعد (مشوا) راجعا إلى الوقت، لأن المشي ليس في البرق، والممشى محذوف، ولا يجوز عود الضمير إلى المحذوف. وأنت خبير بما في هذه من البرودة فإن القرآن وكلمات البلغاء مشحونة بالاستعارات والمجازات والحذف والإسنادات الاستعمالية، لأن المخاطب الفهيم يتوجه إلى المقصود من خلال هذه الرموز. هذا، مع أنك عرفت فيما سبق: أن " كلما " لا يحتاج إلى العائد، وأن رجوع الضمير إلى المحذوف ربما يعد من المحسنات جدا، مع أن المرجع المحذوف يدل عليه الكلام، فيكون من قبيل قوله تعالى: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (5) هذا، مع أن حذف المفعول إشعار إلى أن تحيرهم كان في شدة، لا يقصدون مكانا خاصا، وكانوا طالبي المجهول المطلق، وأنه (إذا أضاء لهم مشوا) حفاظا على حياتهم الفردية والاجتماعية، (وإذا أظلم عليهم) الطريق سكنوا ووقفوا أيضا للحفظ والصيانة.
الوجه التاسع: حول فساد رأي المنافقين من وجوه البلاغة: أن المنافقين - حسب هذه الآية وما سبق - يتوهمون أنهم يتمكنون من إبقاء حياتهم الفردية والاجتماعية، ويقدرون على صيانة أنفسهم بين الناس سالمين غانمين، غافلين عن هذه المائدة الملكوتية والومضة الإلهية، وأن الله تعالى محيط بالكافرين وأن الله تعالى لو شاء لذهب بأسماعهم وأبصارهم وأنه تعالى على كل شئ قدير، وأن إرادتهم ليست علة تامة لحفظهم، وحرصهم على حياتهم غير كاف لوصولهم إلى مرامهم، فمن هذه الجملتين - الواقعتين آخر آيات المنافقين - يظهر سوء رأيهم وفساد عقيدتهم وبطلان مشيهم، فإن كل ممكن لابد وأن يرى نفسه متدلية بذاته الوجودية الأبدية الأزلية، ولو تشبث بسبب من الأسباب الظاهرية يتوكل على الله تعالى في ذلك. فهؤلاء المنافقون - حسب هذه الأمثلة - فاسدوا العقيدة وفاسدوا الأخلاق لما في الآيات، وفاسدوا النعوت والصفات، لقوله تعالى: (صم بكم عمي) وفاسدوا العمل وفاسدوا الحركة، لما لا يكون حركتهم لغاية عقلائية، بل المدار على إضاءة البرق وإشراقه، فهم كل الفساد والفساد كلهم. والحمد لله.
الوجه العاشر: حول صدق عموم قدرته على كل شئ ربما يناقش في قوله تعالى: (إن الله على كل شئ قدير)، بأنه كذب، وهو غير جائز قطعا، وذلك لأن المستحيلات يصدق عليها " الشئ "، وليست بمقدورة، وهو تعالى شئ حسب التحقيق الآتي في البحوث العقلية، وليس بمقدور بالضرورة، وما قيل في القضايا الإنشائية لا يأتي في الإخباريات، ضرورة أن القضايا الإنشائية القانونية من الاستعمالات الحقيقية، لأن ألفاظها تستعمل في معانيها اللغوية، إلا أن جد المقنن والإرادة الحتمية ليست مطابقة للإرادة الاستعمالية، حسب ما تحرر في أصول الفقه. وأما في الإخباريات فلا ينحل الإخبار إلى إخبارات، بل هو إخبار واحد إما كذب أو صدق، ففيما نحن فيه يلزم الكذب ولو كان جميع الأشياء - إلا ما شذ - مقدورا له تعالى. نعم يجوز الاستثناء المتصل بأداة، كما إذا قيل: جاءني القوم إلا طائفة كذا. أقول: أما المناقشة في المقام بالنسبة إلى المستحيلات العقلية فهي منفية، ضرورة أن التناقض والتضاد بالحمل الأولي موجود في النفس، ويكون مقدوره تعالى، وما هو المستحيل هو التناقض بالحمل الشائع، أي في الخارج، وهو ليس بشئ، فما هو الشئ مقدور وما ليس بمقدور ليس بشئ بالسلب المحصل. وأما المناقشة بالنسبة إليه تعالى وتقدس فالحق: أن الشئ إن كان بمعنى الذي شئ وجوده، أي المشيأ وجوده، فهو تعالى ليس بشئ بهذا المعنى، وإن كان هو كناية عن الأشياء الخارجية - كما هو الظاهر - ويؤيده ما يساوقه في اللغة غير العربية، فيكون حدود سعة المكنى عنه تابعا لإرادة المتكلم وقد مضى منا: أن كلمة " كل " لا تدل على الاستغراق بالوضع. ولو قلنا بدلالته عليه وضعا، فيمكن أن يكون الكلام المزبور، قرينة على أن المتكلم ادعى في نفسه: أنه ليس مصداق الشئ وإن كان شيئا بحسب المفهوم اللغوي، وباب الادعاء والمجاز واسع في الاستعمالات جدا. ومن الغريب: توهم جواز تخصيص العام هنا بمخصص عقلي (6)، وقد عرفت أنه التخصيص في الانشائيات جائز دون الإخباريات. وأغرب منه: ما في الفخر من تخيل المجازية (7) في هذا النحو من الاستعمال، مع أنه ليس من المجاز المستحسن، فضلا عن كونه مجازا مشهورا. نعم بناء على الوجه الأخير يلزم التخصص لا التخصيص في عالم الادعاء، وهذا يقرب من ذوق أهل الأدب والشعر، فلا تخلط.
الوجه الحادي عشر: حول ذكر القدرة عقيب المشيئة في تعقيب قوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) بقوله: (إن الله على كل شئ قدير) إشعار بأن المنافق يجب أن يعلم تحتم غضبه تعالى، وأنه ليس مجرد المشية المعلقة، بل هي المشية القريبة إلى التحقق، ولأجل التوجه إلى هذه النكتة ربما يقال: إن توصيفه تعالى بالقدير كان أبلغ من القادر، لأن صفة القدير والفعيل تجئ للمبالغة (8)، وأما معنى المبالغة في أوصافه تعالى، كقوله: (علام الغيوب) (9) فقد مر تفصيله في سورة الفاتحة بما لا مزيد عليه.
1- تحريرات في الأصول 1: 146.
2- البحر المحيط 1: 90.
3- الكشاف 1: 86، وراجع البحر المحيط 1: 90، وروح المعاني 1: 176.
4- البقرة (2): 286.
5- المائدة (5): 9.
6- التفسير الكبير 2: 81، البحر المحيط 1: 92، روح المعاني 1: 180.
7- راجع التفسير الكبير 2: 81 - 82.
8- الجامع لأحكام القرآن 1: 224، البحر المحيط 1: 92.
9- المائدة (5): 109.