مباحث اللغة والصرف

الآية العشرون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

المبحث الأول: حول كلمة " يكاد " كاد يفعل يكاد - من باب علم - كودا ومكادا ومكادة: قارب ولم يفعل، وهي من أفعال المقاربة، ترفع المبتدأ اسما لها، وتنصب الخبر، ويندر اقتران خبرها ب? " أن " (1)، قال ابن مالك: ك? " كان " كاد وعسى، لكن ندر غير مضارع لهذين خبر وكونه بدون " أن " بعد عسى نزر و " كاد " الأمر فيه عكسا (2) ويعلل ذلك: بأنها لمقاربة الفعل في الحال، و " أن " تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهو عليل، وقد جاء خبرها اسما، وهو قليل، ومنه قول تأبط شرا: فأبت إلى فهم وما كدت آئبا (3) انتهى. وتأمل. وقيل: هي مبالغة في المقاربة (4). وفي " الأقرب ": ربما تكون صلة للكلام، ومنه قوله تعالى: (لم يكد يراها) (5)، أي لم يرها، وبمعنى أراد، ومنه: (أكاد أخفيها) (6)، أي أريد، وفي " اللسان " ما يقرب منه (7). انتهى. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل: معناه فعل بعد إبطاء (8)، وحكى سيبويه عن بعض العرب: " كدت " بضم الكاف (9). وفي " البحر ": كاد يكاد من باب خاف يخاف منقلبة عن واو، وفيها لغتان، وليس في أفعال المقاربة استعمال المضارع منها إلا كاد وأوشك، وتلك الأفعال تبلغ ثلاثين فعلا، ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه " شرح جمل الزجاجي "، ثم بعد ذلك أنكر ما اشتهر، وحكى عن جمع: أنها في النفي إثبات وبالعكس (10). انتهى. وفي نفسي أن في بعض أبواب " المغني " بيتين يشعران لغزا به، وهما: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود (11) والذي يظهر لي: أن الرأيين تامان في وجه، وغير تامين في آخر، فإن أريد أن ل? " كاد " و " يكاد " في الجملة التامة وضعا، فيكون إفادة النفي في الإثبات وبالعكس مستندة إلى الوضع الخاص، فهو واضح المنع، وإن أريد أنها في النفي تكون في مقام وقوع الفعل والخبر، وفي الإثبات على عكسه، فهو صحيح، وذلك لما نجد في كثير من الآيات الشريفة، وتحت هذا سر، ولذلك يشترك سائر اللغات معها في هذا الأمر في الجملة. نعم لا بأس باستعماله في موارد النفي مريدا به النفي وبالعكس، فافهم ولا تخلط.

المبحث الثاني: حول كلمة " يخطف " خطفه يخطف: استلبه بسرعة، يقال: هذا سيف يخطف الرأس. وخطف السمع: استرقه. وخطفه - بالتشديد - بمعنى خطفه للتكثير والمبالغة، وخطف البعير: مشى سريعا، أخطفه: أخطأه. اختطفه: اجتذبه. الخطاف الذي في الحديث: هو الشيطان يخطف السمع ويسترقه، والخطاف كرمان: طائر أسود يقال له: زوار الهند (12). انتهى ما في اللغة. وفي بعض كتب التفسير: فيه لغتان، والأفصح ما مر، والآخر: خطف يخطف (13). ولعمري إنه قد وقع الخلط بين اللغتين، لما أشير إليه من مجيئه بمعنى المشي سريعا، فإن الأول متعد والآخر لازم، والأمر سهل. وقال الزبيدي وهو الموجود في " القاموس ": إنها قليلة أو رديئة لا تكاد تعرف، كما في " الصحاح "، ونقل شيخنا عن " أقانيم التعليم " للخويي تلميذ الرازي: أن " خطف " ك? " فرح " يقتضي التكرار، والمفتوح لا يقتضيه. قال شيخنا: وهو غريب لا يعرف لغيره، فتأمل (14). انتهى. والذي يظهر لي: أن معنى الخطف أعم من الاستلاب مع بقاء المسلوب وعدمه، فلو اختطف الخطاف صيدا، ابتلعه بنفس الخطفة، صح على الحقيقة، فما في " تاج العروس " من توهم المجازية (15)، في غير محله، ويظهر من " القاموس " أيضا أنه على الحقيقة (16). نعم في مثل اختطاف الشيطان مجاز على الأظهر.

المبحث الثالث: حول كلمة " كلما " قالوا في كلمة " كلما ": إنها مركبة من " كل " و " ما " المصدرية، وهي الظرفية، أي النائبة عن الظرف، ف? " كل " من " كلما " منصوب على الظرف، لإضافته إلى شئ هو قائم مقامه، وناصبه الفعل الذي هو جواب في المعنى (17). وقال السيوطي: وقد ذكر الفقهاء والأصوليون: أن " كلما " للتكرار (18)، وقال ابن حيان: وإنما ذلك من عموم " ما ": لأن النظر فيه مراد بها العموم وكل أكدته (19). انتهى. وقال ابن هشام: وجاءتها الظرفية من قبل " ما "، فإنها محتملة لوجهين: الأول أن تكون حرفا مصدريا، والجملة بعده صلة له، فلا محل لها، والأصل في قوله تعالى (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا) (20)، أي كل وقت رزق... إلى أن قال: والثاني: أن تكون " ما " نكرة بمعنى وقت، فلا يحتاج على هذا إلى تقدير وقت والجملة بعده في موضع خفض على الصفة، ثم ضعف الأخير، فمن شاء فليراجع (21). انتهى ما قالوه. والذي يظهر لي: أن هذه المركبات - الراجعة عند النحاة إلى البسائط الأولية - ليست كالمركبات من الجمل الناقصة أو التامة، ضرورة أن تلك المركبات ليست لها وضع على حدة، والقول بتعدد الوضع من الأباطيل بالبداهة. وأما هذه المركبات فلا منع من دعوى بساطتها وضعا، وإن كانت مركبة صورة من كلمة " كل " التي لها الوضع الخاص، ومن كلمة " ما " هكذا، ولا دليل على تركبها منهما، ولا سيما بعد انقلاب شكلها، ضرورة أن " كلما " لا تقرأ إلا على وجه واحد، كما لا تكتب إلا كالواحدة، بخلاف " كل " الداخلة على ما، فإنها تختلف إعرابا باختلاف العوامل، وتكتب منفصلة، فرقا بين " كلما " الشرطية الزمانية، وبين الاسم الداخل على " ما " الموصول وغيره. فبالجملة: " كلما " من أداة الشرط إلا أنها مثل " إذ " و " إذا " ظرفية وقتية، وتحتاج إلى الجواب، كما ترى في كافة استعمالاتها.

المبحث الرابع: حول كملة " أظلم " أظلم الليل: صار مظلما، والقوم: دخلوا في الظلام، وأظلم عليهم الليل، والثغر: تلألأ، والرجل: أصاب ظلما أو ظلما (22). وفي " البحر ": توهم أن الزمخشري استظهر أنه يتعدى بنفسه، وهو في غير محله، ثم قال: وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعد بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف جر، أي يجوز أظلم الله الليل عليهم (23). انتهى ما أردناه. وهذا اجتهاد في اللغة، لأن التعدية أيضا ليست قياسية كلية، ولا سيما بغير الباء الجارة التي هي عدت شبه قياس دون غيرها، ولا يجوز توجيه اللغة بالاستعمال، فإن باب الاستعمال أوسع من الحقيقة والمجاز بأنواعه وأقسامه المتداولة في لغة العرب خصوصا، وفي غيرها أيضا، وأما ما جزم به ابن الصلاح بوروده لازما ومتعديا (24)، وقد صرح به أيضا الأزهري في " التهذيب " (25)، فهو معارض بتصريح ابن مالك (26) وغيره، مع أن من المحتمل أخذ بعضهم من بعض، وهذا لا ينفع، أو اعتمادهم على قضية قياس باب الإفعال، وقد كثر اللزوم فيه جدا، كما هو ربما يأتي للمطاوعة، ك? " أكب " وأعرض ل? " كب " و " عرض ". هذا، مع عدم كون الظلام فعلا من الأفعال يتعلق به السبب المولد، بل هو أمر يحصل قهرا بذهاب سبب النور، فلا يتعلق به الجعل حقيقة، ولو تعلق به في الظاهر فهو مؤول. فبالجملة: هذا من شواهد لزومه، كما هو المصرح به في اللغة عامة. ومن العجيب تصريح " التهذيب " بالقياس حيث أخذ تعدية أظلم من سائر أوصاف الظلام، معللا: بأنها لازمة ومتعدية (27). انتهى. والله العالم بما قاله. ومن هنا ومن مواضع اخر يظهر ضعف كتاب " المنجد في اللغة "، لأنه جمع بين اللغة وما في بعض كلمات أهل الأدب، من غير إشارة إلى ذلك (28).

المبحث الخامس: حول كلمة " قام " قام يقوم قوما وقياما: انتصب ضد قعد، والأمر: اعتدل، وعلى الأمر: دام وثبت، وقام السوق: نفقت، قام به ظهره: أوجعه، وبأمر تولاه، وقام عليه: خرج عليه وراقبه، وفي الصلاة: شرع فيها، وقامت المرأة تنوح: طفقت (29). انتهى ما في اللغة. وأنت خبير بأن هذه المعاني كلها مجازية واستعارة، حتى في قوله: قام به ظهره، فإن الظهر فاعل، وقد اختلفت عبائرهم في ذلك، إلا أن الأظهر ما عن بعضهم: بأن كل ما أوجعك من جسدك قد قام بك، فكأن الذي يوجعك نوعا يقوم حين الإيجاع، فلا يتعدد المعنى. ومن الغريب أيضا ما في " المنجد ": من تفسير قام بالوقوف (30)، ولا يوجد في المتون الأصلية منه أثر، فإن القيام ضد القعود والمتحرك قائم، وإذا قيل له: قم، فسكن، فهو أعم من الحقيقة، والمتعارف في بلدنا هو الأمر بالوقف. وأما الانتكاس - وهو القيام بالرأس - ففي كونه من القيام لغة مناقشة جدا، وإن كان ربما يطلق عليه في بعض المواقف.

المبحث السادس: حول كلمة " لو " " لو " تأتي لمعان نشير إليها إجمالا وإلى ما قالوه فيها: أحدها: " لو " المستعملة في نحو " لو جاءني لأكرمته "، وهي تفيد ثلاثة أمور (31): أحدها: الشرطية، أي تعقد السببية والمسببية بين الجملتين بعدها. وفيه: أنه يصح أن يقال: لو جاءني لأكرمته لأنه أكرمني، فلو كانت هي تفيد السببية تلزم المجازية بل الغلط، مع أنه ليس كما توهموه قاطبة، فلا دلالة له بالوضع عليها. والثاني: تقييد الشرطية بالزمن الماضي، وبهذا الوجه وما بعده فارقت " إن ". والثالث: الامتناع، قال جماعة: هي حرف امتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط. وفيه أولا: أن المعنى الثاني يندرج في الثالث، لأنه إذا كان يورث التقييد بالزمان الماضي يلزم منه امتناع المجئ بالضرورة، والمراد من الامتناع أعم من الامتناع الذاتي والغيري. وثانيا: تكون " لو " أكثر استعمالا في الامتناعيات، وأما كون الامتناع الثاني لامتناع الأول، أو بالعكس، أو كان امتناعهما لأمر ثالث، فهي غير دالة عليه عندنا، ومن ذلك قوله تعالى: (ولو شاء لهداكم أجمعين) (32)، وحيث إن هداية الأجمعين ممتنعة في الطبيعة حسب مقتضياتها، وإلا يلزم أن تكون الطبيعة لا طبيعة، يمتنع أن يتعلق بها المشية، ولو أريد من المشية الإرادة الفعلية، يكون امتناع كل من المشية والهداية، مستندا إلى امتناع تعلق العلم الأزلي النظامي على غير الوجه المزبور، فلاحظ واغتنم. والثاني من أقسام " لو ": أن تكون حرف شرط في المستقبل إلا أنها لا تجزم. والفرق بين هذا القسم وما قبله: أن الشرط متى كان مستقبلا كانت " لو " بمعنى " إن "، ومتى كان ماضيا كانت حرف امتناع، ومتى وقع بعدها مضارع فإنها تقلب معناه إلى المضي (33). وفيه: أن ما ذكروه يشبه بالأكل من القفا، ضرورة أن " لو " إن كانت للماضي، وكان الفرق بينها وبين " إن " ذلك، فعليه لم يبق وجه لأن تكون " لو " بمعنى " إن "، بل يرجع ذلك إلى أن " لو " كما تكون للماضي تكون للاستقبال، فإن في قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (34) لا تكون للماضي، بل هو معنى أعم وأشمل. والثالث: تأتي بمعنى " أن " المصدرية ولا تنصب، وأكثر وقوعها بعد مادة " ود " و " يود " وهي كثيرة الاستعمال في الكتاب الإلهي (35). وفيه: أن احتمال كون مفاد الجملة السابقة في حكم الجزاء قوي جدا، فتكون هي فيها أيضا حرف شرط، ويشهد لذلك أنها لا تنصب، ومن شاء أن يصدقنا فليراجع موارد استعمالها، ومنها قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون) (36)، فإنه يرجع إلى أن الكفار يكونون هكذا، وهو أنكم لو تكفرون ودوا، وهذا أمر واضح جدا. والرابع من معانيها: أنها للتمني، ويأتي جوابها بالفاء منصوبا، نحو " لو تأتيني فتحدثني " بنصب " تحدث " نظير " ليتك تأتيني فتحدثني " (37). وفيه: أنه يستشم منه الشرطية، إلا أن المتكلم يريد إثبات الملازمة بين ذات الإتيان عنده والتحديث، حتى تكون الجملة تامة، ويصح السكوت عليها. وربما تقع في محل التمني ومقام الرجاء، فلا تخلط. والخامس: أن تكون للعرض مثل " ألا "، ويأتي جوابها بالفاء منصوبا أيضا، نحو " لو تنزل عندنا فتصيب خيرا " (38)، وفيه ما مر. والسادس: هي للتقليل، نحو " تصدقوا ولو بظلف محرق " (39) وأنت ترى أنه في الشرط أوضح، ونظير " إن " الوصلية، فإنها أيضا شرط محذوف الجواب، وهو من سنخ الفعل السابق، أي تصدقوا ولو بظلف محرق تصدقوا، وأكرموا وإن (بتمر مر) أكرموا. ومن هنا يظهر: أن النحاة من غير تدقيق في معاني الجمل، التزموا بالأوضاع المتعددة لحرف واحد، والمعاني المختلفة لكلمة وحدانية.

المبحث السابع: حول كلمة " شاء " شاءه يشاء - من باب علم - شيئا ومشيئة ومشاءة ومشائية: أراده، والله الشئ: قدره. وبنو تميم يقولون: شاء يشئ، كجاء يجئ وزنا ومعنى بتبديل الشين، لقرب مخرجهما. والشئ ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وهو مذكر يطلق على المذكر والمؤنث، ويقع على الواجب والممكن، جمعه: أشياء، وجمع الجمع: أشياوات وأشاوات وأشاوى، ويجمع أيضا على أشايا، والأشياء تصغير الأشياء (40)، انتهى ما في اللغة. وأما الاختلاف في الأشياء فيأتي في ذيل الآية المشتملة عليها إن شاء الله تعالى. والذي يظهر لي: أن تفسير المشية بالتقدير خلاف مفاد الشئ لغة، فإن معناه في اللغة هو الطلب المظهر والإرادة المبرزة، وليس معناه الشوق النفساني والميل القلبي والاستدعاء في الضمير، ولذلك يكون متعديا ولو كان نفس الاشتياق الباطني لكان لازما، كما يكون الشوق والاشتياق لازما بحسب المعنى، وهذا من شواهد كون الشئ صفة الفعل، وبه يحصل الفرق بين الأوصاف الذاتية النفسانية وغيرها، فتأمل جيدا.

المبحث الثامن: حول كلمة " كل " " كل " اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكر نحو (كل نفس ذائقة الموت) (41)، والمعرف المجموع، نحو (وكلهم آتيه) (42) وأجزاء المفرد المعرف، نحو " كل زيد حسن "، وقد تستعمل للتكثير والمبالغة، نحو (تدمر كل شئ بأمر ربها) (43) أي كثيرا، ولا تستعمل إلا مضافة لفظا أو تقديرا (44). انتهى ما في اللغة. والذي تحرر منا في مباحث العام والخاص من الأصول: أن دلالة هذه اللفظة على استغراق المدخول وضعا غير ثابتة (45)، بل هي لاستغراق المدخول بشرط عدم لحوق قيد به، فإذا قيل: كل إنسان كذا، فهو لاستغراق المدخول المطلق، وإذا قيل: كل إنسان عالم كذا، يستغرق المدخول المقيد، وإثبات إطلاق المدخول وتقييده يحتاج إلى مقدمات الإطلاق، وإليه يرجع قولهم: إن " كل " تأتي بمعنى " بعض " أحيانا. نعم ربما تكون هذه المقدمات بعد لحوق الخبر محرزة، فإذا قيل: كل إنسان كذا، يكون الخبر بعد ذكر المدخول بلا قيد شاهدا على إطلاق المدخول. فما ذهب إليه جمع من الأصوليين، وقد صرح به في اللغة، ومنهم الوالد المحقق - مد ظله - (46)، غير منقح، ويشهد لذلك دخوله على شئ فإن حدود الاستغراق تستفاد من القرائن اللفظية، فلا تكون لفظة " كل " إلا لتكثير المدخول في الجملة. ثم إنها ربما تدخل على المعرف باللام، نحو (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) (47) وربما تستعمل لفظة " كل " و " بعض " مصدرين بالألف واللام، إلا أنه محل الخلاف بين أهل الأدب، ولذلك لا يوجدان في الكتاب الإلهي مقرونين به. ثم قالوا: ترد " كل " باعتبار كل واحد مما قبلها وما بعدها على ثلاثة أوجه: منها قولهم: العالم كل العالم، ومنها قوله: جاءني القوم كلهم، ومنها (كل نفس بما كسبت رهينة) (48)، ومنها أكرمت كل بني تميم، ومنها (كلا هدينا) (49)، ومنها (إن الامر كله لله) (50) انتهى ما في اللغة (51) والأدب بإجماله. وأنت خبير: بأن " كل " في جميع هذه الموارد جاءت بمعنى واحد وبوجه واحد، وهو معناه الكثرة الإجمالية بمعناها الحرفي أو الاسمي. ومن العجيب: خلط القوم بين ما يستفاد من القرائن وما هو مفاد لفظة " كل " وضعا، وهذا الخلط كثير الدور في كلمات القوم، وغير جائز نظير ذكر المعاني الكثيرة لهيئة الأمر والنهي، فإنه أيضا من الخلط بين الأغراض والدواعي وبين ما هو المستعمل فيه والموضوع له. وقالوا: لفظ " كل " حكمه الإفراد والتذكير، ومعناها بحسب ما تضاف إليه، فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها، فلذلك جاء الضمير مذكرا ومفردا في نحو (كل شئ فعلوه في الزبر) (52)، ومفردا مؤنثا، نحو (كل نفس ذائقة الموت) (53)، ومجموعا مذكرا في نحو: وكل أناس سوف تدخل بينهم وجمعا مؤنثا، نحو: وكل مصيبات الزمان وجدتها وإذا كان المدخول معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها، فيقال كل القوم حضر وحضروا، ويجوز مراعاة اللفظ أحيانا، نحو (كل كانوا ظالمين) (54) انتهى ما في اللغة والأدب (55). أقول: مقتضى القواعد هو أن " كل ": إما يكون هو المخبر عنه، أو يكون المدخول مخبرا عنه، فإن كان هو المخبر عنه فهو مفرد مذكر، لا يرجع إليه إلا الضمير المجرد، ويكون - حينئذ - مفاد العام المجموعي، ضرورة أن وحدة النظر إلى المدخول تحصل بوحدة النظر إلى الكل، وإن كان المخبر عنه هو المدخول فالضمير تابع المدخول، فإن كان من قبيل الناس والقوم فيرجع ضمير الجمع إليه، وإن كان من قبيل النفس يرجع إليه ضمير المفرد المؤنث... وهكذا. وأما فيما إذا كان المدخول مفردا مذكرا فإنه وإن يمكن رجوع الضمير إلى لفظة " كل " وإلى المدخول إلا أن الظاهر رجوعه إلى المدخول، لأنه قلما يتفق أن يكون النظر إلى معنى الكل، بحيث يكون هو المخبر عنه. ومن هنا يظهر مواقف الضعف في إفادات اللغة وأرباب الأدب، كابن هشام في " المغني " (56) والسيوطي في " الإتقان " (57). وبناء على ما ذكرنا يظهر: أن قوله تعالى (كل أولئك كان عنه مسؤولا) (58) معناه أن كل واحد من هذه المذكورات، وهكذا قوله (عليه السلام) - على ما نسب إليه -: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " (59) أي كل واحد منكم راع... إلى آخره. وقال البيانيون: إن وقعت " كل " بعد النفي كان النفي ثابتا لبعض الأفراد، نحو " ما جاء كل القوم "، و " لم آخذ كل الدراهم "، وإن وقعت قبل النفي يثبت النفي لكل فرد، نحو " كلهم لم يقولوا " (60). انتهى. وفي تعبير آخر: في الصورة الأولى يفيد عموم النفي وفي الأخرى نفي العموم، ويصح عكسه، فيكون الأولى سلب العموم، والثاني عموم السلب، والأمر سهل. وفي تعبير ثالث عند أصحابنا الأصوليين: إن ل? " كل " في الصورة الأولى عموما مجموعيا، فلا ينافي ثبوت الحكم لبعض الأفراد، وفي الثانية عموما استغراقيا، فينافيه ذلك. أقول: هذا أمر خارج عن اللغة، وداخل في ظهور الجملة، وقد تحرر في محله: أن الجملات لا تخص بوضع خاص، فعليه ربما تختلف المواقف والمواطن في الظهور المزبور، ولا يمكن الحكم عليها بنحو القاعدة الكلية. هذا، مع أنك عرفت أن " كل " لا تدل بالوضع على الاستغراق حتى تتم هذه المقالة. ومما يشهد على عدم دلالتها عليه دخولها على الجمع المحلى باللام، فيقال: " كل الناس أفقه من عمر "، و " كل المصيبات وردن علي " وهكذا. ومما يشهد على صحة ما ذكرناه آنفا: أنه يجوز أن يقصد المتكلم في صورة العموم استغراق النفي، فإذا قيل: " ما جاء كل القوم " أو " لم آخذ كل الدراهم " يريد كل واحد منهم، وهذا جائز من غير لزوم المجازية، فتكون هذه المسألة من الأمور الخارجة عن حدود اللغة، فتأمل جيدا.

المبحث التاسع: حول كلمة " قدير " قدر الله عليه الأمر قدرا: قضى وحكم به عليه، والرزق قسمه وضيقه، وقدر - من باب ضرب ونصر - على الشئ: اقتدر، وقدر عليه - باب ضرب ونصر وعلم - قدرا وقدرة ومقدرة: قوي عليه، فهو قادر وقدير، والأمر: دبره، وكونه باب ضرب لغة مشهورة، ومن باب نصر منقول عن الكسائي، عن قوم من العرب، ومن باب علم محكي عن الصاغاني عن ثعلب، ونسبه ابن القطاع لبني مرة من غطفان، هكذا حكاه الزبيدي. انتهى ما في " الأقرب " و " تاج العروس " (61). والذي لا ينبغي الخلط بينه وبين القدرة المصطلح عليها في الكتب العقلية، هو المفهوم اللغوي من الاقتدار والقدرة، والالتزام بتعدد الوضع بعيد في مثله فالقدرة: إما هي الصفة النفسانية والقوة الموجودة في النفس وجنودها، وبها يبرز القضاء والحكم والتدبير والتقسيم الخارجية، أم هي نفس الحكم والقضاء والاستيلاء الخارجي والتسلط المظهر. والذي يظهر لي بعد التأمل هو الثاني، لأن تفسير القدرة بالقوة على الشئ، يمكن جمعه مع الحكم والقضاء والتدبير والتقسيم، فيكون قولهم: قوي عليه، أي استولى خارجا عليه، فيكون مفهوم القدرة عمل القوة المخزونة، لا نفسها.


1- راجع أقرب الموارد 2: 1111.

2- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث أفعال المقاربة، البيت 1 و 2.

3- الجامع لأحكام القرآن 1: 222.

4- تفسير التبيان 1: 96.

5- النور (24): 40.

6- طه (20): 15.

7- راجع أقرب الموارد 2: 1111.

8- نفس المصدر.

9- الصحاح 2: 532، تاج العروس 2: 488، أقرب الموارد 2: 1111.

10- راجع البحر المحيط 1: 88.

11- راجع مغني اللبيب: 347.

12- أقرب الموارد 1: 286.

13- راجع تفسير التبيان 1: 96.

14- راجع تاج العروس 6: 90.

15- راجع تاج العروس 6: 90.

16- راجع القاموس المحيط: 1041.

17- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 261.

18- نفس المصدر.

19- راجع البحر المحيط 1: 90.

20- البقرة (2): 25.

21- راجع مغني اللبيب: 104.

22- راجع أقرب الموارد 2: 731.

23- راجع البحر المحيط 1: 91.

24- تاج العروس 8: 384.

25- انظر تاج العروس 8: 384، روح المعاني 1: 176.

26- انظر تاج العروس 8: 384.

27- تاج العروس 8: 384.

28- راجع المنجد: 481.

29- أقرب الموارد 2: 1053.

30- المنجد: 663.

31- أقرب الموارد 2: 1167.

32- النحل (16): 9.

33- أقرب الموارد 2: 1167 - 1168.

34- الأنبياء (21): 22.

35- أقرب الموارد 2: 1168.

36- الممتحنة (60): 2.

37- أقرب الموارد 2: 1168.

38- راجع نفس المصدر.

39- أقرب الموارد 2: 1168.

40- أقرب الموارد 1: 624.

41- آل عمران (3): 185.

42- مريم (19): 95.

43- الأحقاف (46): 25.

44- أقرب الموارد 2: 1099.

45- راجع تحريرات في الأصول 2: 473 - 482.

46- راجع تهذيب الأصول 2: 4 - 5.

47- آل عمران (3): 93.

48- المدثر (74): 38.

49- الأنعام (6): 84.

50- آل عمران (3): 154.

51- أقرب الموارد 2: 1099.

52- القمر (54): 52.

53- آل عمران (3): 185.

54- الأنفال (8): 54.

55- أقرب الموارد 2: 1099.

56- راجع مغني اللبيب: 102 - 104.

57- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 259 - 261.

58- الإسراء (17): 36.

59- راجع عوالي اللآلي 1: 129 / 51، وبحار الأنوار 72: 38 / 36، ومسند أحمد 2: 5، وصحيح البخاري 2: 6 / 2.

60- راجع أقرب الموارد 2: 1100، انظر المطول: 121.

61- أقرب الموارد 2: 971، تاج العروس 3: 481.