التفسير والتأويل على مسالك شتى ومشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين: (أو كصيب من السماء)، أي حجة نبوتك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل الباهر على استحقاق علي (عليه السلام) أخيك للموقف الذي وقفته والسياسة التي قلدتها إياه، فهي كصيب (فيه ظلمات ورعد وبرق). قال: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أن في هذا المطر هذه الأشياء، ومن ابتلي به يخاف، فكذلك هؤلاء في ردهم لبيعة علي (عليه السلام)، وخوفهم أن تعثر يا محمد على نفاقهم، كمثل من هو في هذا المطر والرعد والبرق، يخاف أن يخلع الرعد فؤاده، أو ينزل البرق والصاعقة عليه، فكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم، فتوجب قتلهم واستئصالهم (يجعلون أصابعهم في آذانهم) إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة، ووعيدك لهم إذا علمت أحوالهم، (من الصواعق حذر الموت) لئلا يسمعوا لعنك ولا وعيدك، لئلا تتغير ألوانهم، فيستدل أصحابك أنهم المعنيون باللعن والوعيد، لما قد ظهر من التغيير والاضطراب عليهم فتقوى التهمة عليهم. (والله محيط بالكافرين) مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم، وأبدى لك أسرارهم وأمرك بقتلهم (1). وعن " الفقيه " عن أبي بصير عنه (عليه السلام): عن الرعد، أي شئ يقول: قال: " إنه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها: " هاي هاي " كهيئة ذاك ". قلت: جعلت فداك، فما حال البرق؟فقال: " تلك مخاريق الملائكة، تضرب السحاب، فتسوقه إلى الموضع الذي قضى الله عز وجل فيه المطر " (2). وأيضا عن " الفقيه " بعد ما تقدم، وقال (عليه السلام): " الرعد صوت الملك والبرق سوطه " (3) وروي: " أن الرعد صوت ملك أكبر من الذباب وأصغر من الزنبور، فينبغي لمن سمع صوت الرعد أن يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته " (4). انتهى. وقد مر ما يتعلق بذلك صحة وسقما. وأما أصحاب الحديث (أو كصيب من السماء)، أي مطر، كما عن الكل إلا عبد الرحمن بن زيد: فإنه هو الغيث من السماء. وعن سفيان: أي الذي فيه المطر. (فيه ظلمات ورعد) فعن مجاهد: ملك يزجر السحاب بصوته. وعن أبي صالح: ملك من الملائكة يسبح. وعن شهر بن حوشب: هو ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق التي رأيتم. وعن ابن عباس: الرعد ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته. وعنه أيضا: ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير. وعنه أيضا: الرعد اسم ملك، وصوته هذا لتسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك، فتخرج الصواعق من بينه. وعنه رابعا: ملك يسوق بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه. وعن مجاهد: ملك يزجر السحاب، وعن عكرمة: ملك في السحاب يجمع السحاب، كما يجمع الراعي الإبل. ويقرب منه قوله الآخر. وعن قتادة: الرعد خلق من خلق الله عز وجل، سامع مطيع لله عز وجل. وعن عكرمة: أن الرعد ملك يؤمر بأنه جاء السحاب، فيؤلف بينه، فذلك الصوت تسبيحه. وعن مجاهد: هو ملك وهو المروي عن ابن عباس خامسا. وعنه سادسا: هو ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه. وعنه سابعا: هو ريح. (وبرق)، أي مخاريق الملائكة يزجرون بها السحاب. قاله ابن عباس. وقال آخرون: هو سوط من نور يزجر به الملك السحاب. وعن ابن عباس: أنه ماء. وفي تعبير آخر: أنه من الماء. وقال آخرون: هو مصع ملك، أي لمعانه. وعن محمد بن مسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بأجنحته، فذلك البرق. وقريب منه ما عن شعيب الجبائي. (والله محيط بالكافرين)، أي جامعهم في جهنم. كما عن مجاهد، وعن ابن عباس: الله منزل ذلك بهم من النقمة (5).
وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب التنظير: (أو كصيب من السماء)، أي أو كذوي صيب وسحاب من ناحية الفوقاني. (فيه ظلمات) ثلاثة: ظلمة الليل، وظلمة تراكم السحاب، وظلمة تراكم الأمطار. (ورعد وبرق): مثال لتوضيح اشتمال السحاب عليه، وربما يزداد عليه، وربما ينقص. (يجعلون أصابعهم)، أي بعض الإصبع (في آذانهم) وحلقة سمعهم الظاهرة (من الصواعق) والنوازل المتجمدة (حذر الموت) وخوف الفناء (والله محيط بالكافرين) فلا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وقريب منه: (أو كصيب)، أي ومثلهم كصيب (من السماء)، فلا يتوهم كونه من الأرض (فيه ظلمات) شديدة متراكمة بعضها فوق بعض (ورعد وبرق) يتولدان من اصطكاك الكهربائية الإيجابية والسلبية (يجعلون أصابعهم) بأجمعها (في آذانهم) لشدة تحيرهم وعدم شعورهم بالأمور الواضحة، فضلا عن غيرها (من الصواعق) التي تحصل من تماس الأسلاك المثبتة والمنفية، وتصل وتصاب إلى الأرض (حذر الموت)، ولأجل التجنب عن الهلاك والمصائب والله تعالى يتوفى الأنفس ويقدر الموت والحياة، ولا ينفعهم الاحتراز والتحذر من الموت، فيكون هو المحيط بالكافرين، وهو مقتدر بالنسبة إليهم، وقادر على تقلباتهم ونشئاتهم. وقريب منه: (أو كصيب) ومثلهم صيب ومطر من السماء (فيه ظلمات) مشددة غليظة ومن النواحي المختلفة (ورعد وبرق) وفيه الرعود والبروق، لأجل ما يشاهد في خلال الأمطار من تلك الأضواء والأصوات، فهي حالة فيها ومتولدة حولها (يجعلون) المنافقون والكافرون المسرون كفرهم وعنادهم (أصابعهم في آذانهم)، أي يجعل بعضهم أصابعهم في آذان الآخرين، أو هم يختلفون في ذلك لشدة التحير والخوف، ولكثرة الأصوات والبروق، فلا يدركون ما يصنعون (من الصواعق) والأحجار الكبريتية السماوية التي تحتجر لأجل التضاد الكيماوي الحاصل من الاختلاط بين الدخانيات والدهنيات المتصاعدة الجوية المصابة إلى الأرض لثقلها، أو لأجل الجاذبة العامة، أو يحصل ذلك من الكهربائية والأسلاك في أوساط الوصول إلى الأرض (حذر الموت) وخوف أن لا يصلوا إلى مرامهم ومقصودهم، فتموت حياتهم الاجتماعية ويضمحل نشاطاتهم السياسية (والله محيط بالكافرين) الذين هم المنافقون أو هم المصابون منهم، أو من غيرهم.
وعلى مسلك بعض أهل الذوق: (أو كصيب) من سماء النفس ومن الرتبة الواهمة منها (فيه ظلمات) الجهل والسفاهة والتحير (ورعد وبرق) من توابع القوة الواهمة، ومن جنود هذا الشيطان المتصل (يجعلون) سائر القوى السليمة (أصابعهم) ونقاباتهم حائلة بينهم وبين تلك الشريرة و (في آذانهم) ومحال تأثرهم من الصواعق والمصائب، النازلة عليهم من سماء ذلك الوهم المسلط عليهم، (حذر الموت) والمحكومية بالزوال والفناء، وخوف استيلائه عليهم، (والله) بذاته وبحقيقته الإطلاقية الذاتية (محيط بالكافرين) وبغيرهم وبجميع القوى والحيثيات الجزئية والكلية، كما تكون النفس محيطة بقواها.
1- تفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 132 - 133.
2- الفقيه 1: 334 / 9.
3- الفقيه 1: 334 / 10.
4- الفقيه 1: 334 / 11.
5- راجع حول كل هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 149 - 158.