بعض مسائل عقلية وبحوث فلسفية

المسألة الأولى: حول استناد الحوادث الجوية إلى السماء اختلفوا في أن الحوادث السماوية والجوية، كالأمطار والبروق والصواعق والرعود والبرود وغيرها، هل هي مستندة إلى المبادئ الأرضية والمناشئ العنصرية، أم هي تستند إلى الأسباب السماوية والمبادئ الفوقانية؟واستندوا لإثبات مدعاهم الأخير والرأي الثاني إلى هذه الآية الشريفة، وأن قوله تعالى: (أو كصيب من السماء) يوجب أن هذه الحوادث نشأت من السماء، وتدل الآية على فساد القول: بأن هذه الأمور تستند إلى الأبخرة المتصاعدة الأرضية، لأجل الأنوار الحارة الشمسية وغيرها. وقد عرفت فيما مضى القول الآخر وهو: أن هذه الأمور تستند إلى العلل الغيبة الإلهية والملائكة المدبرة الرحمانية، وقد نسب هذا القول إلى صاحب الشريعة الإسلامية حسب الآثار والأخبار المروية عن طرق العامة والخاصة. ومن الغريب ذهاب جمع من الفضلاء إلى الرأي الثاني، وجمع آخر إلى القول الأخير، من غير تدبر في مغزى المسألة ومخ الكلام، ضرورة أن حجية الأخبار في هذه المسائل ممنوعة على ما تحرر، وعلى تقدير صحتها، فهي محمولة على أن المراد منها، الإشارة إلى العلل الإلهية المسانخة مع العلل الطبيعية، المقارنة مع الحوادث المشترك فيها جميع الحوادث في العوالم العنصرية والأثيرية. وأما توهم: أن هذه الحوادث معاليل الأسباب الغيبية الإلهية، بلا توسط المبادئ الطبيعية، فهو فاسد غير خفي على أهله. وأما ما ذهب إليه جمع وفيهم الفخر (1) وغيره (2) من: أن هذه الآية وبعض الآيات الأخر، تدل على أن هذه الأمور الجوية السماوية، مستندة إلى المبادئ الطبيعية السماوية ومناشئ غير أرضية، فهو أغرب، ضرورة أن هذه المسائل تجربية شهودية، يشهدها الإنسان من فوق الأجبال وفي سواحل البحار، من غير حاجة إلى إعمال النظرية والفكرة. هذا، مع أن هذه المسائل في عصرنا منحلة، لما أن السحاب والصيب من الأمور الاختلاقية والصناعية الاختيارية، بتوسيط الأشعة الخاصة والحرارة المحدودة، فقوله تعالى: (أو كصيب من السماء) ليس في مقام تثبيت النظرية المزبورة، بل هو في موقف آخر أشرنا إليه، ولعل أمتن الوجوه كون النظر إلى إفادة أن الصيب المزبور محيط بهم ومسيطر عليهم.

المسألة الثانية: حول الوجود اللائق بجنابه تعالى من المسائل المعنونة العقلية، ولا سيما في بعض المؤلفات العرفانية هو: أن الوجود الذي يليق بجنابه تعالى، هل هو الوجود الخاص، كما هو زعم الحكماء المعبر عنه باللابشرط القسمي، أم هو الوجود المطلق العام، كما هو زعم العرفاء المعبر عنه باللابشرط المقسمي؟وحيث إن لكل من المسلكين مناقشة لا يمكن الالتزام به، ضرورة أن دعوى الوجود الخاص يستلزم التحدد الممنوع عقلا، والوجود المطلق يلازم المزاولة مع الوجودات النازلة، مع أنه داخل في الأشياء لا بالمزاولة، وخارج عنها لا بالمفارقة (3)، وأنه داخل فيها لا كدخول شئ في شئ، وخارج عنها لا كخروج شئ عن شئ (4)، وأنه ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج (5)، حسب ما وصل إلينا من سلطان المعارف وأمير الحقائق ومبدأ الوحي والتنزيل والروح الأمين أمير المؤمنين - عليه آلاف التحية والثناء إلى يوم الدين واللعنة الدائمة على أعدائه أجمعين - فيكون هناك قول عدل ورأي جزل، كما نشير إليه - إن شاء الله تعالى - وتفصيله في موقف آخر. وربما يستشم من هذه الآية الشريفة، من استناد الإحاطة والاستيلاء إلى ذاته تعالى على الكفار وغيرهم، أنه هو الوجود المطلق، فتكون هذه الآية من مؤيدات مقالة أهل الذوق والعرفان. والذي هو التحقيق: أن الله تعالى إحاطته بالأشياء أمر ووصف من أوصافه الذاتية، وله التجلي الذاتي، فإذا تجلى باسم المحيط تكون إحاطته بالأشياء عين وجود هذه الأشياء، الذي هو عين حقيقة فعله وتجليه الفعلي، فهذه الآية الشريفة تدل على الأمرين: الأول أنه تعالى ذات موصوفة بالإحاطة، والثاني أن له الإحاطة على الأشياء، إلا أن إحاطته التي هي تجليه الفعلي، من المعاني الاندكاكية والأمور المتدلية إلى الذات الأحدية الإلهية، ولا يمكن أن يحكم عليه بالأحكام النفسية الاسمية، ولذلك يقال: هو تعالى محيط بالأشياء، وأما ما هو بالحقيقة إحاطته هو فعله الفاني فيه، الساري إليه أحكامه وخواصه وآثاره، ولذلك يستند إليه كل ذلك بالحقيقة، لأن حقيقة الاندكاك والفناء تقتضي ذلك. فليتدبر في هذا كله حتى يتبين لك مشاكل المعارف الإلهية.


1- التفسير الكبير 2: 79.

2- الكشاف 1: 82.

3- التوحيد: 360 / 1.

4- التوحيد: 285 / 2 و 306 / 1.

5- راجع نهج البلاغة، صبحي الصالح: 274، الخطبة 186.