وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول الإطناب في الآية من الأسئلة المتوجهة هنا: هو الإطناب وتكثير التمثيل في توضيح أحوال المنافقين المنحرفة وهذا خلاف أسلوب البلاغة. وأجيب: بأن الحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال، وتمد أطناب الإطناب في شرح أفعالهم، ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال، وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة، لابد وأن يوفى فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز، فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز (1) ؟! وفذلكة الكلام: أن التكرار لا يكون من الإطناب إذا كان فيه توجيه المؤمنين إلى تثبيت أقدامهم على مرامهم، وترسيخ ملكاتهم في نفوسهم. وقيل: إن المثال الأول لفرقة منهم، والمثال الثاني للفرقة الأخرى (2)، كما مضى سبيله في بحوث البلاغة من الآية السابقة، فلا تكرار وقد تبين فيما سلف فساد ما تخيله " المنار " (3)، وأنه كالنار على المنار، وسيأتي وجه آخر ينتهي إلى عدم التكرار، لاختلاف جهة التشبيه.

الوجه الثاني: في سر إتيان كلمة التخيير، والتي تفيد فائدة العطف اعلم أن التشبيه والتمثيل لا يدل على دقة المتكلم في مقصوده ومأموله، لأن التشبيه وأداء المقصود بالتمثيل من الأمور المتعارفة بين الناس وأهل الشعر والأدب والخطابة. وإذا تكرر التمثيل فهو أيضا لا يشهد على أن المتكلم يريد بذلك بيان الحقيقة والواقعية، مثلا إذا قيل: زيد كالضبع والنمر، فإنه لا يدل على أنه متكلم دقيق النظر، بخلاف ما إذا أفيد بنحو الترديد أو التخيير في التمثيل، فإنه دليل على نهاية قاطعيته في هذه الإفادة، بحيث لا يمكن أن يعد من التشبيه، بل هو بيان للواقعية المبتلى بها المنافقون ولو كان الكلام على مبنى التسامح لما كان يتحير في ذلك. ولعمري إن في هذه الحيرة غاية البلاغة في توضيح تحير المنافقين، وضلالتهم الترددية بالنسبة إلى الواقعيات الإسلامية. هذا، مع أن في الترديد والتخيير في التمثيل إفادة أن حالهم لا يخلو عن أحد هذين التمثيلين، فيكون التفصيل قاطعا للشركة، بمعنى أنهم - أي المنافقين - لا شريك لهم في هذه، ولا تمثيل وراء التمثيلين يبين خط مشيهم ومنهج صنعهم مع الإسلام والمسلمين، خذلهم الله تعالى.

الوجه الثالث: حول ترتيب المثالين من الأسئلة: أن تقديم المثال الأول وتأخير المثال الثاني، لابد وأن يشتمل على نكتة وسر، وذلك أن التمثيل الثاني لمكان أبلغيته من الأول في إبانة انحطاط حالهم، وأدليته على فرط تحيرهم وشدة أمرهم اخر، وهم يتدرجون في مثله من الأهون إلى الأغلظ، ومن الأدون إلى الأسفل منه. أو أن التمثيل الأول باعتبار قوتهم العقلية والعلمية، والثاني باعتبار قوتهم العملية، فيقدم ويؤخر على مقتضى الطبع. وربما يقال: إن التمثيل الأول بيان لحال فرقة، أو لحال المنافقين الذين آتاهم الله دينا وهداية، عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا. وأما التمثيل الثاني فهو لمن بقي له بصيص من النور فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين (4). انتهى. فيكون التقديم والتأخير انعكاسا عن حركاتهم في الضلالة من الأضعف إلى الأضعف ومن النقص إلى الأنقص.

الوجه الرابع: حول ذكر الكاف من الأسئلة: أن حذف الكاف كان أولى، لأنه - مضافا إلى عدم الحاجة إليه، لاقتضاء العطف ذلك - أن الاستعارة أقوى من التشبيه، فلو قيل: زيد أسد، هو أبرز من زيد كالأسد. والذي يظهر لي: أن في الاستعارة جهتين: الأولى: ما يقرب إلى ذهن المستمع مقصود المتكلم ومراده ومطلوبه. الثانية: ما يستلزم أحيانا - في التماثيل الواردة مورد الذم - هتك المشبه به ووهن المستعار منه، فإذا شبه زيد البخيل والجبان بحيوان كذائي، فربما كان في ذلك خلاف أسلوب الأدب والرحمة واللطف والعطف اللازم رعايتها، ولا سيما عليه تعالى. فعند ذلك يجمع بين الأمرين التوضيح وإبانة المنظور وسد باب الهتك بالصمان والبكمان والعميان، وهكذا الأمر فيمن استوقد نارا، وفي أصحاب الصيب النازل من السماء، وهذا مما لا يتيسر إلا بالتشبيه، فإنه وإن كان أيضا يوهم الهتك أحيانا، إلا أن التصريح بإرادة التشبيه - ولا سيما بتكرارها - يومئ إلى أن النظر إلى التمثيل من جهة واحدة، وبذلك تنحل معضلة أخرى على الآية السابقة، كما لا يخفى.

الوجه الخامس: حول تنكير " صيب " في تنكير " الصيب " إما إشعار بأن من الصيب ما فيه الرعد والبرق والمطر الشديد الهائل (5)، أو إيماء إلى تنكير المشبه، فإن المنافق نكرة وغير معلوم، وفي ذلك إشعار بهتكهم ووهنهم مع عدم معروفيتهم، أو البلاغة تقتضي التنكير، لأن النظر إلى التشبيه والتمثيل في الجملة، ولذلك نكرت النار في المثال الأول أيضا.

الوجه السادس: حول ذكر " من السماء " من الأسئلة: أن قيد " من السماء " غير لازم، لأن الصيب بالطبع من السماء. وقيل: إن في ذلك تهويلا وإيماء إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم، وفي ذلك نوع بلاغة، كقوله تعالى: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) (6). وفي تفسير الفخر: أنه دل على أنه عام مطبق أخذ بآفاق السماء (7). ولا تخفى برودته وفظاعته، ومن العجيب توهمه: أن الآية بصدد نفي القول: بأن السحاب يتكون من أبخرة المياه الأرضية، قبال من يقول بذلك (8). ولعمري إنه أخبط حين تأليفه. وسيظهر بعض البحث حوله في بحوثه إن شاء الله تعالى. والذي يظهر لي: - مضافا إلى ما أشير إليه - ما أشرنا إليه في بحوث اللغة: من أن كلمة " صيب " متخذة من الإصابة، وليست بمعنى السحاب، إلا باعتبار ما يصيبه إلى ما دونه من الأمطار وغيرها، فعلى هذا يكون القيد في محله. هذا، مع أن كثيرا ما يقتضي حسن الأسلوب ولطف ترنم الكلام وأصواته المعتدلة أمثال هذه الإضافات، لأن الكلام بها يدخل في القلوب، ويرسخ فيها، ويوجب انقلابا روحيا. وقد عرفت أن القرآن نظرته العليا ومقصده الأعلى جلب القلوب إلى التوحيد والتفريد، من غير الالتزام ببعض هذه اللوازم، التي ربما لا تكون صحيحة في حد ذاتها، ولكنها صحيحة ولازمة بالقياس إلى تلك الفكرة الأصلية والرئيسة.

الوجه السابع: حول اختلاف الأوصاف من حيث الإفراد والجمع قد تبين مما مر وجه تنكير (ظلمات ورعد وبرق) بقي وجه التفريق بإتيان الجمع والمفرد، مع أن العكس أنسب، فإن الظلمة عدم النور، فلا تتكثر، بخلاف الرعد والبرق، فلابد من سر في الإتيان بها جمعا، وبهما مفردا. فربما يقال: إن الظلمات تومئ إلى أنواع الظلمة، فإن كان الصيب هو المطر فظلماته ظلمة تكاشفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال غمامه وظلمة الليل، وإن كان " الصيب " هو السحاب، فظلمة سجمته وسواده وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل (9). ويحتمل أن يكون الجمع هنا في حد المبالغة، أي تفيد أن الظلمة شديدة متراكمة، وظلمات بعضها فوق بعض. وما في تفاسير القوم - كما سمعت - يستلزم كون الصيب في الليل، مع أن الآية غير ظاهرة فيه. هذا مع تعقيب " السماء " المؤلف بالألف الممدودة بالظلمات المؤلفة يورث حسنا في السماع والطبع. وأما إفراد الرعد والبرق فقيل: لكونهما نوعا واحدا، لعدم إمكان اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد (10). ولا يخفى أن الجمع يمكن أن يكون بلحاظ الأفراد، لا الأنواع، وهو الأنسب، كما تحرر في محله. والذي يظهر لي: أن الإفراد لا يحتاج إلى الدليل، بخلاف الجمع، لأنه خروج عن الطبع. هذا، مع أن الرعد والبرق ربما لا يقبلان الجمع، باعتبار كونهما اسمين لحاصل المصدر، ولذلك لم يسمع جمعهما إلا شاذا. ومن المحتمل أن يومئ الإفراد إلى تفريد الملك الموكل بهما، فقد اختلفت كلماتهم - المحكية عن أبناء الحديث - في توجيه الرعد والبرق بما لا يرجع - حسب العقول البرهانية - إلى محصل، ولنعم ما حكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه " اسم الصوت المسموع " (11)، وأما قوله (عليه السلام) - على المحكي عنه -: " إن البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب " (12) أو إنه " أثر ضرب بذلك المخراق " (13)، فمضافا إلى عدم تمامية النسبة، محمول على ما يمكن حمل سائر الكلمات عليه، كالمحكي عن ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وعكرمة من: أن الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت (14). وقيل: كلما خالفت سحابة صاح بها، والرعد اسمه. وقال عطاء وطاووس والخليل: صوت ملك يزجر السحاب، وروي هذا أيضا عن ابن عباس ومجاهد، وقال مجاهد أيضا: صوت ملك يسبح. وقيل: ريح تختنق بين السماء والأرض، وعن ابن عباس: أنه ريح تختنق بين السحاب، فتصوت ذلك الصوت، وهنا أيضا عن أمير المؤمنين - عليه صلوات المصلين - ما حكي عن عطاء وأردافه. وقيل: هو صوت أجنحة الملائكة الموكلين يزجر السحاب. هذا هو الخلاف المشاهد بين هؤلاء، ومثل هذا الخلاف يشاهد - حسب النقل عنهم - في البرق، كما أشير إلى بعضه، فقيل - مضافا إلى ما مر -: إنه سوط نور بيد الملك يزجرها به، قاله ابن عباس. وعن ابن الأنباري: أنه ضرب ذلك السوط. وعزاه إلى ابن عباس، وروي نحوه عن مجاهد. وقيل: هو ملك يتراءى، وغير ذلك من المحكيات عن الأوائل، والنقليات عن أرباب الفضائل، ولا سيما رب نوع الكل والفواضل (15). والذي يظهر لي: أن هذه المنسوجات: إما من الإسرائيليات المختلقة والبدعات السيئة المدسوسة في الأحكام والحقائق الراقية الإسلامية، ناظرين إلى زجر الملل عن هذه الديانة القويمة بهذا السياط السود باسم القرآن والسوط من النور. أو هي اجتهادات في كلمة صادرة عن مبدأ الوحي، ملتحقة بها موجبة لسترها وضياعها واختفائها على أرباب العقول القادسة والأفهام الكلية، فإنه ربما يمكن أن قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في موضع عند السؤال بأمثال هذه الأجوبة، نظرا إلى أن جميع المتحركات الجزئية والكلية السماوية والأرضية، مستندة إلى القوى المودوعة، وتلك القوى مسخرات بأمر ربها، وهي ملائكة الله تعالى في أرضها وسمائها، إلا أن لسان الشرع يمتاز عن لسان أهل الفنون الحديثة، وسيأتي ذلك في المقامات المناسبة، حذرا عن الإطالة المنهي عنها والإطناب المخل، فتأمل. وبالجملة: يمكن تخيل كون منشأ الإفراد في الرعد والبرق هي وحدة الملك الموجد لهما، أو الملك المباشر، كما ورد في الحديث: أن مع كل قطرة من المطر ملكا يأتي معه إلى أن يبلغ محله ومهبطه (16). (تو خود حديث مفصل بخوان از أين مجمل) (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) (17). ومما يؤيد الاحتمال الأول ما روي في " روح البيان " عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث شاء الله تعالى ". فقالوا: ما هذا الصوت الذي يسمع؟قال: " زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر ". فقالوا: صدقت (18). انتهى. ولا يخفى ما فيه. وبالجملة: كما لا يجوز الحكم على غير ما أنزل الله فإن (من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (19)، ولا تجوز النسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين - عليهم صلوات المصلين - في المسائل الشرعية، كذلك الأمر هنا، فلابد من الفحص عن أسناد أمثال هذه الأخبار، مع أن حجية خبر الواحد في غير الأحكام الشرعية وما له بها مساس، غير ثابتة عند المحققين، فمجرد وجود رواية في كتاب تفسير أو رأي في كتاب مطبوع، لا يكفي لحجيتها بالضرورة، مع أن أغلب هذه الأخبار في هذه المواضيع ضعاف السند وعليلة الدليل ومراسيل مقطوعة.

الوجه الثامن: حول عدم ذكر مرجع ضمير " يجعلون " ربما يتوجه الإشكال إلى جملة " يجعلون " بأنها خلاف الفصاحة والإبانة التي ادعيت في القرآن الكريم، وأنه كتاب مبين، فإن ذكر الضمير بلا مرجع مذكور يورث الإجمال والتردد والاختلاف في الفهم، كما اختلفوا. أقول: الاختلاف ربما يستند إلى قصور الكلام أو تقصير المتكلم، وربما يستند إلى قصور أفهام الناس، وتقصير أرباب التعليم والتعلم، وربما يلزم أن يكون الكلام ذا وجوه لما فيه الخير الكثير، فإن اختلاف أمتي رحمة، وعليه مدار المدارس وبنيان محافل البحث والتدريب، وعليه أعمدة الحياة العلمية الأبدية، وأساطين الاجتهاد وإعمال الرأي بإعمال الفكرة وتنفيذ النظرة. وأما هذه الآية فاختلافهم في مرجع " يرجعون "، لا يضر بما هو المنظور إليه في التمثيل، كما هو الظاهر لذوي البصيرة. مع أن الذي يظهر لي: أن قوله تعالى: (أو كصيب) في حكم " أن مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون " أي نفس المنافقين، لا الذين يصيبهم الصيب الكذائي، لأن المقصود هو تمثيل المنافقين بهؤلاء الناس في هذه الحالة. ويمكن أن يكون المنافقون أنفسهم في هذه الحالة هكذا، أي (يجعلون...) إلى آخره. وهذا في نهاية اللطف وغاية الوجازة، وفيه إفادة أن المشبه به لا يلزم أن يكون غيرهم، بل هو عينهم فشبهت حالتهم بالنظر إلى إظهار الإسلام ونفاقهم بحالتهم إذا أصابهم الصيب من السماء، ولعل حذف المضاف من صدر الآية - كما مر - للإيماء إلى هذه النكتة أيضا، وإرشاد إلى أن هذه المنقصة والخوف من الحوادث الجوية والكائنات السماوية، من خاصة هؤلاء الناس والمنافقين، وأنهم بحسب التكوين والطبع على هذه الصفة متزلزلة عقائدهم وسخيفة، فيحذرون في كل حادث غير منتظر من الموت، لما لا يعتقدن بالآجال الإلهية. والله هو المعين.

الوجه التاسع: المراد من جعل الأصابع في الآذان من الأسئلة: أنهم هل يجعلون أصابعهم في آذانهم أم أنامل أصابعهم؟ثم سؤال آخر: هل يجعلون أنامل أصابعهم فيها، أم يجعلون السبابة أو الوسطى، أي أنملة واحدة حسب المتعارف، ولا تتحمل الاذن أكثر منها. والجواب عن الأول: بأن جعل الأنامل عين جعل الأصابع، لأنها جزء منها، فيصدق ذلك، ولا يلزم أن يجعل كل الإصبع، حتى يلزم المناقشة في الآية، وإن هي تامة إلا أن الظاهر هو جعل جميع الأنامل في الآذان، فإذا قيل: " اغسلوا أيديكم " يستفاد منه لزوم غسل الأيدي واليدين، والأمر هنا كذلك. والذي يظهر لي: مضافا إلى أن قيام القرينة، يوجب أن يكون العموم انحلاليا أفراديا، أي يجعل كل واحد منهم أنملته، فالأنامل مقابل العموم الأفرادي، أن في ذلك التعبير إشعارا بنهاية خوفهم من تلك الظواهر الحديثة والحوادث الفوقانية المحيطة بهم، فكأنهم لشدة حيرتهم لا يتوجهون إلى ما يصنعون، فيضعون الأنامل في آذانهم. وبالجملة: هذه الجملة وأشباهها ليست مرادة بالإرادة الجدية، بل هي استعمالية، ليتوجه الملتفت الفقيه إلى ما هو المقصود من جعل أنملة سبابة اليمنى في اليمنى واليسرى في اليسرى، فلا مشكلة جدا في مقام الاستعمال، ولا حذف ولا مجاز إلا بهذا المعنى، أي بمعنى اختلاف المراد الجدي والمراد الاستعمالي، كما في موارد الكناية، فإن باب الاستعمالات كلها من قبيل الاستعمال الكنائي من تلك الجهة.

الوجه العاشر: حول إتيان الصواعق جمعا في إتيان " الصواعق " جمعا لطف خاص مضافا إلى اقتضاء الأصابع والآذان وهو أن كلمة " البرق " بالنسبة إليها في حكم القافية المطلوبة (فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) ولولا هذه الملاحظات الخاصة الجزئية، لما علت فصاحته وألطافه على السماوات العلى والملكوت الأعلى.

الوجه الحادي عشر: حول أن التشبيه من المفرق أو المركب اختلفوا في أن هذا التشبيه والتمثيل من المفرق أو من المركب. وقد مر في المثال الأول عين هذا الخلاف: فذهب جمع إلى الأول، فيكون لكل جزء من أجزاء الجملة وجه شبه بالنسبة إلى حال من أحوال المنافقين في الإسلام. وجمع إلى الثاني، فقالوا: لا حاجة إلا إلى وجود وجه الشبه بين هذه الجملة المركبة بما لها من المعنى، وبين حال المنافقين، فأخذوا كل إلى بيان ما يمكن أن يعد وجها للتمثيل. والذي يظهر لي: أن تقسيم التشبيه إلى المفرق والمركب ليس بمعنى امتناع اجتماعهما، أو وجوب الجمع بينهما، بل هذا أمر مسكوت عنه في كلمة البلغاء. وقد مر منا - ويأتي هنا - أن هذه الآية من التشبيه المركب والمفرق، ولأجل ذلك يختلف إذا ضرب الله مثالا، أو ضرب غيره.

الوجه الثاني عشر: في بيان ما هو المنظور من التشبيه وبذلك يقرب ما هو وجه التشبيه لا شبهة في أن المنافقين كانوا في مختلف من الأمور، يواجهون الإسلام والمسلمين ورئيس الإسلام، وكانوا من جهات شتى يزاحمونهم كلا، ويوجبون الفساد والبليات ويوقعون الشبه والحيرة والشكوك، ولا سيما في بدو طلوع الإسلام، فإن حقائق الإسلام ما ارتسمت في نفوسهم على سبيل الرسوخ والملكات، فرب مسلم أصبح مسلما وأمسى شاكا حيرانا مترددا، لأجل الابتلاء بمصائب المنافقين، ولأجل تلك المصائب المتلونة، كشف القرآن عن أحوالهم المستورة سترة الحجاب، وأوضح الكتاب آراءهم وأعمالهم الكئيبة على أحسن السبل والأبواب، فعلى هذه يكون النظر في هذه الأمثال إلى فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، وما هو المنظور الأصلي، وهو المحافظة على أصل الإسلام لأجل التقدم والنفوذ بين المسلمين، ولأجل صيانة إسلام المسلمين الموجودين، ووحدتهم وشكلهم، وغير ذلك من المصالح المترتبة عليها. فتحصل من هنا: أن أساس المقصود في التشبيه بيان حالهم المغشوش المتلون، المرتكز فيه المقاصد المشؤومة الباطلة والمؤذية، المنتهية إلى الهلاك والموت.

الوجه الثالث عشر: حول توجيه هذا التمثيل اختلفوا في توجيه هذا التمثيل، وتشتت نظرياتهم في توضيح وجه التشبيه، ومنشأ هذا الاختلاف تفرق ذوقياتهم النفسانية وإدراكاتهم، فقالوا في موقف التشبيه المفرق: إن الصيب مثل للإسلام، والظلمات مثل لما في قلوبهم من النفاق، والرعد والبرق مثلان لما يخوفون به (20)، أو أن البرق مثل للإسلام، والظلمات مثل للفتنة والبلاء (21)، أو الصيب الغيث الذي فيه الحياة للإسلام، والظلمات مثل لإسلام المنافقين، وما فيه من إبطان الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموارثة، والبرق وما فيه من الصواعق، مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل (22). وقيل: إن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلا بقصتهم الواقعة عليهم. وهذا وما سبق مروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن (23). وقيل: إن الصيب ضرب مثلا لما أظهر المنافقون من الإيمان، والظلمات مثلا لضلالتهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق لما علاهم من خير الإسلام... (24) إلى غير ذلك من التخيلات المذكورة في المفصلات. وأما في موقف التشبيه المركب فقالوا: إذا حصل الصيب وفيه الظلمات والرعد والبرق، ثم اجتمعت الظلمات: ظلمة السحاب وظلمة الليل وظلمة المطر، وكانت تعانقها الصواعق، فيجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت فيقعون في الحيرة الشديدة، فشبه حال المنافقين بحالهم في الحيرة والاضطراب، وحيث هم يجهلون طريق الاهتداء شبه جهلهم بجهل المصابين في تلك الظلمات (25). أو أن المطر بحسب الطبع نافع، ويزول نفعه في تلك الحالة، وهؤلاء المنافقون يكون إظهارهم للإيمان نافعا بما هو إظهار، إلا أنه يضرهم لأجل مقارنته مع خبث الباطن وفساد السريرة وفقد الإخلاص والنية الصحيحة (26). أو أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد، لأجل الخوف من الموت والقتل، فشبه الله تعالى حالهم الباطلة بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها بجعل أصابعه في آذانه. أو أن هؤلاء المصابين بتلك الكوارث الجوية، وإن نجوا من الموت والهلاك، لأجل ما صنعوا بجعل الأصابع في الآذان، إلا أن الموت من ورائهم: كذلك اليهود المنافقون، فإنهم وإن يخوضوا لحقن دمائهم عن الموت والهلاك، إلا أن الموت والفظاعة من ورائهم. أو غير ذلك من الوجوه التخيلية لتوجيه التشبيه المركب (27). والذي يظهر لي - كما أشرنا إليه -: أن وجه التشبيه يتبين من النظر إلى حال المنافق وما يصنعه، وما هو مقصوده من النفاق، والإظهار المشفوع بالإبطان، فإذا نظرنا إلى ما تصدى المنافقون في المدينة، من إظهار الإسلام وإبراز انسلاكهم في زمرة المسلمين، وكانت حالهم بحسب الظاهر حال المسلم الواقعي والمؤمن الحقيقي، وكانوا في تلك الحالة المخادعة مشغولين بالأمور الإفسادية، وبالتحريك على الإسلام والمسلمين، بإيجاد الفتنة المنتهية إلى هضم أساس التوحيد، وهدم بنيان الدين والتشريع والتفريد، وكانوا في عين ذلك محافظين على أنفسهم من الضربات المهلكة، التي يمكن أن تتوجه إليهم من قبل رئيس الإسلام والمسلمين، وكانوا يتشبثون للحفاظ على أنفسهم بكل ما يتمكنون منه، وإن كان ذلك موجبا لفظاعتهم وفضيحتهم واتضاح مرامهم وظهور مقاصدهم، لأن ذلك هو المنظور الأقصى. فإذا اطلعت على هذه الخصائص والأحوال منهم، يتبين وجه التشبيه المفرق والمركب على أحسن الوجه. فإبرازهم الإسلام هو ظهور المطر والصيب، ونزول كلمات الشهادتين نزول قطرات الأمطار، وتقارن حالهم النفاقية تقارن تلك الأمطار مع الحوادث الجوية، وغلبة تلك الحالة على إظهار الإسلام في الإفساد، هي غلبة تلك المقارنات الجوية على تخريب الثمرات والمياه النازلة والخيرات المتوقعة، وتحفظهم على أنفسهم في خبايا نفاقهم وزوايا أفعالهم الشنيعة، هي محافظة المصابين على أنفسهم في خلال تلك الظلمات والرعود والبروق والصواعق، الغالبة على مصالح الأمطار والإسلام والإيمان، بجعل أصابعهم في آذانهم حذر الموت والفناء وخوف القتل والانعدام، وتشبثهم بالإسلام مع نفاقهم المعلوم لرئيس الإسلام، عين تشبث تلك الفرقة بجعل أصابعهم بأجمعها في آذانهم، مع أنها تشبه الاستهزاء والهتك، وغفلتهم عن عدم انتفاعهم بنفاقهم من المحكومية بالموت، هو ذهولهم عن انتفاع تلك الفرقة بتلك الطريقة البسيطة عن الموت والمحكومية بالفناء إذا كان يريده الله تعالى. ثم بعد ذلك سقوطهم في الجوامع البشرية عن الاعتبار والاعتماد، وتحيرهم في صنعهم وفيما ابتلوا به من الفظاعة والافتضاح، وتنفر الطباع الإنسانية عنهم، وندامتهم عما صنعوا مع الإسلام والمسلمين، مع عدم وصولهم إلى ما كانوا يأملون، ويعملون ما لا يعنون، راغبين أن يصلوا إلى أقصى مقاصدهم، غافلين عن ذلك كله. وغير ذلك من التخيلات، كلها يشبه في المجموع المركب حال تلك الفرقة المصابة بتلك المصائب، وإن كان فيها صائب من السماء يرجى منه في حد ذاته الخيرات والبركات. والله من ورائهم محيط.

الوجه الرابع عشر: إن إحاطة الله حقيقية اتفقوا على مجازية قوله تعالى: (والله محيط بالكافرين)، لأن الإحاطة في حقه تعالى ترجع إلى الإحاطة العلمية أو القدرة والسلطنة. والحق: أن حقيقة الإحاطة هي الاستيلاء، وهو الأعم من الاستيلاء الصوري، واستيلاء النفس على قواها، أو استيلائه تعالى على خلقه. هذا بحسب مفهوم الاستيلاء والإحاطة لغة وعدم المجازية في المفهوم الأفرادي. وأما توهم المجازية في الإسناد فيأتي تحقيقه في بعض البحوث الآتية، ضرورة أن إحاطة علمه تعالى وقدرته تعالى أيضا غير جائزة، لأنهما عين الذات الأحدية الإلهية، فيرجع نظرهم إلى أن المراد هي إحاطته الفعلية، وتحقيقه يطلب من ذي قبل إن شاء الله تعالى.

الوجه الخامس عشر: حول ذكر إحاطة الله أثناء المثال في وجه تعقيب المثال بهذه الجملة المعترضة بين الجملتين، وقبل أن يتم المثال الثاني، وقد تشتت عبائرهم في توضيح هذه المسألة. والذي يظهر لي: أن المحافظة على أواخر الآي والتفنن بتغير أسلوب الكلام، اقتضيا ذلك، مع أن فيه إشعارا بأن المثال المزبور يطابق مقاصدهم السيئة غير الظاهرة، ولا ينبغي أن يتوهم متوهم: بأن المنافقين ما أبرزوا أمرهم، فكيف يمكن التشبيه بحالهم المخفية؟فإن الله تعالى محيط بأحوالهم وملكاتهم ومقاصدهم وخبايا نفوسهم الخبيثة وغير ذلك. وإشعارا أيضا بأن إرادتهم المحافظة على دمائهم ونفوسهم بالنفاق، أو بجعل أصابعهم في آذانهم، غير كافية لحفظهم عن الخطرات والمهالك، فإن الله محيط بالكافرين. وأما التعبير عن المنافقين بالكافرين، فلما فيه كشف سترهم وتوضيح باطنهم، ولأجل ذلك أتى بالمظهر موضع المضمر أيضا، إيفاء بذلك وتأدية حق الأمر بالنسبة إلى المؤمنين، حتى لا يختفي عليهم شئ من سوء تدبيرهم وقصدهم، خذلهم الله تعالى.


1- روح المعاني 1: 170.

2- تفسير المنار 1: 168 و 172.

3- تفسير المنار 1: 168 و 172.

4- راجع تفسير المنار 1: 168 - 169.

5- الكشاف 1: 82، التفسير الكبير 2: 79.

6- الحج (22): 19.

7- التفسير الكبير 2: 79.

8- نفس المصدر.

9- البحر المحيط 1: 86.

10- التفسير الكبير 2: 79.

11- البحر المحيط 1: 83، الجامع لأحكام القرآن 1: 217.

12- راجع تفسير الطبري 1: 152، والبحر المحيط 1: 84.

13- البحر المحيط 1: 84.

14- راجع تفسير الطبري 1: 150 - 151، والبحر المحيط 1: 83.

15- راجع حول هذه الأقوال تفسير الطبري 1: 150 - 152، والبحر المحيط 1: 83 - 84، والجامع لأحكام القرآن 1: 217.

16- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 150 / 75، وبحار الأنوار 27: 99 - 100 / 59.

17- فصلت (41): 21.

18- تفسير روح البيان 1: 70.

19- المائدة (5): 44.

20- البحر المحيط 1: 87.

21- نفس المصدر.

22- نفس المصدر.

23- البحر المحيط 1: 87.

24- البحر المحيط 1: 87.

25- التفسير الكبير 2: 77.

26- راجع حول الاحتمالات التفسير الكبير 2: 77.

27- البحر المحيط 1: 88.