اللغة والصرف

الآية التاسعة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " أو " " أو " قد ذكر القدماء: أنها تأتي لمعنيين أو لمعان، وعليه يحمل قولهم: إن كلمة " أو " لأحد الشيئين أو الأشياء، ويحتمل أن يكون مرادهم أن " أو " تأتي للتخيير فقط بين الشيئين أو الأشياء (1)، وهذا هو المعنى الأصلي له وربما تأتي لمعنى آخر شاذ، ولذلك أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: " كل شئ في القرآن " أو " فهو مخير، فإذا كان ممن لم يجد فهو الأول فالأول " (2). انتهى. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن جريح، قال: " كل شئ في القرآن فيه " أو " فللتخيير إلا قوله: (أن يقتلوا أو يصلبوا) (3) ليس بمخير فيها " (4). انتهى. وقال الشافعي: بهذا القول أقول (5). انتهى. وقال ابن حيان: لها خمسة معان: الشك والإبهام والتخيير والإباحة والتفصيل، وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو، وبمعنى هل (6). انتهى. وفي أرجوزة ابن مالك: خير أبح قسم بأو وأبهم و أشكك وإضراب بها أيضا نمي (7) انتهى. وفي " المغني ": ذكر لها المتأخرون معاني انتهت إلى اثني عشر (8). انتهى. وفي " الأقرب " أنهاها إلى إحدى عشر، وقال: وإذا جعلت اسما شددت الواو، يقال: دع الأو جانبا (9). انتهى. أقول: إن التحقيق الحقيق بالتصديق أن كلمة " أو " وضعت للدلالة على الترديد فقط، وأما سائر الخصوصيات - ككون المتكلم مرددا واقعا، أو أن التكليف بنحو الترديد، أو يكون الترديد مجازا وادعاء - فهو من المعاني المستفادة من القرائن الخارجية، ومن المناسبات بين الحكم والموضوع، ومن تأمل في الآيات والأشعار المستدل بها على المعاني المختلفة، يحصل له العلم بأن الكل مشترك في معنى واحد، وهو الترديد والتردد، فإذا قيل: (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم) (10)، فإنه وإن يفد شك المتكلم إلا أنه لازم الكلام، لا مدلول كلمة " أو " وإذا قيل: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (11) ف? " أو " وإن يفد الإبهام على السامع إلا أنه من مقتضيات الكلام ومناسبات الحكم فيه، وهكذا التخيير بجميع أقسامه، فإنه لازم الحكم المجعول، وقد تحرر منا كيفية الوجوب التخييري تفصيلا في الأصول، وتعرضنا هناك لمدلول كلمة " أو " أيضا (12). وأما قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (13)، وقوله تعالى: (فكان قاب قوسين أو أدنى) (14) فهو من الترديد في متعارف الكلام، ومن الترديد الصوري والادعائي، وكما لا يعقل الإضراب واقعا في حقه تعالى، لاستلزامه الجهل، كذلك الترديد، فما اشتهر من أن " أو " هنا للإضراب خال عن التحصيل. وهكذا توهم: أن " أو " في قوله تعالى: (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) (15) للتقريب، كما عن أبي البقاء الحريري (16)، فإن مجرد ذلك لا يكفي لتكثير المعنى للكلمات، مع أن التقريب لا معنى له، بل هو الأقرب إلى الإضراب، إلا أن الأصوب ما صوبناه.

المسألة الثانية: حول كلمة " صيب " " صيب ": السحاب ذو الصوب، وجاء في الضرورة " صيوب " من غير إعلال (17). انتهى ما في اللغة. واختلفوا في علم الصرف فقال الكوفيون: أصله " صويب " كفعيل (18). وقال النحاس: لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل (19)، وبذلك قال الفراء (20). وقال البصريون: أصله فيعل، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل، إلا ما شذ في الصحيح، نحو قولهم: " صيقل " بكسر القاف (21). وبالجملة: اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وبين ولين وجيد، قياسا مطردا ويجمع على " صيايب ". ثم إنه يظهر منهم الخلاف في معنى " الصيب "، وهو ناشئ من الخلاف في معنى " الصوب "، فقيل: هو المطر إذا نزل (22)، وقيل: هو كل نازل من علو إلى أسفل (23). وهذا هو الأقرب بعد التدبر في اللغة، وقيل: هو السحاب (24)، وهو صريح اللغة، والمراد من السحاب ذو الصوب أي الصوت. والذي يظهر من مختلف الموارد: أنه السحاب الحامل للأمطار والأصوات حين الإنزال والتصويت، وحيث إن أصله من الإصابة، فكأنه صيب، أي الذي يصيب المطر والرعد. وبذلك ترتفع الغائلة المشاهدة بين كلماتهم.

المسألة الثالثة: حول كلمة " السماء " " السماء " قال في " الأقرب ": هي الفلك الكلي، وما يحيط بالأرض من الفضاء الواسع، ويظهر فوقنا وحولنا، كقبة عظيمة فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب (25). انتهى. وأصله من السمو بالواو، لأنه بمعنى العلو والارتفاع ولا بأس بأن يجمع على " أسمية "، كما عن بعضهم، فإن الجمع وإن يرد الأشياء إلى أصولها، إلا أنها ليست قاعدة كلية، ولذلك يجوز في جمعها السماوات والسماوات. وقال في " القاموس ": السماء سقف كل شئ وكل بيت (26)، وفي شرحه: السماء كل ما علاك فأظلك (27). وبالجملة: اختلفت كلماتهم، ويظهر من موارد الاستعمال: أن السماء موضوع للأعيان الواقعة في جهة العلو والارتفاع، ويشهد له قول الراغب: كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض، إلا السماء العليا، فإنها سماء بلا أرض (28). انتهى. ويدل عليه الآيات الكثيرة الناطقة: بأنه تعالى خلق السماوات والأرض، فالسماوات والسماويات واحدة. وأما توهم أن السماء هي جهة العلو والارتفاع، وإطلاقها على الأعيان الواقعة في تلك الجهة نوع مجاز، فهو بلا وجه ولا يساعد عليه اللغة. نعم ربما يختلج بالبال: أن إطلاق السماء على نفس القمر والشمس والنجوم غريب، ويطلق عليها السماويات، ولكنه مجرد استبعاد لا يرجع إلى محصل، ضرورة أن السماء في مقابل الأرض، وكما أن الأرض عبارة عن العين الخارجية، والأرضيات هي الموجودات في الأرض، كذلك السماء. هذا كله بالنظر إلى اللغة وموارد الاستعمالات في اللغة. وأما السماء في القرآن فهي كما تستعمل في جهة العلو، تستعمل وتطلق على العين الخارجية. فمن الأول: قوله تعالى: (وأنزل من السماء ماء) (29) وأمثالها كثيرة، وقوله تعالى: (كأنما يصعد في السماء) (30)، وقوله تعالى: (بركات من السماء والأرض) (31) وغير ذلك من الآيات الكثيرة. ومن الثاني: قوله: (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) (32)، وقوله تعالى: (سبع سماوات) (33) وأمثاله كثير، وقوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) (34)، وقوله تعالى: (جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) (35)، وقوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) (36)، وقوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها) (37)، وغير ذلك من الآيات المشابهة لها، وربما يطلق أحيانا في بعض الآيات على نفس السحاب، نحو قوله تعالى: (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) (38). والذي هو المهم في المقام حل مشكلة تتراءى أحيانا وهي: أن السماء بمعنى جهة العلو مما لا بأس به، والسماء بمعنى الكرة الخاصة من الكرات السماوية، كالقمر والمريخ وأمثالهما، أيضا غير ممنوع إذا اطلق وأريد، سواء كان من المجاز أو من الحقيقة. وأما إطلاق السماء وإرادة الجسم الآخر المسمى بالفلك، المعروف عند أبناء الهيئة القديمة وأصدقاء بطليمس وأصحابه، أو إرادة الجسم الآخر غير الفلك المصطلح عليه فهو غير واضح، ضرورة أن الجو العالمي والفضاء الأكبر فيه الكرات الكثيرة والمنظومات الصغيرة والكبيرة، وكلها معلقات بغير عمد ترونها، ولا يوجد وراءها شئ آخر حسب العلم والمناظر اليومية. وربما يختلج بالبال: أن القرآن قد تأثر بالهيئة الباطلة القديمة، وكان نظره إلى هداية الناس من غير تصديق معتقداتهم العلمية، فإن من يقوم بإرشاد البشر، وبشارة الطوائف والملل، وسيرهم في الملكوت الأعلى، فلا يهمه الأمور الأخر، وربما كان تصديقهم فيما لا يضر ولا ينفع، أولى وأحسن في وصوله إلى مأموله وبلوغه إلى مقصوده ومرامه، وهو الاهتداء وإخراجهم من ظلمات جهالات الأخلاق والعمل والاعتقادات الخاصة - كأحكام المبدأ والمعاد - إلى نور المعرفة بالله وبرسله وأحكامه. فعند ذلك يصح استعمال " السماء " في ما اعتقدوه من السماوات السبع السيارة، حتى قال الله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقا) (39)، فإنه يقرب من مقالتهم الفاسدة في طبقات السماء وأنها مطبقة بعضها على بعض إلى السماء التاسع والجسم الكلي والفلك الأعلى، وقال: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) (40)، فإنه كان مما يرون بعقولهم، ويعتقدون بذلك حسب ما وصل إليهم من أسلافهم. أقول: هذا أمر لا يجوز في حقه تعالى، وقد ادعى بعض القاصرين: أن جميع القصص القرآنية قصص أخلاقية وتعليمية، من غير نظر إلى صدقها وكذبها، وهذا مما لا يمكن تجويزه في حقه تعالى، مع أنه خلاف الظواهر والتواريخ، وتفصيله في محل آخر. وأما فيما نحن فيه، فما يظهر لي ونشير إليه بإجماله - وتفصيله يطلب من مقام آخر - هو: أن السماء بناء مركب بغير عمد ترونها - وهي الجاذبة العمومية التي لا ترى، كما نص عليها القرآن - وهذا البناء مركب من الكرات المختلفة المتطابقة بحسب السير والمسير ومحال الحركة الدورية، ف? (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)، فهو تعالى جعل سبع سماوات طباقا، أي بعضها فوق بعض بالقياس إلى المركز الأصلي، وهو الشمس، أو بالنسبة إلى المركز الاعتباري، وهو الأرض. وبالجملة: إطلاق السماء وإرادة جهة العلو جائز، وأما في هذه الآيات الشريفة فقد أطلق على الأجرام الفلكية، وهذا أيضا كما أشير إليه جائز، وقد نص عليه في اللغة. وبما ذكرنا يظهر إمكان حل المشكلة المعروفة المشار إليها، وربما يأتي تفصيل آخر حوله بمناسبات اخر.

تذنيب

حول تأنيث وتذكير السماء: قال في " المصباح ": سماء مذكر، وقال ابن الأنباري: يذكر ويؤنث، وقال الفراء: التذكير قليل (41)، وقال الأزهري: السماء عندهم مؤنثة، لأنها جمع سماءة (42). وفي " المفردات ": السماء المقابلة للأرض تؤنث، وقد يذكر ويستعمل للواحد والجمع، كقوله عز وجل: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) (43)، وقال عز وجل: (السماء منفطر به) (44) (45). انتهى. وقال في " شمس العلوم " للقاضي: إن كل مؤنث بلا علامة تأنيث يجوز تذكيره، كالسماء والأرض والشمس والنار والقوس والقدر، قال: وهي فائدة جليلة (46). انتهى. والذي يظهر لي: أن السماء ليست مؤنثة لفظيا، لأن الألف مقلوب الواو، ولذلك يكون منصرفا، فهو من المؤنثات المجازية والسماعية، والأكثر على مراعاة التأنيث معها، ولعل ذلك لأجل التشابه بالمؤنث اللفظي، ولذلك لا يوجد في الكتاب الإلهي مذكرا إلا في مورد (47)، والأمر سهل.

تنبيه

إطلاق السماء على الجو ربما يطلق " السماء " على الجو المتراكم الأزرق المشاهد من بعيد أنه شئ محيط على الأنجم والشمس والقمر، ومن ذلك قوله: (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) (48)، ولكنه - حسب ما يظهر لي - من الاستعمال على طبق الإحساس المتعارف، نظير إسناد الطلوع والغروب إلى الشمس والقمر، حيث إن الحركة المنتهية إلى الطلوع والغروب معلولة الأرض ودورانها، وهذا النحو من الإطلاقات والإسنادات كثيرة، ولابد منها في ظروف الإحساس والإدراك البدوي والتخيل العمومي العامي.

إيقاظ

حول معنى " السماوات " السماء في القرآن مفردا يقرب من 120 موردا، وجمعا 190 موردا، وربما تكون مفردا، ويرجع إليه ضمير الجمع، نحو قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) (49). وفي هذا النحو من الاستعمال إشكال: وهو أن طبيعة السماء - بما هي هي - لا كثرة فيها، كسائر الطبائع، وإنما الكثرة تلحقها لأمور لاحقة بها، ولفظة " السماء " موضوعة لتلك الطبيعة، فحينئذ إن لوحظت الطبيعة جمعا فلا منع من إرجاع ضمير الجمع إليها بالضرورة، وأما إرجاع ضمير الجمع إليها حال كونها مفردة فغير معقول، لأن الضمير ليس إلا للإشارة إلى ما سبق، وما هو السابق ليس إلا الطبيعة الوحدانية، فكيف يعقل الإرجاع المذكور؟وما اشتهر: من حمل هذا النحو من الاستعمال على أن المراد في المرجع هو المعنى الجنسي، غير صحيح، لأن المعنى الجنسي بما هو هو أيضا معنى واحد، وما دام لم تلحقه الكثرة واقعا لا يعقل إرجاع الكثير إليه. وما اشتهر في الأصول: من جعل الطبيعة مرآة لخصوصيات الأفراد غير صحيح، ضرورة أن المرآتية ليست إلا بالجعل والمواضعة، ولا يمكن أن يدل اللفظ الموضوع للطبيعة إلا على ما وضع له. نعم يمكن المجاز، وهو خلاف الفرض. اعلم: أن هذه الشبهة قد مرت في هذا الكتاب مع جوابها في ذيل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) (50) بناء على رجوع ضمير الجمع إلى الألف واللام الموصول، فراجع.

المسألة الرابعة: حول كلمة " رعد " " الرعد ": صوت السحاب (51). وقيل: سمي هذا الصوت رعدا، لأنه يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت (52). وقيل: هو من الإيعاد والتهديد، ففي اللغة: أرعد زيدا: أوعده وهدده (53). والذي هو الحق هو أنه يدل وضعا على الصوت والضجة الخاصة السماوية، وأما مسألة أصل اللغة فهي لا ترجع إلى محصل في تغيير الموضوع له. نعم هو بحث علمي لا بأس به إجمالا. وأما قصة أن الرعد هو الملك الكذائي، فهو لا ينافي المعاني اللغوية، ضرورة أن الملائكة أعم من الروحية والمادية والبسيطة والمركبة، فكما يصح أن يقال: الماء طبيعة سيالة باردة بالطبع معلوم عند الصغير والكبير، يصح أن يقال: ملك اسمه كذا وكنيته كذا، ويفعل كذا وكذا، فلا تخلط. ومن العجيب: إطالة طائفة المفسرين حول معنى الرعد، ونقل كلمات الأقدمين هنا، فكأنهم ظنوا أنهم اختلفوا في المعنى اللغوي، فتوهموا المعارضة. فليضحك عليهم.

المسألة الخامسة: حول كلمة " البرق " " البرق ": وميض السحاب ولمعانه، وبرق خلب لا مطر فيه (54). وقيل: يقال في كل ما يلمع، نحو سيف بارق وبرق وبرق، وإذا قيل (برق البصر) (55)، فهو كناية عن الاضطراب والجولان من التهديد والخوف (56)، ويحتمل إرادة نشو البرق واللمعان حال التشدد، كما شوهد البرق في بعض الأحيان لأجل التصادم والضربة. ثم إن البرق هو نفس الوميض واللمعان، سواء كان من السحاب وغيره، وربما يطلق على الكهرباء. وأما " البراق " فلكونه في السرعة كالبرق اللامع سمي به. وما في " الأقرب ": أنه فوق الحمار ودون البغل، ركبها نبي المسلمين - في قولهم - ليلة المعراج (57). انتهى. فهو مأخوذ من الضعاف، وما كان يتعقل شيئا حوله، والعذر جهله.

المسألة السادسة: حول كلمة " جعل " جعل يجعل جعلا: صنعه وخلقه، والشئ: وضعه، وبعضه على بعض: ألقاه، وجعل القبيح حسنا: صيره. ويجئ بمعنى شرع، فيدخل على الأفعال: جعل ينشد الشاعر. وربما تجئ بمعنى ظن، نحو جعل البصرة الكوفة، أي ظنها إياها، وبمعنى سمى، ومنه: (جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) (58)، أي سماهم، وبمعنى بين (59). انتهى ما في اللغة. وغير خفي: أن كثيرا من المعاني المزبورة يرجع إلى المعنى الواحد عند الدقة. والذي يظهر لي: أن معنى جعل ووضع قريب، وفي جميع الاستعمالات بمعنى وضع. وما اشتهر من تقسيم الجعل إلى الجعل البسيط والمركب، فهو أمر خارج عن محيط دلالة اللفظ، كما تأتي الإشارة إليه. وما اتفق عليه النحاة من: أن " جعل " قد يكون متعديا إلى واحد وأخرى إلى اثنين، وما يتعدى إلى واحد بمعنى خلق، والثاني بمعنى وضع، غير صحيح، فإنه إذا قلنا: (جعل الظلمات والنور) (60)، ولم يذكر وصف عقيبه - كما في المثال المزبور - فهو يفيد تبديل حال العدم إلى حال الوجود بالملازمة، لا بالوضع والدلالة الوضعية، وإذا ذكر عقيبه وصف، نحو (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) (61) فهو أيضا يفيد تبديل حال إلى حال، إلا أنه من قبيل تبديل حال وجودي إلى وجودي آخر، أي جعل الليل في حال لم يكن لباسا في حال صار لباسا، وهكذا، ولذلك نجد أن مادة " جعل " في مرادفاته من سائر اللغات، يستعمل مطلقا بمعنى وضع. ثم إن اختلاف تعديته بالحروف ناشئ من اختلاف المعاني الملقاة، مثلا في هذه الآية تعدت بكلمة " في "، لأن بين الأصابع والاذن معنى الظرفية والاحتواء، وفي قوله تعالى: (جعل لكم الأرض فراشا) (62) تعدت باللام، لأن النظر إلى إفادة الفائدة والغرض، فيدخله لام الغاية... وهكذا. ثم إن هذه المادة قد بلغت موارد استعمالها إلى قريب من أربعمائة مورد من كتاب الله تعالى، وفي جميع هذه المواقف بمعنى واحد. وقولهم: جعل الكوفة البصرة، أي ظن، غير صحيح، فإنه أيضا بمعنى الوضع، فإن من اشتبه عليه الأمر يضع الكوفة مقام البصرة في الأثر والحكم.

المسألة السابعة: حول كلمة " الإصبع " " الإصبع " فيه تسع لغات بتثليث الهمزة والباء، فإن من ضرب الأولى في الثانية يحصل التسع (63)، وقيل: " الاصبوع " أيضا بمعنى الإصبع، جمعه: أصابع، وجمع " الأصبوع " أصابيع (64) حسب القواعد. وقال ابن حيان: جميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام (65)، وأما الإصبع فهي مؤنثة ويذكر، وهي خارجة عن القانون المعروف الآتي في الاذن من قريب إن شاء الله تعالى. وقال في " الأقرب ": الإصبع: عضو مستطيل يتشعب من طرف الكف والقدم (66). انتهى. أقول: ربما يظهر لي: أن أصل هذه اللغة من " صبع " بمعنى أشار، وصبع فلان فلانا: دله عليه بالإشارة، وحيث إن الإشارة تحصل بهذا العضو المستطيل سمي إصبعا وأصبوعا. والله العالم.

المسألة الثامنة: حول كلمة " آذان " " الآذان " جمع الاذن - بضمتين وتخفيف -: آلة السماع مؤنثة، وتصغيرها على أذينة (67)، وهو يشهد على مؤنثيتها، فإن كل زوج من الأعضاء مؤنث، إلا بعضا منها كالحاجب. ويشكل الأمر في الإصبع، فإنه زوج في قبال الوتر، لا في مقابل الفرد، فليتأمل يعرف. والذي يظهر لي: أن الاذن ليس آلة السماع، بل هو المحل الخارج الظاهر، سواء سمع أم لم يسمع، والآلة التي تسمع بها داخله، كما هو معلوم لأهله. فما في " الأقرب " (68) غير تام. ثم إن الأصل في هذه المادة هو قوله تعالى: (وأذنت لربها وحقت) (69)، أي استمعت، فالأذن بمعنى الاستماع، ومن هنا اطلق على المحل المزبور، وقال في " الأقرب ": أذن إليه أذنا: استمع (70). انتهى.

المسألة التاسعة: حول كلمة " الصواعق " " الصواعق " جمع الصاعقة، وهي بمعنى الموت، وكل عذاب مهلك، وصيحة العذاب، والمخراق الذي بيد الملك سائق السحاب، ونار تسقط من السماء في رعد شديد لا تمر على شئ إلا أحرقته. انتهى ما في " الأقرب " (71). وعن الخليل، عن قوم من العرب: الساعقة بالسين (72). انتهى. ولا يخفى أن ذلك من باب قاعدة تبديل الصاد بالسين وبالعكس في الكلمات المشتملة على حروف سبعة، ومنها القاف والراء، ولذلك يقرأ الصراط سراطا، والبسطة بصطة، فلا تختلط. وقال أبو بكر النقاش: صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد، وقال أبو عمرو النحاس: وهي لغة تميم، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة (73)، فلا يكونان لغتين. وقال في اللغة: صعقتهم السماء صاعقة - مصدر كالراعية - ضربتهم بالصاعقة، والصاعقة أصابتهم. وصعق الرعد صعقا: اشتد صوته، فهو صاعق، والرجل صعقا غشي عليه وذهب عقله من صوت يسمعه كالهدة الشديدة، وصعق الثور صعاقا: خار خوارا شديدا (74). انتهى. والذي يظهر لي: أن الصاعقة المصدرية، وفعل " صعق " متخذ عن الصاعقة الاسمية، ومعناها الصوت الشديد المقرون بالبرق، أو الأحجار النارية والمواد المتحجرة النارية أحيانا، وأما المعاني الاخر فكلها لمناسبات مع هذا المعنى، مثلا تفسير الصاعقة بالموت وتوهم أن قوله تعالى: (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) (75) معناه فمات، غير صحيح، بل الصعق أيضا بمعناه، إلا أنه كناية أحيانا عن الموت الملزوم والمعلول له، وغير خفي: أن هذا مما لا يختص بالسماء والسحاب، كما لا يخفى.

المسألة العاشرة: حول كلمة " حذر " حذره يحذر حذرا ومحذورة: تحرز منه، والحاذر: المتأهب المستعد، وفي القرآن: (إنا لجميع حاذرون) (76)، والحذر والحذر: التحرز ومجانبة الشئ خوفا منه (77). انتهى ما في اللغة. قال ابن حيان: الحذر والفزع والفرق والجزع والخوف نظائر (78). انتهى. ولا يخفى ما فيه. والذي يظهر لي: أن الالتزام بأن لكلمة " حاذر " معنى آخر من غير أن يكون له فعل من الماضي والاستقبال، غير صحيح، لبعده جدا. وعلى هذا ربما يطلق الحاذر على المستعد المتهيئ والمتأهب، بجهة أن الخائف والمتحرز مستعد ومتأهب للفرار عما يخاف منه. فما في " أقرب الموارد " (79) ناشئ من الجهالة، مع أن كلمة " لحاذرون " في القرآن ليست بذلك المعنى على ما يظهر من " مفردات الراغب " (80) ولذلك قرئ: " لحذرون ".

المسألة الحادية عشر: حول كلمة " الموت " " الموت ": زوال الحياة عمن اتصف بها (81). انتهى ما في اللغة. وقيل: عرض يعقب الحياة (82). وقيل: فساد بنية الحيوان (83). وغير خفي: أن الخلط بين مفهوم الكلمة لغة وبين حقيقة الموت وآثاره، وأنه أمر وجودي أم عدمي، أو غير ذلك من مباحثه، غير جائز، وما ارتكبه بعض المفسرين من الخلط بين حقائق الرعد والبرق والصاعقة والسماء والصيب والموت وبين مفهومها اللغوي الواضح عند العرف واللغة، في غير محله جدا. والذي يظهر لي: أن التدبر في مشتقات هذه اللغة وموارد استعمالها في الكتاب العزيز كلها، يؤدي إلى أن معناها السقوط عن الآثار المرغوبة، وإذا قيل: ماتت الريح، أي سكنت، فذلك لأن حقيقة الريح هو الاهتزاز، فإذا سكنت فقد سقط أثرها المرغوب فيه وخاصته الطبيعية، وهكذا إذا قيل: ماتت النار، أي لم يبق من الجمر شئ، وإذا قيل: ماتت الحمى، أي سكت غليانها، وغير ذلك، نحو قولهم: مات الثوب، أي بلي، ومات الأرض موتانا ومواتا: خلت من العمارة والسكان، ومات الطريق انقطع سلوكه. فبالجملة: ما اشتهر في معنى الموت، وهو زهوق الروح، أو أنه زوال الحياة... وهكذا، كل ذلك يرجع إلى المعنى الجامع الوحداني، فاغتنم.

المسألة الثانية عشر: حول كلمة " محيط " " أحاط " بالأمر: أحدق به من جوانبه، وأحاط به علما، أي حدق علمه به من جميع جهاته وعرفه، والبحر المحيط: البحر المحدق باليابسة من كل جهاتها. وثلاثية حاط يحوط: حفظه وتعهده، وأحيط به: دنى هلاكه، وهو محاط به، وفي القرآن: (إلا أن يحاط بكم) (84)، أي تؤخذوا من جوانبكم (85). انتهى ما في اللغة. وقال في بعض التفاسير: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: (وأحيط بثمره) (86)، والله سبحانه محيط بالمخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، و (محيط بالكافرين)، أي عالم بهم. دليله: (وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) (87) (88). انتهى. وفي تفسير آخر: الإحاطة حصر الشئ بالمنع له من كل جهة (89). انتهى. والذي يظهر لي: أن كتب التفسير خلطت بين المعنى اللغوي، وبين ما هو المراد الجدي في هذه الاستعمالات، وهذا خلط ناشئ من الخبط كما لا يخفى. وإنما الإشكال: في أن المتفاهم من الإحاطة هو الاستيلاء: إما تكوينا كاستيلائه تعالى على العالم، أو كاستيلاء النفس على قواها، أو اعتبارا كاستيلاء السلطان على المملكة، أو استيلاء الإنسان على منزله وعائلته ودكته... وهكذا. ونتيجة هذا النحو من الاستيلاء هو الإحداق. ويؤيد ذلك: قوله تعالى: (إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) (90).


1- راجع البحر المحيط 1: 83.

2- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 211.

3- المائدة (5): 33.

4- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 211.

5- نفس المصدر.

6- راجع البحر المحيط 1: 83.

7- الألفية، ابن مالك: مبحث عطف النسق، البيت 12.

8- راجع مغني اللبيب: 32.

9- أقرب الموارد 1: 23.

10- المؤمنون (23): 113.

11- سبأ (34): 24.

12- راجع تحريرات في الأصول 2: 137 - 154.

13- الصافات (37): 147.

14- النجم (53): 9.

15- النحل (16): 77.

16- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 209.

17- أقرب الموارد 1: 668.

18- الجامع لأحكام القرآن 1: 216، البحر المحيط 1: 83.

19- الجامع لأحكام القرآن 1: 216.

20- راجع البحر المحيط 1: 83.

21- نفس المصدر.

22- تاج العروس 1: 339.

23- تفسير التبيان 1: 91.

24- أقرب الموارد 1: 667.

25- أقرب الموارد 1: 545.

26- راجع القاموس المحيط: 1672.

27- راجع تاج العروس 10: 182.

28- المفردات في غريب القرآن: 243.

29- إبراهيم (14): 32.

30- الأنعام (6): 125.

31- الأعراف (7): 96.

32- البقرة (2): 22.

33- نوح (71): 15.

34- الروم (30): 25.

35- غافر (40): 64.

36- الرحمن (55): 37.

37- ق (50): 6.

38- الأنعام (6): 6.

39- الملك (67): 3.

40- نوح (71): 15.

41- راجع المصباح المنير 1: 290.

42- تاج العروس 10: 182.

43- البقرة (2): 29.

44- المزمل (73): 18.

45- المفردات في غريب القرآن: 243.

46- راجع تاج العروس 10: 182.

47- وهو في سورة المزمل (73): 18 " السماء منفطر به ".

48- فصلت (41): 12.

49- البقرة (2): 29.

50- راجع الحمد: الآية 7، مبحث النحو والإعراب.

51- راجع أقرب الموارد 1: 412.

52- راجع البحر المحيط 1: 83.

53- نفس المصدر.

54- أقرب الموارد 1: 39.

55- القيامة (75): 7.

56- المفردات في غريب القرآن: 43.

57- راجع أقرب الموارد 1: 39.

58- الزخرف (43): 19.

59- راجع أقرب الموارد 1: 126.

60- الأنعام (6): 1.

61- النبأ (78): 9 - 11.

62- البقرة (2): 22.

63- راجع البحر المحيط 1: 84.

64- أقرب الموارد 1: 631.

65- البحر المحيط 1: 84.

66- أقرب الموارد 1: 631.

67- أقرب الموارد 1: 8.

68- أقرب الموارد 1: 8.

69- الانشقاق (84): 2.

70- راجع أقرب الموارد 1: 7.

71- راجع أقرب الموارد 1: 648.

72- البحر المحيط 1: 84.

73- راجع البحر المحيط 1: 84.

74- راجع أقرب الموارد 1: 648.

75- الزمر (39): 68.

76- الشعراء (26): 56.

77- راجع أقرب الموارد 1: 173.

78- البحر المحيط 1: 84.

79- أقرب الموارد 1: 173.

80- راجع المفردات في غريب القرآن: 111.

81- أقرب الموارد 2: 1250.

82- البحر المحيط 1: 84.

83- نفس المصدر.

84- يوسف (12): 66.

85- راجع أقرب الموارد 1: 245.

86- الكهف (18): 42.

87- الطلاق (65): 12.

88- الجامع لأحكام القرآن 1: 221.

89- راجع البحر المحيط 1: 84.

90- الكهف (18): 29.