التفسير والتأويل على المسالك المختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (صم): يصمون في الآخرة في عذابها، (بكم): يبكمون هناك بين أطباق نيرانها، (عمي): يعمون هنا، وذلك نظير قول الله عز وجل: (ونحشره يوم القيامة أعمى) (1)، (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا) (2) عن الكاظم (عليه السلام) (3). وقريب منه: ما عن " روضة الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام) - في رسالة طويلة إلى أصحابه -: " وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان... إلى أن قال: فإن ذلق اللسان مما يكره الله وفيما ينهى عنه، لدناءة للعبد عند الله، ومقت من الله، وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة، فتصيروا كما قال الله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، يعني لا ينطقون (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (4) " (5)، وفي ذلك شهادة على أعمية الآية في إيضاح حال المنافقين من الكافرين وغيرهم.

وعلى مسلك أصحاب الحديث: (صم بكم عمي) قال السدي بسنده: فهم خرس عمي (6). وعن ابن عباس: يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه (7). وهذا هو المحكي عن أبي العالية وقتادة بن دعامة (8). (فهم لا يرجعون) فعن ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى (9). وكذا قال الربيع بن أنس (10). وقال السدي: أي إلى الإسلام (11). وقال قتادة: (فهم لا يرجعون)، أي لا يتوبون، ولا هم يذكرون (12). وقريب منه: (صم بكم عمي) عن الخير، هكذا عن ابن عباس (13). وعن النبي: " (صم بكم) هم الخرس " (14). وعن سعيد عن قتادة: (صم بكم عمي) صم عن الحق، فلا يسمعونه، عمي عن الحق، فلا يبصرونه، بكم عن الحق، فلا ينطقون به (15). وعن ابن عباس: (فهم لا يرجعون) إلى خير (16). انتهى. وقد ذكرنا مرارا: عدم حجية أقوال هؤلاء المفسرين، مع ضعف الإسناد إليهم. هذا ولا يوجب رأيهم تحديد الآية فيه، وحصرها في حصار خاص، مع أن كثيرا ما يذكر الآراء المتناقضة عنهم، بل عن واحد منهم، فيعلم وقوع الخبط من المروي عنه أو الراوي، فلا تغتر بما في صحف الأولين.

وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب الرأي والنظر: (صم)، أي هؤلاء المنافقون الذين كانوا لا يؤمنون في الحقيقة، ويخادعون الله ويستهزئون بالمؤمنين. وهكذا هم (صم بكم عمي) بالنسبة إلى الآثار المرغوبة من الحواس المعتدلة والألسنة العادلة المهتدية والمشاعر الهداة المرضية، فهم بعد كونهم هكذا لا يترقب منهم العود إلى الفطرة، وإلى أحكام الطينة، (فهم لا يرجعون) عما وقعوا فيه من المفاسد الذاتية والأخلاقية والعملية. وقريب منه: (صم)، أي هؤلاء الطائفة، وإن لم يكن كل واحد منهم أصم وأبكم وأعمى، إلا أنه يصح أن يوصفوا بذلك، لأن شياطينهم الذين خلوا معهم المسلطين عليهم، يستحقون ذلك، والآخرون منهم تحت نفوذهم، فهم (صم بكم عمي) على التغليب، ف? (لا يرجعون) إلى السعادة على التغليب أيضا. وقريب منه: (صم)، أي أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، هم (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) إلى أن يربحوا من تجارتهم بعد كسادها. وقريب منه: (صم)، أي فيهم الصم، فلا يسمعون أن الله تعالى يستهزئ بهم، لا هم يستهزئون، وفيهم (بكم)، فلا يشعرون أن الله تعالى يخدعهم لا هم يخدعون، ولا ينطقون بما في قلوبهم، وكانوا يكذبون ويقولون: آمنا بالله وما هم بمؤمنين، وفيهم (عمي)، فلا يبصرون بما ذهب الله بنورهم، وتركهم في الظلمات، وبأن تجارتهم ما ربحت، وما كانوا مهتدين، (فهم) - أي كل واحدة من هؤلاء الطوائف الثلاث - (لا يرجعون) إلا أن عدم رجوع بعضهم مستند إلى الصمم، والآخر إلى البكم والخرس، والثالثة إلى العمى. وقريب منه: (صم)، أي المستوقد الذي ذهب الله بنورهم ونيرانهم، وتركهم في ظلمات الأرض والجهالة، فلا يبصرون النواحي الحسية ولا الضواحي المعنوية والعقلية، (صم بكم عمي) بالقياس إلى مجموع أحوالهم المادية والمعنوية، (فهم لا يرجعون)، فإن من ذهب الله بنورهم، ومن تركهم الله في ظلمات لا يبصرون فيها، ولا يسمعون ولا ينطقون ولا يشعرون، فكيف يمكن أن يرجعوا ؟! وقريب منه: (صم بكم عمي) في يوم القيامة ونحشرهم عميا وبكما وصما، وهم (لا يرجعون) إلى الدنيا حتى يتمكنوا من اكتساب الهداية، بل لو رجعوا إليها لعادوا لما نهوا عنه، أو هم لا يرجعون بعضهم إلى بعض، لما لا فائدة في ذلك حتى تعود إليهم ويستخلصوا من العذاب. وقريب منه: (صم)، أي وليكونوا - هؤلاء المنافقون - صما بكما عميا، فندعو الله أنهم لا يرجعون، أو وليكن أنهم لا يرجعون، أو فإنهم لا يرجعون، لأن الدعاء المذكور مستجاب قطعا، (فهم لا يرجعون) إلى الهداية والايمان.

وعلى مسلك الحكيم: (صم) بحسب القوى الباطنية وبحساب غاياتها الطبيعية، وهي الهداية إلى الحقائق الواقعية، فيكونوا هم (بكم) على الوجه المزبور فيكونوا (عمي) فلأجل التحقق بهذه الرذائل والأوساخ ولأجل الاتصاف في أفق القلب بهذه الخبائث الرديئة، (فهم لا يرجعون) إلى أحكام الفطرة ومحمولات الطينة، بعد الانحراف عن جادة الاعتدال والطريقة المألوفة، أو هم لا يرجعون ولا يعودون إلى البرازخ والقيامة، أو هم لا يرجعون إلى الدنيا، ولا رجعة لهم، لأنهم قد لبسوا لباس الأعدام، فلا بقاء لهم حتى يرجعوا. وقريب منه: هم (صم) في النشأة الباطنة، وبعد خلع المادة وفي البرازخ والقيامة، وهم الآن محكومون بأحكام البرزخ والقيامة، و (بكم) و (عمي) في النشآت اللاحقة، وهم (لا يرجعون) لا يرجعون إلى مبدأ حركتهم وسيرهم، وإلى ابتداء خلقهم وفطرتهم، ولا يرجعون من الآخرة إلى الدنيا بالضرورة، فإن المتأخر لا يرجع إلى المتقدم. وقريب منه: هم (صم بكم عمي) مجازا بحسب القوى الظاهرية، وحقيقة بحسب القوى الباطنية، أو بحساب يوم حشرهم، وهكذا (فهم لا يرجعون) في هذه النشأة إلى الهداية والسعادة، وإلى الإسلام والإيمان، وأريد بذلك التحريك والتحريض إلى الرجوع والعود إلى الفطرة الأصلية والطينة المخمورة، وهم لا يرجعون في النشآت المتأخرة واللاحقة إلى الهداية والنجاة، لامتناع الرجوع والعود بعد الفراغ عن المادة، وبعد رفض البدن والصيصية بالضرورة.

وعلى مسلك الخبير البصير: أن الجمع بين هذه الرقائق والدقائق بمكان من الإمكان، ولا سيما إذا كانت المعاني بعضها بالنسبة إلى بعض، من قبيل الباطن بالقياس إلى الظاهر، فإن الاختلاف يحصل من اختلاف المنضافات والنسب، من غير لزوم استعمال الواحد في الكثير، مع أن التحقيق جوازه، من غير فرق بين المعاني الحقيقية والكنائية والمجازية، وتفصيله يطلب من محاله.


1- طه (20): 124.

2- الإسراء (17): 97.

3- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130 - 131.

4- المرسلات (77): 36.

5- الكافي 1: 3 - 4 / 1.

6- تفسير الطبري 1: 146، تفسير ابن كثير 1: 95.

7- راجع تفسير الطبري 1: 146.

8- راجع تفسير ابن كثير 1: 95.

9- راجع تفسير الطبري 1: 147.

10- راجع تفسير ابن كثير 1: 95.

11- نفس المصدر.

12- راجع تفسير الطبري 1: 147، وتفسير ابن كثير 1: 95.

13- راجع تفسير الطبري 1: 146.

14- هذا أيضا عن ابن عباس ولم يعلم أنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). انظر الدر المنثور 1: 32.

15- نفس المصدر.

16- تفسير الطبري 1: 147.