الوعظ والإرشاد وعلم الأخلاق
اعلم: أن من المحرر في الروايات القطعية والأخبار المتواترة، ومن المقرر في العلوم العقلية والأخلاقية: أن الإنسان معجون مركب من جهات شتى، ومن تلك التراكيب المرعية في هذه الطبيعة العجيبة، ومن النعوت المخمورة في فطرته الأولية، هو الخوف والرجاء. ولأجل هذه الوديعة يجب عليه أن يخاف ويرجو، فلو خاف بالمرة، أو رجا بالكلية، لما وصل إلى الحدود اللازمة، وإلى المراتب الراقية، ولم يتمكن من الجمع بين الخيرات الحسية والمعيشة الدنيوية والسعادة الظاهرة، وبين الخيرات العقلية والحياة الأخروية والسعادة الأبدية. وعلى هذه الرحى تدور إطارات المجتمعات البشرية، وسياسة المنزل والبلد والقطر والمملكة الواسعة الكبيرة، ولأجل هذه الخصيصة يجب على المرشدين وأرباب الوعظ والهداية، أن يفتحوا في سيرهم أبواب الجانبين وسبل الطريقتين، فلا يقولون بما يحصل منه الرجاء المطلق، ولا بما يخاف منه الناس كلا، بل لابد من المحافظة على الفطرة بذكر الخوف والرجاء. وتفصيل هذه المسألة يطلب من مقام آخر. فعلى هذا الأصل الأصيل يتوجه هنا مشكلة: وهو الحكم بأنهم لا يرجعون من القساوة والبطلان إلى السعادة والحق، ومن الضلالة إلى الهداية، فإن من يجد نفسه في هذه المرحلة من الانحطاط، ويدرك نصيبه من الشقاوة بهذه المنزلة من الدناءة والانحراف، فيخرجه عن حد الرجاء والآمال، فيسقط للأبد في النار خالدا فيها ما دامت السماوات والأرض، وهذه الطريقة غير مرضية من الكتاب الإلهي على ما يظهر منه، فإن كتابكم هذا جامع شتات المنحرفين وشامل شمل المنحطين، وفيه من آيات الرجاء ما لا يعد ولا يحصى، وقد سلك أحسن المسالك في الجمع بين الخطين، وفي مراعاة الوجهين والناحيتين. وبالجملة: هو كتاب الهداية والوعظ الأبدي، وكتاب اللطف والعشق السرمدي بكافة الناس والأنام، على أرقى الوجوه وأحسن الكلام في كل حال ومقام، كيلا تزل لديه الأقدام، حتى الرسل والأنبياء، فضلا عن الأعلام. ولعل سر ذهاب ابن عباس إلى أنه في موقف الذم والاستبطاء - ولا يبعد أن يكون ذلك مأخوذا عن أهل بيت الإسلام - هو الفرار عن توجيه هذه المعضلة والمشكلة، فتكون الآية غير قاطعة بالنسبة إلى الرجاء وعرق الأمل. وهنا وجوه من الكلام، إلا أن الذي يظهر لي: هو أن هذه الآية والآيات السابقة، كما مر ليست مخصوصة بحال طائفة خاصة معلومة الحال، وليست - بعبارة أخرى - من القضايا الخارجية والقضايا المتكفلة بتوضيح أحوال جمع معين حتى يستلزم منه هذه العويصة، خلافا لما يظهر من جمع من المفسرين، اغترارا بظواهر كثير من الأخبار وأقوال السلف، غفلة عن حال الأخبار ووجهة نظر الأقدمين. ثم إن من الدقائق التي فيها: أن الحكم بعدم الرجوع معلق بحسب الواقع على اختيارهم، وأنهم بالاختيار لا يرجعون، نسب عدم الرجوع إلى الإرادة والاختيار، وعلى هذا هم متمكنون من الرجوع إلى الفطرة والهداية على وجه لا يلزم منه كذب القضية الإخبارية، فليتأمل. وغير خفي: أن من الممكن تضحية جمع غفير وقلة قليلة من الناس لأجل الآخرين، ومن المجاز تفدية العزيز للأعز بالضرورة، فلو كان في هذه الكيفية من الإرشاد، وفي اتخاذ هذا المنهج من الهداية والوعظ - بالنسبة إلى طائفة خاصة من المنافقين واليهود - منافع الناس كلا وهداية المسلمين طرا لما كان فيه مناقضة عقلية ولا انحراف عن جادة الإنصاف، فإن دفع الشر الكثير بارتكاب الشر القليل، واجب عقلي بالضرورة. ثم إن مراعاة الحالين الخوف والرجاء في الوعظ والإرشاد، لازم بالقياس إلى من في وجوده من النور شئ، وأما إذا (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) وهم الصم البكم العمي، فكيف يمكن أن يرجعوا إلى دار السعادة وحسن العافية والعاقبة ؟! (كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره) (1) دون هؤلاء الغافلين المبعدين. ففي هذه الآيات إنذار بالنسبة إلى الآخرين، حتى يصونوا من الانسلاك في نسوجهم الباطلة، والانخراط في خيوطهم الكاسدة الفاسدة. فيا أيها الأخ العزيز ويا قرة عيني: إياك ومصاحبة الأشرار، فإن فيها المضار، وعليك بصحبة الأخيار ومرافقة الأبرار، فإن فيها لذات الديار، وخيرات كل دار، وقد سمعت من بعض مشايخي: أن اللذيذ من هذه الدنيئة أمران: حب النساء، وخدمة الأولياء، وقد ذكرنا في بعض محافل الانس ومجامع أهل القلب والذوق: أن من الواجب على السالكين عقد حلقات خاصة في كل أسبوع أو شهر، فإن حلقة أرباب القلوب، تذكرة بالمحبوب، وهداية إلى خير مطلوب، فلو غلبت الشهوات والسهو والنسيان بمرور الأيام وبمصاحبة الأشرار في الشوارع والأسواق، فهي تذوب برؤية أرباب العقل وأصحاب العشق والقلب، فإذا كان المبتدئ السالك يحب العافية التامة والعاقبة الحسنة، فيكون بقلبه ذاكرا لمعشوقه على الإطلاق في جميع الآنات والأيام، وفي كافة الحالات والأزمان، فعليه بتلك الحلقات وإحداثها واستمرارها، قاصدين في تأسيسها تذاكرهم وتعانقهم، وأن يكون واحد منهم يشرق على الآخرين ويضيئهم بالأضواء القلبية والأنوار الروحية، فإن النجاة لا تحصل إلا بالاجتهاد في هذه المبادئ وبالجهاد مع أعدائه. والله خير رفيق ومعين.
1- عبس (80): 10 - 11.