بحوث فلسفية وعلمية

البحث الأول: اشتمال القضايا على النسبة الخارجية من المسائل الخلافية أن القضايا هل تكون مشتملة على النسبة الخارجية زائدة على النسبة الحكمية، أم لا، أو تختلف القضايا؟والذي هو المحرر عندنا: أن المعاني الحرفية - بمعنى النسبة بين الموضوع والمحمول - ليست لها الخارجية النفس الأمرية في قبال وجود الجواهر والأعراض، وتفصيله في محله (1). وقال الوالد المحقق مد ظله بالنسبة إلى القضايا المؤولة، كقوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، فإنها قضية تنفي النسبة التي لولا السلب، لكانت هي ثابتة للموضوع، وأما القضايا الغير المؤولة، كقوله تعالى: (صم بكم عمي) فهي لا تشتمل على النسبة، بل مفادها الهوهوية، وإفادة الاتحاد بين الموضوع والمحمول (2). وعلى هذا تكون هذه الآية الشريفة - بما أنها نزلت بعد قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) - دليلا على وجود النسبة في الجملة الأولى دون الثانية، وبذلك يظهر وجه توصيفهم: بأنهم عمي بعد قوله: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، فإن في ذلك نوعا من الترقي من السافل إلى الأعلى، فإن في الأولى نفى عنهم الإبصار، وفي الثانية أثبت اتحادهم مع العمي، فلا يلزم تكرار ولا خلاف في أسلوب البلاغة بل فيه نهاية الدقة في توضيح أحوالهم الفاسدة المترتبة.

البحث الثاني: حول الحركة من الكمال إلى النقص قد أشير فيما سلف إلى كيفية دلالة هذه الكريمة على الحركة الطبيعية المتدرجة من الكمال إلى النقص، فإن في تقديم الصم على البكم، وهو على العمي، نوع شهادة على أن المنافق المتحرك والفطرة الأولية التوحيدية المتدرجة تتحرك إلى الشقاوة التدريجية، فينسلب الكمالات الأولية عنها بفناء القوة المتوسطة بين الروح والمادة أولا، ثم فناء القوة المتوسطة بين العقل والإحساس، وفي المرتبة الثالثة يصبح أعمى بحسب القلب والبصيرة، فيضعف فيه الوجود وخيراته والنورانية وبركاتها، وتصير فيه الشقاوة بحكم الطبيعة، (فأما الذين شقوا ففي النار) (3)، وتشير هذه الآية، إلى وحدة هذه الحركة السارية في جميع مراحل الصور والطبيعة، لأجل حذف حرف الوسط وحرف الفصل بين هذه النعوت، حتى لا يتوهم المتوهم أن هذه المنازل - التي سكنت فيها طبيعة المنافقين وأهل الضلالة - متكثرات بحسب الخارج وبينها الفواصل الخارجية، بل هي طبيعة وحدانية وجوهر فرداني، متحرك نحو الغاية المسانخة معها بسوء الاختيار وبالإرادة الاختيارية. ويؤكد تلك الدلالة الآيات الأخر، المشتملة على توضيح هذه النعوت بتقديم الصم على البكم، وهو على العمى في هذه النشأة وفي الحركة الغريزية المادية، وهكذا الآية المشتملة على عكسها المبينة لحالهم يوم القيامة، نحو قوله تعالى: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) (4)، فإن في القيامة تكون الآثار على العكس، ويتقدم أثر الشقاوة الذاتية العقلية على الشقاوة الخيالية والوهمية، وهي على الشقاوة الإحساسية العملية. ثم إن من الآيات ما يشتمل على الوصفين، كقوله تعالى: (لم يخروا عليها صما وعميانا) (5)، وقوله تعالى: (صم وبكم في الظلمات) (6)، وقوله: (لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) (7)، وقوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم) (8)، وقوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) (9)، وفي ذلك أيضا نوع شهادة على المسألة المزبورة، فليتأمل.

البحث الثالث: حول عدم عمومية المعاد نسب إلى الإفريدوسي اليوناني: أن المعاد مخصوص بطائفة من المستعلين الواصلين إلى مقام إدراك الكليات العلمية والحقائق الواقعية (10)، فيكونوا ذات ذوات بهجة ونورانية، ومن أرباب السلوك إلى مقام الإنسانية، ولا يحشر من في حكم الدواب والأنعام، ومن كان في ضلال مبين. وربما يستشم من هذه الآية الشريفة ما يؤيد هذه المقالة، حيث رتب على أنهم الصم البكم العمي، وأنهم لا يرجعون، والمنصرف من الرجوع في الكتاب الإلهي، هو الرجوع إلى البرازخ والقيامة الكبرى والعظمى، فتكون هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: (وإلى الله ترجع الأمور) (11)، وقوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) (12) وغير ذلك من العمومات. إن قلت: هذه الآية تنافي الآية المشار إليها في سورة الإسراء قوله تعالى: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) (13). قلت: ربما ترجع تلك الآية إلى حال المستكملين في الكليات العقلية، الذين لم يهتدوا إلى الشرائع الحقة، بخلاف المنافقين الذين هم أراذل الأمة علما وأسوأ الدواب عملا، فإنهم صم بكم عمي، فهم لا رجعة لهم، ضرورة أن الرجعة لا تكون إلا للعقل بالفعل، وأما العقل الهيولائي، فهو عين القوة والاستعداد، فيكون في حكم العرض، فلا يكون قابلا للبقاء بنفسه، فيضمحل بخراب البدن وبوار الجسم. أقول: سيمر عليك تحقيق هذه المسألة في ذيل الآيات الأخر إن شاء الله تعالى. وخلاصة الكلام: أن جميع الموجودات في قوس الصعود، وهي في حال الرجعة إليه تعالى، إلا أن منها من يكون لرجوعه الدوام والبقاء، ومنها ما يرجع إلى حد خاص، وأما النفوس المحركة الدراكة، فهي وإن كانت قوة العقل بالفعل، ولكنها صورة فعلية للبدن، وجوهرة مستقلة في الذات دون الفعل، فيصح له البقاء بدونه فعلى هذا تكون الآية ناظرة إلى معنى آخر من الرجوع، وهو الرجوع إلى الهداية، أو الرجوع إلى الفطرة من الضلالة والقساوة، وسيتضح ذلك من ذي قبل إن شاء الله تعالى.

البحث الرابع: حول انتفاء الحركة في الآخرة من المسائل المحررة في الكتب العقلية: أن الدار الآخرة لهي الحيوان، وليست هناك مادة تحمل الخبائث والإمكانات الاستعدادية، فلا تكون هناك حركة وخروج من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، بل كل الأشياء هناك تتجلى على فعلياتها اللائقة بحالها، ولا حالة منتظرة لها. ولتحقيق المسألة مقام آخر يجمع به بين مقتضى البراهين العقلية والشواهد النقلية، ضرورة أن قضية جمع من الآيات والأخبار هي الحركة، وهي لا تعقل إلا بحمل الصورة قوتها، والقوة العرضية تنتهي إلى القوة الجوهرية المسماة بالمادة والهيولي، فتصير الآخرة دنيا والمتقدم متأخرا. نعم قد تحرر عندنا في قواعدنا الحكمية إنكار جوهرية الهيولي، وقصور الأدلة عن إثباتها، وذكرنا: أن القوة محمولة الصورة الفعلية، ويكون التركيب انضماميا، وفي النشأة الآخرة يمكن أن تكون الصورة حاملة الهيولي، بل القوة والفعلية من الأمور النسبية، ويكون الواحد فعلا بالقياس إلى حاله الموجودة، وقوة الشئ الآخر بالقياس إلى حاله الآتية. وبالجملة: هذه الآية الكريمة - بناء على اختصاصها بأحوال المنافقين في الآخرة - تكون شاهدة على انتفاء الحركة في النشأة العليا وفي الآخرة، ضرورة أن الرجوع يتقوم بالحركة، وإذا كانوا غير راجعين، ويحكم عليهم بعدم الرجوع هناك، فيعلم منه انتفاء الحركة. وعلى هذا تندفع بعض الشبهات الاخر. ولكن الشأن أن الآية أعم حسب الأظهر وإن ورد في أخصيتها الخبر، فتدبر. اللهم إلا أن يقال: بأن الاستدلال المذكور يمكن أن يتم على القول بالأعم أيضا، فافهم.


1- راجع تحريرات في الأصول 1: 84 وما بعدها.

2- راجع تهذيب الأصول 1: 12 - 14 و 22 - 25.

3- هود (11): 106.

4- الإسراء (17): 97.

5- الفرقان (25): 73.

6- الأنعام (6): 39.

7- محمد (47): 23.

8- الأنفال (8): 22.

9- الزخرف (43): 40.

10- انظر الأسفار 9: 147.

11- آل عمران (3): 109.

12- العنكبوت (29): 57.

13- الإسراء (17): 97.