البلاغة ووجوه المعاني

الوجه الأول: حول حذف العاطف والمبتدأ حذف العاطف والمبتدأ، مضافا إلى أن في ذكرهما خروجا عن الوزن المطبوع والصوت الموزون، إيماء وإشعار إلى توغلهم في هذه الأمور، وإرشاد إلى نشاط المتكلم في توصيفهم بهذه النقائص الروحية والجسمية أحيانا، فكان الإيجاز في المقام أوفق بأسلوب الكلام.

الوجه الثاني: حول كون الآية إخبارية بناء على قراءة الرفع تكون الآية ظاهرة في الإخبار، مع أن الإخبار بعدم الرجوع لا يناسب الإنشاء، كما لا يخفى، ولا سيما بملاحظة مفاد الفاء المفيد للترتب، وأن الجملة الأولى في حكم السبب والعلة لعدم الرجوع، فتأويل الآية بشكل الدعاء، نحو " وليكونوا هم صما "، كتأويلها نحو " وليكونوا صما " أو هم صم إلى آخره، غير جائز في شريعة البلاغة جدا.

الوجه الثالث: حول اشتمال الآية على إخبارات مترتبة على السابقة الظاهر أن هذه الآية إخبارات، ولا يكون قوله تعالى: (بكم عمي) وصفا لقوله: (صم)، كما أن الأظهر أنها إخبارات عن أوصاف المنافقين، وليست من تتمة التمثيل، فليس المقصود أن المستوقد الذي ذهب الله بنوره هو الأصم الأبكم. وأيضا إن الظاهر أنها إخبارات تستوعب المنافقين السابقين، ولا يكون بعضهم أصم، وبعضهم أبكم وأعمى، بل كلهم صم بكم عمي، وكلهم لا يرجعون. ويظهر من بعضهم: أنه تمثيل ثان، والذي يأتي تمثيل ثالث، فقد مثلوا في هذه الآية بالذين هم صم بكم عمي والذين فقدوا هذه الحواس (1). والذي هو الأقرب: أنه بحسب المعنى من آثار الآية السابقة، وليست مستقلة في النظر والتمثيل، فإنه إذا كانت حال المنافقين المتشبهين بالمسلمين، حال المستوقد نارا الذي أضاء حوله بناره وبإظهاره الإسلام، فلما ذهب الله بنورهم ونيرانهم، وقعوا في الظلمات المادية والحسية والعقلية، فلا يبصرون ولا يسمعون ولا يدركون شيئا، وليس لهم البصيرة في أمرهم، فهم البكم العمي، فهم - بعد هذه الكارثة والمصيبة الشاملة، السارية في أعماق حياتهم الفردية والاجتماعية - لا يرجعون، وكيف يرجعون ؟! وأنى يرجعون وهم في هذه الحالة وبتلك الآفة ؟! ولأجل هذا الربط الواضح توهم جمع منهم: أن هذه الآية من تتمة الآية السابقة، وليست مستقلة، كما أشير إليه في صدر المباحث السابقة، وحذف حرف العطف والمبتدأ أيضا يوهم ذلك، ولا سيما بعد الإتيان بأداة التمثيل في الآية التالية، فدعوى أن هناك أمثالا ثلاثة غير متينة.

الوجه الرابع: حول كون الآية مجازا وادعاء اختلفوا في أن هذه الآية على مبنى الحقيقة، أو المجاز والاستعارة، ثم على الثاني في أنه من أي أقسام الاستعارة: فقال بعضهم: بأنها حقيقة، وذلك لأن السمع والبصر لكل منهما كوة إلى الخارج، وكوتان من جهة الباطن إلى عالم الملائكة وعالم الجنة، وكوتهما إلى عالم الملائكة ذاتية، وكوتهما إلى عالم الجنة عرضية، وختمهما عبارة عن سد كوتيهما إلى عالم الملائكة، فالصمم والعمى عبارة عن سد الكوتين اللتين هما إلى عالم الملائكة، بحيث لا يسمع من المسموعات جهتها الحقانية التي تؤدي إلى عالم الملائكة، ولا يسمع من عالم الملائكة ولا من الملك الزاجر، ولا يبصر من المبصرات جهتها الحقانية. فعلى هذا تبين: أنهم الصم البكم حقيقة، وهكذا حكم البكم لذهاب إدراكهم الخيالي عن قيمومة العاقلة، وعقلهم الجزئي عن سلطان العقل الكلي الفعال (2). وقال الآخرون بالمجازية، ومنهم من قال: هذا من التشبيه البليغ، وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون (3). وقال بعضهم: بالاستعارة (4)، ولعل ذلك على مبنى جواز التغافل عن ذكر السلف. وقال آخرون: بجواز الأمرين (5). والذي هو الحق الصريح: ما عرفت منا في محله، وحررنا تفصيله في علم الأصول: أن أساس المجاز بمعنى استعمال الألفاظ في غير ما وضع له غلط جدا (6)، وإنما حقيقة المجاز هو التلاعب في عالم المعنى، من غير استعمال اللفظ إلا فيما هو الموضوع له، ففي أبواب التشبيه عند حذف أداته، وفي باب الاستعارات بأقسامها المفردة وغير المفردة، يكون استعمال اللفظ فيما هو الموضوع له، كما في أبواب الحقيقة بلا زيادة ونقصان. نعم إنما الفرق بينهما في محيط خارج عن أفق الاستعمال والوضع، وهو أفق المعنى، وأن المتكلم الفصيح البليغ لمقاصد خاصة، ولأغراض سياسية أو شعرية ذوقية، يشرع في التلاعب في عالم المعنى والموضوع له، بتوسعة المعنى وادعاء أن للمعنى عرضا عريضا، وإن في قوله تعالى: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (7) يريد درجة في سلسلة الملائكة بحسب الحقيقة والطبيعة، وإذا كان يرى ذلك في هذه النظرة وبهذه النظرة، فعليه أن يسلب عنه البشرية. وفيما نحن فيه أيضا كذلك، فإنهم بعدما كانوا على تلك الحالة الدنيئة الفاسدة الحيوانية، أو الأسوأ منها، فلا يمكن أن يحكم عليهم بأنهم يسمعون ويبصرون وينطقون ويدركون ويعقلون، فإن من لا نفع له في سماعه، ولا في بصره ونطقه، ولا في إدراكه، فليس إلا الصم البكم العمي واقعا ادعائيا، فلا مجاز بمعناه المعروف، ولا تشبيه ولا استعارة، بل هي حقيقة، ولكن لا بإرادة المعنى الموضوع له إرادة أصلية جدية، بل بإرادة التجاوز من المعنى الموضوع له إلى المعنى المنسلك فيه في عالم الادعاء والتلاعب، ولأجل هذا التجاوز عد مجازا وقنطرة. ومن هنا يظهر سقوط البحوث المشار إليها، والبحوث المماثلة لها في كتبهم الأدبية والتفسيرية وغيرها.

الوجه الخامس: حول إثبات العمى ربما يتخيل: أن قوله تعالى: (عمي) بعد قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) خلاف أسلوب البلاغة، فإن نفي الإبصار عنهم عين إثبات العمى، والكل على مبنى الادعاء، وليس عدم إبصارهم حقيقة وعماؤهم مجازا ولا العكس، فكان الأولى أن يقال: صم بكم فهم لا يرجعون، حذرا عن التكرار، وإرشادا إلى أنها من تتمة نعتهم السابق، وهو العمى وعدم الإبصار. وبعبارة أخرى: البلاغة في المقام تحكم بالإيجاز ولذلك حذف حرف العطف والمبتدأ، ودعوى: أن قوله تعالى: (تركهم في ظلمات لا يبصرون) من تتمة المثال، وقوله تعالى: (صم بكم عمي) بيان لحال الممثل له والمنافقين، فلا يلزم خلاف الإيجاز ولا التكرار، غير صحيحة عند الأكثر، وقد تبين: أنه تبيان وجامع لكل من حالات المثال والمنافقين، فيكون ذكر العمى من ذكر الخاص بعد العام على وجه لا يستحسن إنصافا. والذي يظهر لي: أن قوله تعالى: (تركهم في ظلمات لا يبصرون) لا يثبت إلا العمى بالعرض، أي أنهم لا يبصرون لأجل المانع، وهو الظلمة، أو لأجل عدم المقتضي، وهو عدم وجود النور والاستنارة، التي من شرائط الإبصار والبصيرة. وقوله تعالى: (صم بكم عمي) دليل على أنهم بذواتهم - وعلى نعت الاشتقاق - لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون، فيكون عدم الإبصار لعدم الاقتضاء الذاتي، ولوقوعهم في ظلمات الجهالة والضلالة والشقاوة الطارئات على ذواتهم الخبيثة، وهذه النعوت الرذيلة توجب عدم رجوعهم. فبالجملة: تحصل أن الآية ليست خلاف الإيجاز، ولا تستلزم التكرار، وتكون النتيجة هكذا: " وتركهم في ظلمات فقدان الحواس الظاهرة، فلا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون "، واكتفى هنا بذكر الأخيرة، لما أن جملة (في ظلمات) ربما تفيد حذف ذلك صم بكم عمي بالاستحقاق الذاتي، فيكون المنافق متحد الذات مع الأصم والأبكم والأعمى، لوصولهم في الانحطاط والتنازل إلى حدود الأعدام التي يحكم عليها: بأنهم لا يرجعون.

الوجه السادس: حول ترتيب الأوصاف يشعر ذوو العقل والفهم أن في تقديم الصم، إشارة إلى فقد الحد الوسط بين عالم المادة والإحساس وعالم التجرد، وفي تقديم البكم على العمي، إيماء إلى أن بعد فقد الحاسة المتوسطة، تصل النوبة في الحركة التضعفية، وفي السفر إلى الحيوانية والأنعامية، إلى فقد القوة المتوسطة بين عالم العقل والنورانية وعالم الإحساس والتحريك، وفي تأخير العمى عنهما، رمز إلى أن العمى آخر منازل السقوط والوقوع في الظلمات وعالم الأعدام، وفقد النورانية والتعقل والبصيرة والطينة الإلهية والفطرة المخمورة، ولذلك رتب عليه الحكم بأنهم لا يرجعون على نعت الإخبار والإعلان عن الواقعية الضالة المضلة، وستأتي الإشارة إلى هذه المائدة في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

الوجه السابع: حذف العاطف بين الصفات حذف الحرف العاطف في تعديد الأشياء جائز، ولا سيما في الأشعار كقول ابن مالك: هاك حروف الجر وهي: من إلى حتى خلا حاشا عدا في عن علي (8) إلى آخره. وأما في غير المقام - ولا سيما في النثر - فقليل، ولذلك احتملوا أن تكون الجملة من الخبر بعد الخبر. والذي يظهر لي: أن إثبات نعت لموضوع على نحوين: أحدهما: أن الموضوع موصوف به من غير استتباعه لشئ آخر، ومن غير تلازم بينه وبين سائر النعوت والأوصاف. ثانيهما: ما لا يكون كذلك، فإذا كان الأمر هكذا، فربما يكون الكلام مشتملا على دال يدل على كيفية الوصف المذكور من الاستتباع وعدمه، مثلا: فيما نحن فيه لا يوصف المنافق بالأصمية، إلا وهذه الوسمة والصفة تستتبع النعوت الاخر المسانخة معها في الرذالة والشقاوة، وهي الأبكمية والأعمائية، فلو أريد إفادة هذه البارقة وتلك المصيبة والحيرة المخصوصة بهم، فلابد من أخذ طريقة خاصة تشعر بها، فينادي: صم بكم عمي، من غير فصل بينهما، ومن غير إمكان التفكيك بين هذه الثلاثة في حق المنافقين الساقطين، فنفس الاتصاف بالصمم يلازم الاتصاف بسائر الرذائل، بعد كونهم من المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

الوجه الثامن: حول تصدير " هم لا يرجعون " بالفاء في تصدير الجملة الأخيرة بالفاء الدالة على الترتب والتسبب، وأن علة عدم رجوعهم أنهم صم بكم عمي، إشعار بالسنخية بين الثلاثة والأخيرة. ويستفاد منه أن عدم الرجوع من آثار المنقصة والضلالة وفقدان الحواس والعاقلة على الوجه اللائق، من غير فرق بين كونهم من المنافقين الكافرين، أو من المنافقين المؤمنين بالإيمان الظاهري والإسلام غير الراسخ في قلوبهم، أو من غيرهم، فمن حذف المبتدأ ربما يستفاد أن علة عدم الرجوع نفس الصم والبكم والعمي، من غير دخالة شئ آخر، وهو النفاق والكفر، فاغتنم جيدا.

الوجه التاسع: في الإتيان بالفاء ربما تشعر الفاء المذكورة بأن المحذوف أيضا هي الفاء، وأن بين الجمل سنخية العلية والمعلولية، فتكون الآية هكذا: " صم فبكم فعمي، فهم لا يرجعون "، وقد أشرنا إلى كيفية الترتب بين مفاد الجمل. وأما ما يذكر: من أن تقديم الصم لأجل أنه سبب البكم والخرس (9)، فهو لا يتم بالقياس إلى ما بعده. اللهم إلا أن يقال: بأن المراد من العمى أعم، فيشمل عمى القلب عن الانتفاع بالمسموعات بالنطق، فلا يخفى لطفه. ثم إن هنا دقيقة لفظية ورعاية لطيفة: هي مراعاة أواخر الجمل بإتيان " العمي " ثالثا، حتى تختم الجمل بالميم، فكأن الآية تكون هكذا: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون). هذا، مع أن معنى الصمم يناسب المقام، وكأنه استعملت لفظة " صم " مركبة في معناه، فأريد به - ف - هم، وأيضا أريد به الصمم، ويكون فاعل عمى بمعناه المصدري، ويرجع مفاد الآية بناء عليه إلى قوله تعالى: (لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (10)، فليتدبر جيدا وجدا.

الوجه العاشر: حول أعمية الآية من الدنيا والآخرة ربما يظهر من بعض الأخبار الآتية، ومن اختيار بعض المفسرين (11): أن الآية تحكي أحوالهم يوم القيامة، فهم صم بكم عمي في القيامة، نظرا إلى قوله تعالى: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) (12)، فتكون الآية على الحقيقة، ويستظهر من قوله تعالى (فهم لا يرجعون) أنها تحكي عنهم في الدنيا. والتحقيق: أن الآية من هذه الجهة يمكن أن تكون أعم، ولا يعارضها الخبر، كما لا يخفى.


1- تفسير المنار 1: 168 وما بعدها.

2- راجع تفسير بيان السعادة 1: 61.

3- راجع الكشاف 1: 77.

4- روح المعاني 1: 169.

5- راجع روح المعاني 1: 169.

6- راجع تحريرات في الأصول 1: 141 وما بعدها.

7- يوسف (12): 31.

8- الألفية، ابن مالك: مبحث حروف الجر، البيت 1.

9- روح المعاني 1: 169.

10- الحج (22): 46.

11- البحر المحيط 1: 82، روح المعاني 1: 170.

12- الإسراء (17): 97.