تفسير الآية 43 والآية 44

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ (النور/42) ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ (النور/43).

هاتان الآيتان تتألف الأولى منهما من جملتين، وهي بمثابة تتمة لما ورد في الآية التي سبق تفسيرها ومفاد هاتين الجملتين "وهي بمثابة تتمة لما ورد في الآية التي سبق تفسيرها. ومفاد هاتين الجملتين ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ هو أن كل شيء لله وتحت أمره وليس ثمة موجود خارج إرادته ونفوذه وقدرته والجملة الثانية هي ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ كلمة "المصير" مشتقة من الصيرورة، أي التبدل والتحول من حالة إلى أخرى، كقولنا صارت النطفة علقة، وصارت العلقة مضغة، وصارت المضغة عظاما، إلى أن صارت جنينا، وصار الجنين صبياً، وصار الصبي رجلاً. عالمنا هو عالم الصيرورة. فلو أخذنا بنظر الاعتبار قطعة خشب، فهذه الخشبة التي نراها اليوم لم تكن خشبة على الدوام بل كانت شيئا آخر ثم صارت "خشبا"، وهذا الخشب لن يبقى على هذه الحالة على الدوام وإنما سيتحول إلى شيء آخر.

والسؤال الذي يعرض على الأذهان هنا هو ما نهاية هذه التبدلات والتحولات التي يصبح التراب 0على أثرها إنسانا، والإنسان ترابا، والماء والتراب والهواء شجرة وتصير الشجرة حيوانا، ويصير الحيوان إنسانا؟ وإلى أين ستنتهي؟ وهل تبقى مستمرة بلا هدف؟ أم أن هذه الصيرورات تنتهي إلى الله، وهذه هي حقيقة المعاد؟ والواقع أن الآية: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ هي تعتبر عن هذه الحقيقة ومفادها هو نفس الآية الكريمة التي أمر القرآن أن يتلوها من يسمع بمصيبة، وهي، ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ (البقرة/156).

مع فارق أن تلك الآية فيها "إنا" التي يوحي ظاهرها أنها خاصة بالإنسان، بيد أن هذه الآية ليس فيها شيء يوحي باختصاصها بالإنسان. وتقول أن كل شيء لله ومن الله، وربما أن كل شيء من الله، فهذا دليل على أن كل شيء يؤول إليه من جملة الأدعية التي يستحب قراءتها بين تكبيرات افتتاح الصلاة وهي التكبيرات الستة التي يستحب أداءها قبل تكبيرة الإحرام هو الدعاء التالي: "لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، عبدك وابن عبدك، ذليل بين يديك، منك وبك ولك وإليك ".

التوحيد معناه: منك وبك ولك وإليك. وجاءت الآن في هذه الآيات من سورة النور اثنان منهما، وهما: "لك" و"إليك" ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ ويبدو أن هذه الآية تعليل للآية السابقة، ليكون المعنى أن جميع الموجودات تسبح لله وتحمده لأنها منه وإليه وإلى هذا فإن وجودها تسبيح، وصيرورتها تسبيح، وحركتها تسبيح. أي بما أنها منه، فهي صائرة إليه.

والآية اللاحقة حتى وان كانت تتحدث عن كيفية نزول الأمطار- من تكاثف الغيوم وهطول المطر والحالوب وخصائصه - وهو ما يعتبر من جملة أعجاز القرآن، إلا أنني لا أتناولها بالبحث حاليا، وإنما أرجاؤها إلى المجلس القادم بإذن الله. وطالما كنا نتحدث في موضوع تسبيح الكائنات وعودتها جميعا إلى الله، رأيت أن أعرض موضوع أخر.

أن للدين رسالة لا يستطيع غيره النهوض بها، أي لا يستطيع العقل والعلم والفكر البشري أداء هذه الرسالة. ولو كان بميسور العلم والعقل البشري أداءها لاُنيطت به، ولما بعث الأنبياء. لقد منح الإسلام للعقل البشري أهمية فائقة وكذلك للتفكير والعلم والتجربة والمشاهدة، وهو ما عبر عنه القرآن بالسير في الآفاق والأنفس. ولكن ليس معنى هذا أن العلم والعقل والتجربة - مهما بلغ بها التقدم - ستصبح قادرة على تقديم الدلائل التي يقدمها الدين عن الكون والإنسان، وإنما هذه رسالة الدين وحده. وما يشاهده الإنسان إنما هو حقائق بينها الدين وأيّدها العقل والعلم. أي كمال قال "ويليم جيمس": أنها جاءت من بعد توجيهات الدين، أي بعد ما عرض الدين حقائقا انطلق العلم ليستطلع حقيقة الأمر، وقد عثر على الأدلة المؤدية لصدقة.

وهذه هي أحد المهام التي يضطلع بها الدين، والتي تغير - حسب المصطلح العصري - رؤيتنا الكونية، أي تغير من نظرتنا للكون، فالعالم الذي نلمسه بحواسنا وندركه بعقولنا عالم من نوع أخر غير العالم الذي يرينا إياه نور الوحي. والحقيقة أنه نفس العالم ولكن بنسيج أعمق.

الوحي يقول لنا: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ .وكذلك يعرض لنا أشياء عن الإنسان. وهذا هو الأمر الأكثر أهمية. الإنسان لديه عين وأذن، وحاسة ذوق، وحاسة شم، وحاسة لمس، وعقل وفكر ولا شيء غيرها. ولكن الأنبياء يأتون ويقولون لنا: أيها الإنسان أن الكامن من وجودك أكثر من الظاهر منه. ولإيضاح هذا الموضوع أكثر أعرض في ما يلي مثلا شعيبا، ثم أتبعه بموضوع علمي.

أتذكر حينما كنا صغارا كانوا يعبرون عن الأطفال المحتالين جدا بأن ما يختفي منه تحت الأرض اكثر مما تراه منه فوق الأرض. ومعنى هذا أنه أكبر من هذا الحجم بكثير، وأكثر حيلة وذكاء. كان هذا هو المثل الشعبي.

توصل العلم الحديث إلى هذه الاكتشاف بشأن روح الإنسان. إذ كانوا يتصورون قديما إن جسم الإنسان هو هذا الذي يراه، وروحه هي التي يستشعرها في سره وفي ضميره، وبما أنه مطلع على ما في قرارة نفسه ما في سره وضميره، فهو وأن كان جاهلا بشيء آخر، غير جاهل بذاته. إلا أن علم التحليل النفسي أثبت أن جانبا صغيرا من روح الإنسان ظاهرا إما الغالبية العظمى منها فخافية على نفسه. ويمثلون لذلك بقطعة ثلج تلقي في حوض ماء فالظاهر منها هو الظاهر من روح الإنسان والمغمور منها كالجزاء المغمور من روح الإنسان. ويسمى الجزء المخفي من ورح الإنسان بالشعور الباطن الذي يخفي ما يه حتى على الإنسان ذاته أحيانا. وينم عما في مكنونه أحيانا عند رؤية المنام أو عند الغضب.

للشاعر المولوي آراء في علم النفس تثير الدهشة. وبالرغم من أن علماء التحليل النفسي اكتشفوا هذه النظرية في القرن العشرين إلا أن هذا العارف وعارفين آخرين كانوا على اطلاع بأمثال هذه الأمور. يقول المولوي: أيها الإنسان لا تتوهم أنك قد عرفت باطن نفسك جيدا. ثم يورد أبياتا من الشعر مفادها أنك إذا خلعت ثيابك يوما ما واردت الاغتسال بماء النهر ووجدته قد راق وصفا وليس فيه كدورة ودخلت فيه وأحسست بوخزة فاعلم أ ن هناك شوكة قد نغزتك ولكنك لم تكن على علم بها، ولا يمكنك أن تراها، لكنك تشعر بها من خلال الألم الذي أصابك منها.

ثم يقول: أيها الإنسان إذا تصورت نفسك أحيانا أنك نقي وطاهر لا عيب فيك ولا نقص، ولكن لو دققت النظر لفهمت من وخزة أن في ذاتك أشياء لا علم لك بها.

ويذكر مثلا آخر يشبه فيها الإنسان بحوض ماء رسبت فيه أوساخ كثيرة ولكن إذا جاءه الإنسان صباحا وجده صافيا نقيا لا شائبة فيه، غير أنه ما أن تشرق الشمس وتشتد حرارتها حتى يطفو ما كان راسبا فيه وتظهر الأوساخ والقاذورات حتى أن الناظر لا يصدق أن أمثال هذه الأوساخ كانت راسبة في قعره. وأنت أيها الإنسان تنظر أحيانا إلى نفسك فتحمد ربك على ما تراه من صفائها ونقائها وخلوها من الرذائل، ولكنك واهم في تصورك هذا. دع الشمس تشرق، أو إذا مسك ضرّ أو شعرت بأي انزعاج حينها ستعرف ذاتك وترى أي رواسب في أعماق نفسك تطفو على السطح حين الغضب وتتجسد على هيئة شباب وشتائم أو على هيئة الغيبة والتهمة وما شابه ذلك.

ومرادي من هذا أن أقول أن العلم الحديث كشف أن روح الإنسان بعضها ظاهر له والقسم الأكبر منها خاف عليه. جاء في القرآن الكريم: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه/7).

سئل أحد الأئمة: ما أخفى من السر؟ قال: أن يكون في روحك شيء لا تعلمه. وجاءت في دعاء كميل جملة تجسد هذا المعنى تماما، وهو قول على (عليه السلام) اللهم إن في مساوئ يعلمها الملائكة الموكلين بالرقابة عليّ، ولكن: "وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم " أي أن في أعماقي أشياء لا تدركها، وأنت وحدك الذي تعلمها.

وإنما ذكرت هذا المثل الشعبي، وهذا الاكتشاف العلمي الذي توصّل له العلماء حديثا حول المقدار الخفي والمقدار الظاهر من ورح الإنسان، لأجل القول أنّ روح الإنسان ليست وحدها على هذه الشاكلة بل العالم كله هكذا، فالعالم نرى جزءا منه والجزء الأكبر شأنه شأن القسم المغمور من قطعة الثلج، وذلك هو باطن العالم وجوهره الذي لا ندركه. وهكذا بالنسبة لنا أيضا فنحن لدينا غير هذه العين عين أخرى، وغير هذه الأذن أذن أخرى، وغير حاسة الذوق هذه حاسة ذوق أخرى، وغير حاسة اللمس هذه حاسة لمس أخرى، ناهيك عمّا لدينا من قوى أخرى غيرها. وكما أشرت سابقا أن الرجل الورع التقي النقي القلب قد يسمع أصواتا في هذا العالم لا نسمعها نحن. والعلم الحديث يحتمل وجود حواس كثيرة، وحتى أن الحيوانات قد تشعر بأشياء لا نشعر نحن بني الإنسان بها.

جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كنت قبل أن ابعث بالرسالة ارعى الغنم وكنت ألاحظ أنها تجفل أحيانا ولكني لم أكن استشعر شيئا. ولكني بعد ما بعثت نبيا سألت عن ذلك فقيل لي أن الحيوانات تسمع أصواتا لا يسمعها الإنسان. ولو سأل سائل: ما هي العبادة أساسا؟ إن الغرض من العبادة أساسا أن تتكون لدينا حالة نورانية. إن شئت أن تسميها الحاسة السادسة أو العاشرة أو الحاسة المائة، لعلنا نهتدي بها إلى عمق ذلك العالم، ومن أجل أن تتكون لدينا روح نفهم بها جوهر العالم. للفخر الرازي أبيات شعرية جميلة يقول فيها ما معناه: أنني طالما كنت في هذا العالم ولم أتعرّف على جوهره، فلا فائدة من بعده لأنني إذا متّ أموت أعمى، وذلك قول القرآن : ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء/72).

ولكن ما المقصود من الأعمى في هذه الآية؟ هل يراد به الشخص الذي لا عين له في رأسه؟ فهذه ليست جريمة ولا ذنب للإنسان فيها، وكم من أولياء الله كانوا عميانا. ينقل أن سيد احمد الكربلائي كان مشهورا بالورع والتقوى، وكانت له مراسلات مع العالم الكبير المرحوم محمد حسين الاصفهاني (رضوان الله عليه) أستاذ العلامة الطباطبائي. يقال أن سيد احمد كانت إحدى عينيه سليمة والأخرى لا يبصر بها، ينقل العلامة الطباطبائي أنه كتب في آخر رسالة له: "أود أن تصاب عيني الأخرى بالعمى لكي لا أرى شيئا غيره". أن مثل هذا الأعمى أكثر بصرا من أي بصير آخر.

كان أبو بصير - وهو من أصحاب الأمام الباقر (عليه السلام) - أعمى. وفي أحد الأيام قال الأمام الباقر (عليه السلام) لأصحاب حين كن جالسا معهم في مسجد المدينة: سأخفى نفسي وأنا جالس هنا في مكاني، وكل من يأتي أسالوه عني أين أكون لتروا ما يقول. فجاء جماعة وسألهم أصحابه: هل تعلمون أين أبو جعفر؟ فكانوا يقولون: لا ندري (كان الإمام جالسا ولكنهم لا يرونه) وحينما دخل أبو بصير الأعمى، أشار لهم الإمام أن اسألوه هذا عن مكاني. فقالوا له: يا أبا بصير هل تعلم أين أبو جعفر؟ فقال: إذن ما هذه الشمس المشرقة الجالسة هنا؟!

هذا يدل على مقام الإنسان وما لديه من حواس لو أنه هذبها لاستطاع أن يبصر بها أشياء لا يراها أي صاحب بصر. وإذا كان الناس في ما مضى يستنكرون مثل هذا الكلام ويقولون ليس لنا أكثر من خمسة حواس، فالعلم اليوم اثبت وجود حواس أخرى للإنسان أو هي على أدنى الاحتمالات موجودة بالقوة.

إذن ما الذي تريد الآية الشريفة: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء/72). قوله؟ من المؤكد أنها لا تقصد من كان فاقدا للبصر .

قال البعض في شأن نزول سورة "عبس" أنها نزلت بحق عثمان لأنه أبدى التكبر على رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) اسمه ابن ام مكتوم، وقال آخرون أنها نزلت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه لم يستقبل هذا الرجل كما ينبغي لأنه كان مشغولا بمناقشة بعض القوم لأجل هدايتهم. وعلى كل الأحوال فقد نزل الآية: ‎﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ (عبس/1) ﴿أَن جَاءهُ الْأَعْمَى﴾ (عبس/2). في أنّه عبّس وجهه "سواء كان المراد هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو شخصا آخر" وأعرض بوجهه حينما دخل الأعمى. لماذا؟ فالعمى الظاهرى لا يعد عيبا. إذن فالقرآن حينما يقول: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ إنما يريد أن يبين للمسلم إنه ليست له هذه العين التي في رأسه فقط وإنما عليه أن يسعى ليفتح عين قلبه أو ما يسمى بالبصيرة.

وهناك آية أخرى تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه/124). أي أن من يغلق منافذ قلبه أمام هذا النور ويبقيه على ظلمته يصيبه اثر ذلك في الدنيا حيث يبقى يشعر بالضنك والضغط على الدوام في حياته، وحتى لو اعطي سلطان الدنيا وكل ثرواتها لما نفعه ذلك شيئا ويبقى يستشعر الضيق وكذلك يوم القيامة نحشره أعمى، فيعترض هناك قائلا: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾ (طه/125). فيقال له: أنّ البصر في تلك الدنيا لا ينفعك في هذه الدنيا التي تستلزم بصرا آخر كان عليك أن تحصل عليه وأنت هناك: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ (طه/126). بمعنى ان آياتنا كانت أمامك فلم ترها، أي انك كنت أعمى، ومن البديهي أن تكون هنا أعمى أيضا. وكل من كانت له بصيرة في الدنيا، فله بصيرة هنا أيضا. والبصر وحده ليس ملاكا.

وجاء في سورة الحديد هذه الآية تثير العجب، بل أن القرآن كله مثير للعجب، فكله معارف منظمة ومرتبة وتدل على أنه نازل من عالم الروح تصوير لمشهد من يوم القيامة هو: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا﴾ (الحديد/13) يقال لهم: أن هذه النور لا يمكن أن يستفاد منه الآخرون: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ (الحديد/13) هذا النور ينبغي الحصول عليه في الدنيا. عودوا إلى الدنيا واحصلوا على هذا النور: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ (الحديد/13).

قد تجد يوم القيامة شخصين يسيران سوية أحدهما يرى العالم كله نور، والآخر يرى كل شيء مظلم، وذلك لأن الأول لديه نور باطني، وكل من لديه هذا النور يضيء بنور السموات والأرض، ويبدو كل شيء أمامه منيرا. ومن يكن مصباح قلبه مطفأ يرى الظلام يسود كل الأرجاء، فيبقى يلتمس هنا وهناك ويرجو الجيران أن يعيروه قبسا من نورهم. فيقال له: نأسف فهذا النور لايعار.

يصف رسو الله (صلى الله عليه وآله) شهر رمضان بالقول أنه:"شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله" في هذا الشهر أنتم ضيوف عند الله وهو المضيف. فافهموا على هذا القياس إلى أي مدى تفتح أبواب الرحمة في هذا الشهر لأنكم تعلمون طبيعة العلاقة بين الضيف والمضيف وأن المضيف هو الذي يحاول تكريم الضيف. ومتى ما حل ضيف على الكريم يلقى منه الرعاية والتكريم باعتباره ضيفا. وما عليكم إلا السعي للدخول على هيئة الضيف إلى مضيف هذا المضيف.

إنّ الذروة التي تبلغها الحالة المعنوية في شهر رمضان إنّما تكون في ليالي القدر ويجب علينا أن نؤدي على أقل تقدير في أيام وليالي القدر - وهي ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين والثالث والعشرين - عملا يؤهلنا أن نحل ضيوف على مائدة هذا المضيف. وكل هذا الصوم، وتقييد النفس الأمارة بالأغلال، ومجاهدة الطباع النفسية، وتغليب الجوانب المعنوية على الطباع المادية، والإكثار من ذكر الله، والدعاء، وتلاوة القرآن، إنما الهدف منها هو الاستعداد لنكون في ليالي الأحياء هذه قادرين على الدخول كضيوف على مائدة خالقنا، لنتوب إليه ونستغفره ونطلب من الرحمة والسعادة لأنفسنا، ولإخواننا المؤمنين، ولمجتمعنا الإسلامي، ولإصلاح ذاتنا. العبادة هدفها أن تكون لدى الإنسان نورانية، فنحن نعبد الله من أجل أن تكون عبادته وذكره ونسيان غيره وسيلة لنا للخروج من هذه الظلمات، وليستنير قلبنا بنور الله.