اللغة والصرف ومسائلهما
الآية الثامنة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾
المسألة الأولى: حول كلمة " صم " صم القارورة صما: سدها، وصما وصمما: انسدت اذنه وثقل سمعه، فهو أصم، جمعه صم وصمان (1). انتهى ما في اللغة. والذي يظهر: أن أصل الصم هو السد، وتوصيف الاذن والسمع به من باب أحد مصاديق الانسداد، فإن من ينسد باب سماعه، لأجل الانقباض في عروقه، أو لأجل الأمور الأخر، يكون أصم الاذن ومسدود السمع، فما في " الأقرب " من تفسير الصم بفقدان الحاسة (2)، في غير محله. ويؤيد ما ذكرناه قولهم: حجر أصم، أي صلب ومصمت، وكذلك صخرة صماء، وربما يظهر من التتبع في مشتقاته بكثرتها: أن أصل الصمم ما لا صوت له، وأن فاقد حاسة الاذن أصم لأجل رجوعه إلى كونه بلا صوت، ويصير أخرس، والأمر سهل، ويحتاج إلى التتبع الزائد. ثم إن في " مجمع البيان " صرح: بأن الأصم هو الذي ولد كذلك (3). انتهى. وهو بلا شاهد، بل ظاهر اللغة هو الثقل في السماع، هكذا في " أقرب الموارد " (4)، ولكنه أيضا خلاف المتبادر منه، وخلاف المتفاهم من مشتقاته. ثم إن المنصرف من اللغة وأرباب التفسير: أن الأصم من فقد حاسة السماع، ولو فقد حاسة سمع واحد فلا يكون أصم، ولا يطلق عليه أنه أصم إحدى اذنيه، وهو غير واضح عندي. والأمر سهل.
المسألة الثانية: حول كلمة " بكم " بكم بكما: خرس، فهو أبكم وبكيم، جمعه بكم وبكمان (5). وقال في " المفردات ": الأبكم هو الذي يولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم (6). وفي " المجمع ": أصل البكم الاعتقال في اللسان، وآفة تمنع عن الكلام (7). انتهى. وقيل: الأبكم لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس (8)، وقيل هما واحد، فإذا قيل: رجل أبكم وبكيم، فهو الأخرس البين خرسه وبكمه (9). وقيل: الأبكم المسلوب الفؤاد (10). والذي هو الحق في هذه المادة: أن البكامة آفة توجب اختلالا في العقل قريبا من الجنون، واختلالا في العضو، ولا يعتبر فيه شئ آخر. والأخرس من يختل لسانه، ويصنع بالإشارة ما يريد أن يفعله. ويشهد لما ذكرنا: - مضافا إلى أنه جمع بين مختلف التفاسير، وموافق لما يفهم منهما - قوله تعالى: (أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه) (11) وقوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (12)، وقوله تعالى: (الصم البكم الذين لا يعقلون) (13)، فإن من ترتب جملة (لا يقدر على شئ) وجملة (فهم لا يعقلون) يستشم جدا عدم تعقل الأبكم.
المسألة الثالثة: حول كلمة " عمي " عمي يعمى عمى: ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وفلان ذهب بصر قلبه وجهل، وعليه الأمر التبس واشتبه. الأعمى: ذو العمى، وهي عمياء، جمعه عمي وعميان وأعماء وعماة (14). انتهى ما في اللغة. وقال في " التبيان ": أصل العمى ذهاب الإدراك بالعين (15). انتهى. وهذا ممنوع، لأن من أبصر وكان له نور البصر، وكان ينعكس في حدقته العكوس والظلال ولا يدركها، ليس أعمى لغة، فذهاب الإدراك ليس داخلا في حدود اللغة وضعا. ثم إن الأظهر استعارة البصر لبصر القلب، ثم اطلق عليه الأعمى باعتبار ذهاب نور القلب، كما أنه يقال لمن لا يهتدي الطريق: أعمى، فإنه لأجل الادعاء والمجاز. وقد خلط اللغويون بين الاستعمالات المبنية على الاستعارات والذوقيات والمجازات، وبين اللغات، فإن هذه الآفة مما يتلبس بها جميع الحيوانات، ومنها الإنسان. ثم لمكان أن البصر في الإنسان يترقب منه الآثار الإنسانية والخواص الروحية، حتى يختلف عن بصر سائر الحيوانات، ادعي ما ادعي واستعمل ما استعمل، حتى توهم أنه المعنى اللغوي الأصيل.
المسألة الرابعة: حول كلمة " يرجعون " رجع الرجل يرجع رجوعا ومرجعا ومرجعة ورجعي ورجعانا: انصرف، والشئ عن الشئ وإليه رجعا ومرجعا ومرجعا: صرفه ورده، لازم متعد، الأتان رجاعا ورجوعا: صارت راجعة، والطير رجوعا ورجاعا أيضا: قطعت من المواضع الحارة إلى الباردة (16). انتهى ما في اللغة. وفي " التبيان " و " مجمع البيان ": والرجوع عن الشئ بخلاف الرجوع إليه (17). انتهى. وهذا يضرب إلى الغفلة عن أن حقيقة الرجوع متقومة بالمبدأ والمنتهى، ولا يعقل الرجوع إلى شئ إلا إذا كان عن شئ، وذلك لما فيه نوع من الحركة الطبيعية أو المعنوية والادعائية، ولأجل ذلك لا يحتاج إلى ذكر المبدأ والمنتهى بخصوصهما، لما يمكن أن لا يكون النظر إليهما كما لا يخفى.
1- أقرب الموارد 1: 662.
2- راجع أقرب الموارد 1: 663.
3- مجمع البيان 1: 55.
4- راجع أقرب الموارد 1: 662.
5- أقرب الموارد 1: 57.
6- المفردات في غريب القرآن: 58.
7- مجمع البيان 1: 55.
8- الجامع لأحكام القرآن 1: 214.
9- نفس المصدر.
10- تفسير التبيان 1: 88.
11- النحل (16): 76.
12- البقرة (2): 171.
13- الأنفال (8): 22.
14- أقرب الموارد 2: 833 - 834.
15- تفسير التبيان 1: 89.
16- أقرب الموارد 1: 391.
17- راجع تفسير التبيان 1: 89، ومجمع البيان 1: 55.