التفسير والتأويل حسب المشارب المختلفة ومسالك شتى

فعلى مسلك الأخباريين: مثل هؤلاء المنافقين (كمثل الذي استوقد نارا) أبصر بها ما حوله، (فلما) أبصر (ما حوله ذهب الله بنورهم) بريح أرسلها فأطفأها، أو مطر وكذلك (1)، (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة منع عنهم المعونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم. هكذا روي عن الكاظمين (عليهما السلام) (2). وقريب منه: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) يقول: أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تضئ الشمس، فضرب الله مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الشمس، ومثل الوصي القمر، وهو قوله عز وجل: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا...) (3) إلى أن قال: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، يعني قبض محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظهرت الظلمة، فلم يبصروا فضل أهل بيته، وهو قوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) (4)، هكذا عن أبي جعفر " روضة الكافي " (5). وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين لما أخذ الله عليهم من البيعة لعلي (عليه السلام) وأعطوا ظاهرها شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأن عليا وليه ووصيه ووارثه وخليفته في أمته... إلى أن قال ما حاصله: فلما أضاء إيمانهم ما حولهم (ذهب الله بنورهم)، بأن أماتهم الله فأخذهم العذاب بباطن كفرهم، وصاروا في ظلمات عذاب الله، ظلمات أحكام الآخرة (6). انتهى.

وعلى مسلك أرباب الحديث: فعن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى: (فلما أضاءت ما حوله) زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارا، (فلما أضاءت ما حوله) من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام والخير والشر (7). انتهى. وعن ابن عباس: أما النور فإيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثم نزع عنهم فقسوا بعد ذلك (8). وعن مجاهد: (فلما أضاءت ما حوله) أما إضاءة النار فإقبالهم على المؤمنين والهدى (9). وعن عطاء الخراساني: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) إنه مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب (10) وهكذا هو المروي عن ابن أبي حاتم وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن زيد (11). وقريب من ذلك كله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)، قال عبد الرحمن: إنه مثل ضرب للمنافقين: إنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفئ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه (12). وعن أبي العالية: وإنما ضوء النار ما أوقدتها فإذا خمدت (ذهب الله بنور) ها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة (13). وعن الضحاك: (ذهب الله بنورهم) أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به (14). وعن قتادة: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دماءهم حتى إذا ماتوا (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) (15). وقريب منه: ما عن قتادة: أن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله، (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) (16). وعن ابن عباس: أي في عذاب إذا ماتوا (17). وعن الحسن البصري: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول: لا إله إلا الله (18).

وعلى مسلك التفسير وأصحابه: (مثلهم) أي هؤلاء المنافقين - (كمثل الذي) وبمثابة الجملة والجماعة والقوم الذي (استوقد نارا) وطلب وقود النار، (فلما أضاءت) النار، وأنارت (ما) كان (حوله) من الجهات، وما يحيط به من النواحي والضواحي، (ذهب الله بنورهم) وأهلك الله نور المنافقين وضياءهم، (وتركهم) - أي المنافقين وخلى سبيلهم وألقى عنائهم على أنفسهم (في ظلمات) الضلالة والجهالة والنفاق وأمثالها (لا يبصرون) طبعا فيها شيئا من أسباب الهداية والنجاة، والآلات التي يمكن أن يتشبثوا بها للخلاص من الغرق والتحير والاضطراب. وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين الذين كانوا يقولون: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، وكانوا يخادعون الله ورسوله، وكانوا مرضى القلوب، فزادهم الله مرضا، وينسبون المؤمنين إلى السفاهة، وغير ذلك مما مر في الآيات السابقة، (كمثل) وكقصة (الذي) - أي الذين - (استوقد) وأوقد نارا وأشعلوا نيرانا، (فلما أضاءت) وتنورت واستنارت (ما حوله) من الأماكن والمحال المحيطة به (ذهب الله بنورهم) بعدما أطفأ الله نيرانهم وخمدت نارهم، (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) فعموا وأصبحوا مظلمين بصرا وبصيرة. وقريب منه: مثل هؤلاء المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى، وقصة هذه الشرذمة القليلين يشبه قصة المستوقد (نارا) من النيران الحسية، (فلما أضاءت ما حوله) وما يتحول إليه بنور هذه الطائفة المستوقدة نارا، وأهلك الله نيرانهم بالأرياح والعواصف (وتركهم) الله، بعدم الاعتناء بشأنهم وما يحتاجون إليه، فجعلهم (في ظلمات) حسية برية محيطة بهم، بحيث (لا يبصرون) فيها، ولا يعرفون شيئا من شئ. وقريب منه: (مثلهم) ومثل من يشبه بهم في الكفر والاستهزاء والعدول عن الحق واشتراء الضلالة بالهدى، عين (مثل) المستوقد للنار الحسي والعقلي، فأوقد نارا في نفسه، أو أوقد نارا بين يديه، أو طلب وقود النار في قلبه، وأشعل النار لحوائجه المادية، (فلما أضاءت ما حوله) هذه النار الادعائية والمعنوية التي هي نفس طلبها، فإن وقود نار القلب عين طلب النار المضيئة، وأضاءت بهذه النار الواقعية أماكنه، فقبل أن يستضئ المستوقد وأصدقاؤه، وقبل أن ينتفع المستوقد وحالاته النفسية والقلبية، وقبل أن يرسخ ذلك الضوء ويؤثر في شئ من برودة قلبه وبرودة مائه وإدامه، (ذهب الله بنورهم) وبضياء قلوبهم وبنيران أجسامهم، (وتركهم في ظلمات) مختلفة ومتراكمة متطابقة، وهم (لا يبصرون) بأبصارهم ولا ببصائرهم، فوقعوا في ما لا ينبغي وخسروا خسرانا مبينا. وقريب منه: مثل كل واحد من هذه الطائفة الباغية، (كمثل الذي استوقد نارا) لجماعته ورفقته، نظرا إلى انتفاعهم وتضوئهم (فلما أضاءت ما حوله)، وتهيؤوا لأن يستثمروا منه ما كانوا يقصدونه (ذهب الله) بنور الطائفة الأولى والجماعة الثانية، فتبين فضيحتهم ونفاقهم وإلحادهم وخبثهم، فلم يتمكنوا من حقن دمائهم وأموالهم، ومن جلب الأموال والوجاهة، كما هم لم يتمكنوا من الاستثمار من النار والانتفاع بها، وإذا ذهب الله (بنورهم) فلا يتوهم وجود نور لهم في ذاتهم أو إمكان استيقاد نار أخرى، فإن ما أذهبه الله تعالى فلا يرجع، وما أخمده الله فلا يعيده غيره، فلازم ذلك (تركهم في ظلمات) من خصائصها الواضحة أنهم (لا يبصرون). وقريب منه: (مثلهم) - أي مثل الذين إذا قيل لهم: آمنوا، قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم - (كمثل) المستوقد للطائفة مريدا به تحفظهم عن البرودة والظلمة (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم)، وتبين أن إقرارهم وشهادتهم بالإسلام والإيمان كان لجلب منافع الآخرين الذين يساندهم من ورائهم وهم شياطينهم، (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) أنفسهم ولا شياطينهم وأخلاءهم.

وعلى مسلك الحكيم الإلهي والعارف الرباني: مثل هؤلاء المنافقين في جميع طبقاتهم، وبجميع مراتب النفاق المشترك فيها كافة الأنام وثلة من المؤمنين وأهل الإسلام، (كمثل الذي استوقد) - في أفق نفسه في زاوية قلبه - نار الاستعداد وضوء الاهتداء ونيران الحركة إلى السعادة والتوجه من منازل النفس إلى مراحل القلب والروح، وكمثل الذي استوقد نار السفر من الطبيعة السفلى إلى أحكام النفس، ومن تلك الأحكام الكثيرة إلى الحكم الوحيد العقلاني بالتهيؤ للخروج عن كافة هذه البيوت المظلمة، والدخول في النور وفي حكم أحكم الحاكمين. (فلما أضاءت ما حوله) من تلك البيوت والأسباب للسفر والخروج من الشقاوة البدوية التخيلية إلى السعادة الدائمة الواقعية (ذهب الله بنورهم) وباستعدادهم الذاتي وإمكانهم الاستعدادي وسراجهم المنير الإنساني (وتركهم) الله تعالى (في ظلمات) كثيرة غير معروفة وغير معلومة، (لا يبصرون) فيها ولا يشخصون، ولا يتمكنون من الاهتداء بعد ذلك بالضرورة، فإن من أضله الله فلا هادي له. وقريب منه: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) وقصتهم ونفاقهم الاختياري وبسوء السريرة، كقصة المستوقد نارا بالاختيار والإرادة، (فلما أضاءت) النار (ما حوله) حسب الطبع والعادة وحسب الجبلة والطبيعة (ذهب الله بنورهم) باختيارهم وإرادتهم، وكأنهم ذهبوا أولا بنور أنفسهم باختيار الإلحاد والكفر والنفاق، (وتركهم في ظلمات) بإيقاعهم أنفسهم في الظلمات حسب شعورهم وطبق إرادتهم، فيكون كل منافق من هذه الجهة مظهر اسم من الأسماء الإلهية، فإن نسبة الإذهاب إليه تعالى، وهكذا نسبة الترك، تصح باعتبار قيامهم بسوء اختيارهم بالمبادئ والأسباب المنتهية إلى ذهاب الله بنورهم، وإلى تركهم في ظلمات (لا يبصرون) قهرا وجبرا، وبالاختيار وسوء الإرادة، كما لا يخفى على أهله.

وعلى مسلك الخبير البصير: أن الكتاب الإلهي في كل أفق يقرأ فله معنى في ذلك الأفق، وفي كل مكان يقرأ فله المعنى المناسب لذلك المكان، وأن كل هذه الأفكار والمعاني، وجميع هذه الأوهام والأفهام، من العلوم الإلهية التفصيلية القابلة لانطباق مفاهيم الكتاب ومعاني جمل القرآن عليها، فلا يصح اختصاصها ببعض منها دون بعض. وإلى ذلك يرجع القول بالبطون السبعة والسبعين، وربما يأتي في الأزمنة الآتية من يكشف النقاب عن أسرار الآيات الإلهية على وجوه أخر وأطوار شتى، لا يصل إليها طاهرات العقول، ولا يرقى إلى أوكار أفكارهم النسور الخاطفات. وسقى الله تعالى هذا الراقم الفقير من حياض كوثره ماء الحياة. آمين يا الله.


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130.

2- راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 123 / 16، وتفسير البرهان 1: 65 / 4.

3- يونس (10): 5.

4- الأعراف (7): 198.

5- راجع الكافي 8: 379 - 380 / 574.

6- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 130.

7- راجع تفسير الطبري 1: 142، والدر المنثور 1: 32.

8- راجع تفسير الطبري 1: 142.

9- راجع تفسير الطبري 1: 143.

10- راجع تفسير ابن كثير 1: 94.

11- راجع نفس المصدر.

12- راجع تفسير الطبري 1: 142، وتفسير ابن كثير 1: 94، والدر المنثور 1: 32.

13- تفسير ابن كثير 1: 94.

14- راجع تفسير الطبري 1: 143، وتفسير ابن كثير 1: 94.

15- راجع تفسير الطبري 1: 142 - 143، وتفسير ابن كثير 1: 94.

16- راجع تفسير الطبري 1: 142، وتفسير ابن كثير 1: 95.

17- نفس المصدر.

18- تفسير ابن كثير 1: 95.