المواعظ والحكم والنصائح

اعلم يا صديقي ويا أخي في الله: أن الآيات الإلهية والأجزاء القرآنية، وإن كانت واردة في بعض المسائل، ولبعض جهات تختص بطائفة من المنحرفين والضالين، ومخصوصة بثلة من الفاسقين والساقطين، ولكنها في النظرة الرقيقة والفكرة الدقيقة، تشمل كافة الناس عاليهم وسافلهم، وعموم الطوائف فاضلهم ومفضولهم، وذلك الإنسان في جميع الأحيان والمواقف متوجه إلى الكمال من النقص، ومتحرك نحو السعادة من الشقاوة، ويخرج من الظلمات إلى النور. ويؤيد هذه المقالة السارية في كافة أبناء البشر قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (1)، فإن من اتبع رضوانه وبلغ إلى حد الرضا، وهو من أعلى مراتب الكمال، وأشمخ منازل العرفان، يكون بعد في ظلمات ويتعقبه النور وينتظره الهداية والصراط المستقيم، فمن هذه الآية التي هي من أعاجيب آيات الذكر الحكيم يتبين صدق مقالتنا، ويستظهر ابتلاء السالك في جميع آنات السلوك بالآفات والموانع. فيا أخي وشقيقي: لا تظن اختصاص هذه الآيات وتلك الأمثال بالفئة المنافقين والجماعة الكافرين، فإنك من زمرتهم وعدتهم، فرب إنسان بلغ في سيره العلمي إلى قصواه، وأدرك في طريقه التعليمي مناه وحظه الأوفر ونصيبه الأكثر، ولكن قلوبهم خالية عن نصيبها وحظها، وما ذاق منها ما ينتفع بها ويتوجه إليها، بل هو بعد خامد ونار طافئة، فإن تلك المفاهيم بمنزلة النار المستوقدة التي يستضئ بها التي استوقدها في مرحلة الابتداء وفي المنزل الأول، وأضاءت ما حوله من السطوح النفسانية والأقشار البدوية، (ذهب الله بنورهم) ولم تؤثر تلك النار فيما كان ينبغي أن تؤثر فيه، ولم ينتفع المستضئ، إلا بحسب الميول الوهمية، واللذات الخيالية، والكمالات الأولية. وبالجملة: جميع المتعلمين من أهل الظاهر والباطن، وكافة المشتغلين بعلوم حقيقية وغير حقيقية ليسوا مأمونين عن الانسلاك في هذه الآيات، وعن الاندراج تحت هذه التحذيرات والإيقاظات، ولا يخص بذلك بعضهم دون بعض، كما توهمه صاحب " الحكمة المتعالية " (قدس سره) (2) فإن مجرد الاشتغال بالعلوم العقلية غير كاف للهداية إلى تلك السبل والمنازل، بل ربما تكون العلوم العقلية أغلظ حجابا من غيرها، لمكان كونها أسرع مركبا وأحسن سبيلا وأعلى درجة، فعلى كل الطالبين، وعلى زمرة المحصلين المتوجهين نحو الدار الآخرة والجنة العالية، التوجه إلى هذه العواصف والأرياح التي تذهب بالنيران وضوئها، وتمنع عن اتصال القلب بربه، وعن اشتعال نار الحقيقة للوصول إلى أصله. اللهم يا إلهي نور قلوبنا بنور الإيمان والمعرفة، ولا تذهب نيراننا فتهلكنا بما فعل المبطلون، ولا تتركنا في ظلمات لا يبصرون. آمين يا رب العالمين.


1- المائدة (5): 15 - 16.

2- راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 420 - 422.