بعض بحوث كلامية، فلسفية، عرفانية

البحث الأول: حول فاعل الشرور إن من جواز نسبة الإذهاب إليه تعالى، يعلم عموم قدرته ونفوذ إرادته بالنسبة إلى كافة الخيرات وغيرها، وقد مر مرارا ما يتعلق بهذه المسألة، وهذه الآية من جملة الآيات التي تدل على بطلان مذهب الثنوية، من أن فاعل الشرور غير فاعل الخيرات (1). ومن جملة الآيات الدالة على بطلان مذهب المفوضة والقدرية، القائلين بأن الإيمان والكفر من خلق الإنسان، ولا يتدخل فيهما يد الغيب وقدرة الله وإرادته، فإن إذهاب نور الهداية والايمان بيد الله تعالى على الوجه المحرر مرارا والمطابق لكافة البراهين العقلية المشفوعة بالمكاشفات العرفانية.

البحث الثاني: حول نسبة الذهاب إليه تعالى ربما تدل التعدية بالباء على أن إذهاب الله نور الهداية يلازم صحة نسبة الذهاب إليه تعالى، وذلك لأن ذلك النور شأن العلة وطور تلك الحقيقة المتجلية بأنواع التجليات، حسب اختلاف المرائي والمظاهر المتدليات بالذات، فإذا ذهب الله بنورهم فقد خلت الماهية الظلمانية عن نور الوجود، وعن تجلي الرب الودود والذي لا يحكم على فعله بالثبوت واللاثبوت، لأن فعله نفس المتدلي بالمعبود، وعين التعلق بالجود، فعليه لا يحكم حقيقة بذهاب النور إلا بإذهاب فاعله، وللمقام طور آخر من الكلام، ربما يمر عليك على الوجه التام في محل آخر ومحط آت إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث: قدرته في الفواعل الطبيعية في نسبة الإذهاب إليه تعالى مع كون المراد من النور الحسي والضياء الحاصل من النار أيضا يشهد على نفوذ إرادته وقدرته تعالى في الفواعل الطبيعية وأن الأرياح والعواصف الهابة التي تزيل النيران وتذهب بالضياء وتفنيه، كلها جنود الله تعالى على وجه يحق أن يستند معاليلها إليه تعالى، فإن نسبة المعلول إلى علته الواجبة أقوى من علته الممكنة، حسب ما تحرر في قواعدنا الحكمية وفلسفتنا الإلهية، ولو كان إذهابه تعالى بالنور مقرونا بإبقائه النار، فيكون ذلك دليلا على بقاء إرادته وقدرته ونفوذهما، للتفكيك بين العلة والمعلول، كما في قوله تعالى: (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما) (2) وتصوير ذلك يرجع إلى أن العلة علة بعلية الذات الواجبة لا بعلية واجبة بالذات، فلا ينبغي الخلط بينهما. وعلى هذا يمكن إيجاد المانع عن التأثير، الراجع إلى عدم العلية في ذلك الحين والظرف.

البحث الرابع: نسبة الترك إليه تعالى يستفاد من نسبة الترك إليه تعالى أيضا بعض البحوث السابقة، مضافا إلى أن الترك الذي لا يكون له حظ من الوجود إلا بالتبع والعرض أيضا لا يخرج عن حيطة إرادته وقدرته وعلمه وحكمته، وفي ذلك إفادة أن في نفس الترك والتخلية ظلمات، لأن الخروج عن محط الوجود والنورانية، يلازم العدم والظلمة والشر، وتدل الآية الشريفة على أن الانحراف عن الاعتدال والحركة نحو الشقاوة، أيضا بإذن الله تعالى وبتركهم فيها، إلا أن الحركة نحو السعادة من الله وفي الله وإلى الله، والحركة نحو الشقاوة بنفس تركه تعالى في الظلمة التي نشأت من ذاته الإمكانية، ومن ملاحظة هذه الفقرة من هذه الآية وما مر من الآية السابقة من قوله تعالى: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) ونظائرهما، يظهر: أن المبادئ الموجبة للانحراف عن الجادة المستقيمة، والأسباب المورثة للضلالة في الطريقة الأصلية الصحيحة، كلها نشأت من ناحية المتحرك والسالك على الوجه المحرر مرارا فيما سبق وسلف. إن قلت: كيف يصح نسبة الترك إليه تعالى، مع أن الترك الخاص المكاني وما شابهه غير معقول، والترك المطلق يستلزم انعدام الشئ، والخروج عن حكومته والالتحاق بالعدم، فلا يكونون في ظلمات لا يبصرون، بل يصيرون في ظلمة العدم، فلا يبقون أو يبصرون لأجل انتفاء الموضوع، وهو خلاف الواقع. قلت: إن الإنسان بحسب الفطرة الأصلية تحت ظل العناية الإلهية والاسم " الهادي "، فإذا راعى السالك في سلوكه الجهات العقلية والشرعية، يكون مهتديا بالله تعالى وتحت لوائه، وأما إذا انحرف واتبع هواه وأخذ في سبيل الغي والشيطنة، فقد أخرج نفسه عن الاسم " الهادي "، فتركه الله تعالى، وفي نفس هذا الترك ظلمات، بل نفس تركه تعالى ظلمة وظلمات، فتركه تعالى ليس مطلقا، بل هو من الترك الخاص، ومن الخروج عن تحت الاسم والدخول في تحت الاسم الآخر " المضل "، على موازين عقلية وشواهد كشفية ومعاينات عرفانية، ولأجل ذلك قيل: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات)، وكان هذا ثمرة المبايعة السابقة والتجارة المعهودة. فإنهم بعدما اشتروا الضلالة بالهدى رضوا بأن يتربوا بالاسم " المضل "، وبالدخول في الظلمات، وبتخلية الله تعالى سربهم ومسيرهم، وبتركه تعالى إياهم بعدما كانوا متربين بالاسم " الهادي "، بل بالاسم الجامع لقوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) فإذا ضلوا اختصوا بالاسم الخاص بهم، وكل ذلك من تبعات أفعالهم الاختيارية واشترائهم بالاختيار والعقد، من غير إكراه وإجبار، فلا تكون معاملتهم باطلة من هذه الجهة، وإن كانت عاطلة وغير رابحة من جهات شتى.

الوجه الخامس: حول أن الظلمة وجودي أو عدمي في ترتب نفي الإبصار على ذهاب النور والوقوع في الظلمات، شهادة على اشتراط الإبصار بالاستنارة، وربما يمكن دعوى دلالة الآية على أن الظلمة تمنع منه، فهي دليل على أن الظلمة أمر وجودي، فيكون التقابل بينها وبين النور تقابل التضاد، خلافا لما قيل واشتهر: أنه من تقابل العدم والملكة (3)، وقيل: هو من تقابل السلب والإيجاب (4). وبالجملة: يستظهر من الكريمة الشريفة الرأي الأول بناء على أن المراد منها نفي الإبصار الحسي، أو الأعم منه ومن الإبصار في أفق النفس والبصيرة. والذي هو التحقيق: أن الظلمة بما هي هي ليست شيئا، فيكون تقابلهما من السلب والإيجاب، والشئ المظلم ليس موصوفا باستعداد النورانية وبالإمكان الاستعدادي حتى يكون من العدم والملكة، والآية إن لم تدل على شرطية النور للرؤية لا تدل على المانعية المزبورة، لتعقب الترك في الظلمة لذهاب النور، مع أنه لا حد متوسط بينهما، فعدم إبصارهم متفرع في الحقيقة على ذهاب النور، فلا تخلط.


1- راجع كشف المراد: 283.

2- الأنبياء (21): 69.

3- راجع شرح المقاصد 2: 262، وشرح المواقف 5: 244، وشوارق الإلهام 2: 409.

4- راجع الأسفار 4: 95 - 96.