وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول التمثيل في الآية من أمثل أساليب البلاغة التمثيل، وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (1)، وقد اتخذه الكتاب العزيز، وينبغي أن يعد مؤلفه من المبتكرين في هذا الميدان، وشرع في تقريب المعاني المعقولة الكلية البعيدة عن الأذهان البدوية والنهائية، بتوجيه الأمثال وضرب القصص والحكايات، التي تتجلى بها المعاني وأطوارها في أتم مجاليها وأكمل مرائيها، وتتأثر بها النفوس بما أودع الله فيها، واعتبر في خلالها ما يقنعك بمثابة لا تقنع النفوس براهينها، فإن لضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق والدقائق المكنونة، تأثيرا ونفوذا ظاهرا، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية السابقة، حتى قيل: إن من سور الإنجيل سورة الأمثال (2)، فإذا كانت الأمثال بهذه المثابة، اتخذ الله سبحانه في توضيح حال المنافقين وتحقيرهم هذه الطريقة المثلى والدأب الأصيل، فإن فيها المجازات والاستعارات الجارية مجرى الصفات الكاشفة عن حال المنافقين، وفيها تصوير أحوالهم السيئة وإبرازها بصورة مشاهدة، ولنعم ما قيل: لضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفأ، يرفع الأستار عن وجوه الحقائق، ويميط اللثام عن وجه الدقائق، ويبرز المتخيل في معرض اليقين، ويجعل الغائب كأنه شاهد (3). وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل، فبضرب المثل تبرز في معرض المحسوس، فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تتجلى غياهب الأوهام، ويرتفع شغب الخصام. وإن شئت قلت: إن في المثل بعد توجيه النفوس إلى حال المنافقين، تجسيم أحوالهم وتركيز شأنهم على أن لا يغفل عنه المسلمون، ولا ينساه المطلعون، فكلما رأوا نارا استوقدوها تخيلوا اليهود والمنافقين حولها، وكلما أضاءت ما حولها يرتسم في خيالهم أحوالهم، وينتقلون بأدنى ملابسة ومناسبة إلى المنافقين المضادين لهم، ويحصل في أنفسهم منهم الاشمئزاز والتنفر، فيصبح المسلم ضد النفاق والكفر، والمؤمن نقيض الإلحاد والفسق.

الوجه الثاني: حول المحافظة على الجمال الأدائي قد تكرر منا - في هذه الوجيزة - الإشارة إلى نكتة أصلية منعطف إليها الكتاب العزيز، ومتوجه إليها في جميع الأحيان والأحوال، وهي المحافظة على زنة الآية وزينتها وكيفية صوتها ووقوفها في الأسماع ولذلك تكون الأسماع منها أكثر حظا وأوفر نصيبا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (4). فبالجملة: مما لاحظه القرآن الإلهي في أدق نظر، وراعاه في أحسن وجه، هذه الخصيصة، ولأجل ذلك ولجهات اخر في طولها، ربما يحذف في محل ويذكر في آخر، مثلا ترى: أن في هذه الآيات حذفت حروف الربط والعطف، وليس عندي وجه أقوى من هذا النمط، ولا يصل إليه إلا من له التماس بعلم الروح ودقائق لطائفه، وبفن الموسيقى وخصائص معارفه، مع أن جميع القرآن مشتمل على التحفظ بهذه الخاصة التي بها يمتاز عن غيره، وبها يمكن جلب قلوب المعاندين وعواطف الملحدين والمخالفين. فمثلا ترى: أنه كيف أتى بكلمة " مثل " في هذه الآية مرتين، وقال: (مثلهم كمثل الذي استوقد) ولم يأت في الآية الآتية بمثلها، وقال: (أو كصيب من السماء)، وأنت إذا حذفت " المثل " من هذه الآية وزدتها على الآتية، تجد فيها من الانحطاط مالا يخفى، من غير توهم استناد ذلك إلى كثرة التلاوة، فإنه أمر قابل للتدريب والافتنان، بل القوم الأوائل كانوا بمجرد سماع آية من الآيات، ربما يقعون تحت تأثيرها وجذبها، مع أنها ما كانت - بحسب المعنى أو المادة، أو اللطائف البديعية اللفظية والمعنوية - مشتملة على شئ بارز، ولكنها لاحتوائها على التوزين الخاص والرنة المخصوصة، المتطابقة مع اللطائف الروحية والنفسانية، اجتذبت الأكثرين، وهدمت بنيان الكفر والمشركين. والله هو الموفق المعين.

الوجه الثالث: حول التشبيه في الآية إن من أقسام التشبيه تشبيه المركب بالمركب، ثم في أقسام تشبيه المركب بالمركب، ما لا يمكن أن يعين لكل جزء من أجزاء الطرفين ما يقابله من الطرف الآخر، إلا بعد تكلف وتعسف، وهذا مثل قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)، فإن القول الفحل والمذهب الجزل، كون الآية من هذا القسم، لا من المتفرقة التي يكون بين الأجزاء تماثل وتشابه أيضا. فلو كان منها فلابد من أن يقال: شبه المنافق بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار وخمودها، أو يقال: وإعلام الله المؤمنين بأسرارهم بإطفاء النار. والذي يؤيد ما اختاره المشهور: أن إعطاء المثال بكلمة " المثل " ينبئ عن التشبيه في مجموع الجملة المذكورة، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر، وهي الهيئة المركبة، دون كل واحدة من مفرداتها، وقيل: في كلمة " لما " والفاء إشعار بالارتباط بين الجملتين بمجموعهما التركيبي. والذي يظهر لي: أن هذه الآية قابلة لأن تكون من أقسام تشبيه المفرد بالمفرد بحسب النتيجة، فإن الكلام سيق لإفادة المشابهة بين نتيجة النفاق والنتيجة التي يصل إليها المستوقد نارا، وقابلة لأن تكون من أقسام تشبيه المركب بالمركب على الوجهين المزبورين بمعنى أن المتكلم تارة يكون في موقف تشبيه المجموع بالمجموع فقط، وأخرى يكون في الموقفين، فإذا نظرنا إلى الروابط الخاصة نجد أن المنظور إليه هو القسم الأول، وإذا نظرنا إلى تطبيق الآية بين المنافقين - الذين صنعوا مع المؤمنين قبل ذلك ما صنعوا - وبين المستوقد نارا، نجد أن مقتضى التطبيق هو التوافق في كافة الجهات صدرا وذيلا، فيكون من القسم الأخير. ثم إن في الآية ابتكارا لتشبيه آخر: وهو تشبيه المركب الجمع بالمركب المفرد، فقال: (مثلهم كمثل الذي استوقد)، لا " الذين استوقدوا "، وسيمر عليك ما في هذا الإفراد من السر واللطف إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: اشتمال الآية على اللغات المتناسبة من وجوه البلاغة: اشتمال الكلام على اللغات المتناسبة المتقاربة معنى، أو المتغاربة التي تسمى بالطباق في أصول البديع، وهذه الآية ترى كيف اشتملت على الوقود والنار والضوء والنور والظلمات والإبصار.

الوجه الخامس: حول كلمة " كمثل " ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الآية كان ينبغي أن تكون هكذا: مثلهم الذي استوقد نارا، فتكون كلمة " كمثل " زائدة. وقد أجابوا عنه: بأن معنى المثل القصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، فكأنه قيل: قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد. وفيه ما مر في معنى المثل وهو إما من أسماء التشبيه، ويفيد فائدة حروفه، أو هو الوجود التنزيلي للشئ، أو الادعائي. والذي يظهر لي: أن إضافة المثل الثاني إلى " الذي " إضافة بيانية، فكأنه قيل: كمثل الذي استوقد نارا. وبعبارة أخرى وكلمة وضحى: تارة يقال: مثلهم الذي صنع كذا، فإنه يصح في مورد يكون للمثل واقعية خارجية وأريد تشبيههم به، كما يقال: زيد كالأسد، وأخرى يقال: مثلهم كالمثل الكذائي، " فإنه في موقف لا يكون للمشبه به واقعية خارجية، بل هي تخيلية وادعائية كما في المقام، وأما حرف التشبيه فهو ليس بزائد، لأنه إذا أريد استعارة الجملة للجملة يحذف حرفه، وإلا فلابد من ذكره لقيام التشبيه به، فلو قيل: مثلهم مثل الذي، فهو من قبيل زيد أسد، وإذا قيل: كمثل يتحقق به التشبيه. فالوجود التنزيلي للمنافق ربما يكون في حد ذاته له الواقعية، وربما لا واقعية له مطلقا، ولإفادة الوجه الثاني جئ بالمثل ثانيا، وربما لا يكون النظر في التشبيه إلى إفادة هذه الجهة، كما في الآية التالية.

الوجه السادس: حول أن الآية تشعر بجلالة الإسلام اختلفوا في أن هذه الآية تمثل حال المنافقين بأجمعهم، أو طائفة خاصة من المنافقين، فالمعروف المشهور بينهم هو الأول، لأن هذه الآيات نازلة في بيان أحوالهم ومفاسدهم وأغراضهم وكيفية سلوكهم وتواجبهم مع المؤمنين، فشبهوا هنا في خسارتهم في أعمالهم وفشلهم في صنائعهم وأعمالهم السيئة. وقيل بالثاني، وأن هذه الآية مثال فريق، والآية الآتية مثال الفريق الثاني (5). والذي يظهر لي: أن اختيار هذا التفكيك والتفصيل لأجل توهم الإشكالات المتوهمة على الآية الشريفة، وهي:

1 - أن مستوقد النار اكتسب نارا وخيرا في الجملة، والمنافق لم يكتسب شيئا ولا خيرا.

2 - أن المستوقد الذي أضاءت النار حوله انتفع في الجملة، دون المنافق.

3 - أن المستوقد كان له نور، فذهب الله بنورهم، والمنافق لا نور له. وقد تصدوا للجواب عنها (6)، غافلين عن أن وجه الشبه في التشبيهات بل والاستعارات، لا يعتبر أن يكون تاما مستوعبا لجميع النواحي والجوانب، فإن المنافقين بما أنهم أرادوا الباطل حقيقة، ودخلوا في الحق صورة وتظاهرا، فأوقدوا نارا يحرق بها الأباطيل، وأشعلوا ضياء يستولي على الخبائث، ويزول بها الكدورات والرذائل، ويتجلي به الحسنات والفضائل، والنعوت العاليات والأوصاف الكاملة، والكمالات المكنونة في النفوس الإنسانية والقلوب البشرية والمجتمعات المدنية، ولكنهم أخمدوها وأطفؤوها، وذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات الحيرة والبطلان، وفي جهالة الضلالة والعصيان، وهم بعد ذلك لا يبصرون شيئا، ولا يهتدون سبيلا. وإن شئت قلت: في هذا التمثيل إشعار بجلالة الإسلام وعظمة الإقرار باللسان، والإيمان بدون العمل بالأركان ولا العقد عليهما في الأذهان، فإن الإسلام بمراتبه عظيم فخم، ذو آثار قيمة ومحاسن طيبة، من مرتبة التظاهر المقرون بالنفاق إلى الرتبة العليا التي لا تنالها أيدي الخواص، فضلا عن العوام. فلإفادة هذه الخاصة شبهوا - في نفاقهم الفاسد وفي خلقهم الكاسد - بالنار الواقد المشتعل المضئ في الجملة، والضيق مكانا لما لا يستضاء منه إلا ما حولهم، ولا يدوم زمانا لما يذهب الله بنورهم، فلابد في التشبيه من المحافظة على جلالة قدر المأمول، وعلى تعظيم أمر المحبوب والمطلوب، فإن المنافق ينتفع أحيانا من إظهار الإسلام بحفظ أموالهم وحقن دمائهم، ومن الممكن انسحاب أذيالهم إلى عقد القلب به، والعمل على طبقه خالصا مخلصا. وإن شئت قلت ثالثا: إن في عين التحقير والهتك والتوهين، وفي نفس التذليل وبيان أحوالهم اللا إنسانية، روعي في هذا التشبيه جانب الرأفة بهم والعطف عليهم، لإمكان اهتدائهم وانفتاح أبواب السعادة عليهم، فإنهم إذا علموا أن ما صنعوه وأظهروه من الإسلام الصوري، لا يوجب وقوعهم في الضلالة الأبدية، ولا يستلزم سوء أفعالهم وعقائدهم، ولا ينجر سوء مقاصدهم إلى كون الإسلام الصوري واللاإسلام واحدا أو أسوأ، بل هذه المرتبة من الإسلام - أيضا - فيها الضوء والنار والنور، إلا أنه نار على المنار، لا يتنور به إلا ما حوله من الجهات الست المحيطة به، المحدودة لأجل محدوديتهم، ولا يستضاء به إلا في لحظات قصيرة لما يذهب الله تعالى بنورهم. ففي هذا النحو من التشبيه كمال الغاية إلى المحافظة على المنافقين أيضا، لئلا يسد جميع الأبواب عليهم، ولئلا يخمد في نفوسهم نور الرجاء والأمل، فإن هذا القرآن كتاب الهداية من جميع الضلالات، ودستور الوقاية من كافة أنحاء الشقاوة، ولا ينقطع من نظر إليه رجاؤه، ولا يسلب من تأمل فيه تأميله ومطلوبه ولو كان بالغا في الشقاوة أقصاها، واصلا في الحركة الذاتية منتهاها. فبحمد الله وله الشكر، تبين أنه لا حاجة إلى التفكيك الذي اختاره بعض المتأخرين (7)، وتندفع بهذه التقاريب شبهة المتوهمين والقاصرين، والله خير معين. الوجه السابع في إفراد المشبه به مع أن الأنسب حسب التخيل الإتيان به جمعا، حفاظا على المشبه، ولأجل ذلك قيل: " الذي " وقرأ بالتشديد جمعا لإفادة حذف نون الجمع (8). وقيل: إن الشبه ينحل إلى الكثير والإفراد فشبه بين الفرد والفرد، لا الجمع والفرد (9)، وعليه يؤول قوله تعالى: (كمثل الحمار يحمل أسفارا) (10)، وقيل: إن مفاد " الذي " مفاد الجمع (11)، وعليه يؤول قوله تعالى: (كالذي خاضوا) (12) ولذلك يرجع إليه ضمير الجمع في قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم)، وقيل: إن " الذي " مثل " من " الموصول يصح رجوع ضمير المفرد والجمع إليه (13) وغير ذلك. والذي يظهر لي: أن إفراد المشبه به يحتمل أن يكون لأجل أن النظر فيه إلى الحالات النفسانية والملكات القلبية. وبالجملة: أريد بالمستوقد الإنسان الذي يشعل النار في محيط وجوده، وحول دائرة ملكوته الجزئية، وجعل نفسه منارا لنار التوحيد والتجريد، من غير أن يدخل في قلوبهم ويؤثر في نفوسهم، ومن غير أن يستفيدوا منها ويستضيئوا بنورها، وذلك ككثير من القشريين المتكئين على الظواهر اللغوية، أو اللبيين والباطنيين الطارحين الشواغل الصورية، فإن كل هؤلاء غير واصلين إلى مخ الحقيقة ولب الإيمان والطريقة، فإن الجاهل إما مفرط أو مفرط، فتكون النار والإيقاد والحول والإضاءة، كلها استعارات عن المعاني الكلية والحقائق الروحية. ويحتمل قريبا أن يكون في الإفراد إشعار بأن المنافقين كانوا على طائفتين، بمعنى أن منهم من كان يتماس مع رئيس الإسلام والرسول الأعظم الإلهي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المؤمنين، فيظهرون ويقولون ما ليس في قلوبهم، ومنهم من كان من شياطينهم، وإذا خلوا إليهم يقولون: (إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، وكان نفاقهم وإقرارهم ذا جانبين، لأنهم كما يعترفون حسب الظاهر بإسلامهم نفاقا، كذلك كانوا يعترفون بنفاق شياطينهم ويقرون لهم بأنهم أيضا أسلموا واعترفوا وآمنوا فأوقدت هذه الطائفة نارا واستحفظوا في بدو الأمر تلك النار أنفسهم وأنفس شياطينهم، ف? (ذهب الله بنورهم)، وتبين للمسلمين نفاقهم، فوقعوا في ظلمات لا يبصرون، ولأجل إفادة هذه الطريقة، شبهوا بالقافلة والكتلة التي يتكفل واحد منهم إيقاد النار لهم حتى يستضئ الآخرون به، وينتفعون بتلك النيران، كما هو المتعارف في الجماعة الخارجين والمسافرين. ومن هنا يتبين وجه الخلاف الآخر المترائي في كلماتهم: من أن النظر في هذه التمثيلة إلى المنافقين، الذين خادعوا الله وخادعهم، وأفسدوا في الأرض فسادا، أو إلى المنافقين الذين خلوا إلى شياطينهم. فقيل - وهو قول الأكثر - بالأول، وقيل بالثاني. والحق ما عرفت من: أن موضوع هذه الآيات مطلق المنافق المتلون بالألوان المختلفة، والمتظاهر بالأقسام المتنوعة من المفاسد النظامية والاجتماعية، ومن الأباطيل الروحية والمعنوية، وليس النظر في هذا المثل - ولا المثل الآتي - إلى طائفة خاصة منهم في حال خاص. نعم في هذا المثل - بناء على ما عرفت وتبين - إفادة أحوالهم السيئة وأوصافهم الوقيحة في الاجتماعات البشرية، وفي اجتماع بعضهم مع بعض. والله هو الهادي. وأيضا يظهر: أنه لا يخص المثل بالذين (اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فإن في ذلك أيضا تشبيها واستعارة، ولا يستحسن أن يكون النظر إلى المعنى المدعى عليهم، بل في جميع الأحيان يكون نظر المتكلم إلى الواقعية التي ابتلي بها المنافقون، وإلى الصفات التي اتصف بها هؤلاء الملحدون. نعم ما هو اللطف غايته والحسن نهايته: أن تطبيق هذه المفاهيم على هذه الطائفة قبل التمثيل، يوجب حسن المثل، ويقرب ترغيب المستمع، وإذا ضرب الله هذا المثل يجد الناس في بدو الأمر وابتداء السماع قالبية المثل للممثل له، فيقع في نفوس المستمعين نهاية الانزجار عن النفاق، وأقصى التنفر عن الكذب والافتراء والإلحاد، فيميلون إلى الحق ميلا أحيانا.

إيقاظ

ربما يمكن حذف الحرف العاطف هنا، لأجل دفع توهم انعطاف هذه الآية على الآية السابقة، فيكون مضمونها مثلا لها، كما اختاره بعضهم، وأما إذا استأنفت الآية فتعد مثالا لحال المنافقين بما هم منافقون، لا لأجل أوصافهم الخبيثة الاخر، فتدبر. الوجه الثامن حول عدم كون ذهاب نورهم من المثال اختلفوا في أن قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) هل هو من تتمة المثال، أم هو كلام سيق لبيان نتيجة نفاق المنافقين، مع مراعاة جانب المثال بإتيان لفظة " النور " و " الظلمات " و " عدم الإبصار "، وهذا من الوجوه البديعة اللطيفة، فإنه إذا شبهت حالهم بالمستوقد المستضئ بناره في برهة يسيرة، فلابد إذا طفئت النار وخمدت ألا يبقى لهم النور الأعم من الحسي والمعنوي، ويقعوا في ظلمات الأرض، وفي سفليات السماء، فلا يبصرون بالبصر ولا بالباصرة، فيصبحون خاسرين الدنيا والآخرة وفي المحسوس والمعقول. فعلى هذا تبين: أن جملة (ذهب الله بنورهم) متفرعة على حال المنافقين بعد التشبيه، ولا تكون من تتمة المثال، ولا راجعة إلى المنافقين مع قطع النظر عن المثال، ومن توهم أنه من تتمة المثال فقد اغتر بظاهر القضية، وأن حذف خبر " لما " وجزائها خلاف الأصل، ومن جعلها جملة مستقلة اغتر من ناحية رجوع ضمير الجمع إلى المنافقين، دون الموصول المفرد. والقول الفصل والرأي الجزل ما أشير إليه، وأن الآية الشريفة ربما تكون في مقام توجيه الأنظار ولفت الأفكار إلى الجهة الثالثة، الجامعة بين المحسوس والمعقول، وبين اللب والقشر، وبين المشبه والمشبه به، فراعت (14) أطراف القصة بإتيان المشتركات، فإن ذهاب الله بنورهم يمكن أن يقصد به النور والضوء الحسي، بل والنار، لأن " النور " جمع " النار "، كما مضى، فاختير لفظة النور أيضا لما فيه من الإيهام بالشركة من جهتين: النورانية الحسية والضياء، والنور العقلي والإنارة المعنوية والهداية الإلهية. وهكذا جملة (وتركهم في ظلمات)، فإنه إذا ذهب الله بنورهم الحسي فلا يبقى للمستوقد ضياء، فيترك في الظلمات، وإذا ذهب الله بنورهم المعنوي وهدايتهم الفطرية، فيتركون في ظلمات الجهل والضلالة. وهكذا جملة (لا يبصرون)، فإنها أيضا أعم من العمى القلبي وعدم الرؤية لأجل الظلمات وفقدان الضوء والنور. ولعمري إن هذه الآية من هذه الجهة تقع في منزلة من البلاغة، لا يصل إليها أفهام الخواص، ولا عقول خاص الخاص، وقلما يلاحظ في الأمثال ويراعى في التشبيهات، حال الحقيقة والمجاز وجانب الواقعية والادعاء جمعاء. إن قلت: يلزم استعمال الواحد في الكثير، ويلزم كون اللفظ الواحد مرآة للمعنيين الحقيقي والمجازي وفانيا فيهما. قلت: قد تحرر منا في الأصول: جواز ذلك مطلقا، ولا سيما في آيات غير الأحكام، والكلمات غير المتكفلة لضرب القوانين، وما توهمه الأكثر من الامتناع الذاتي أو الوقوعي غير صحيح (15). هذا أولا. وثانيا: إن المستعمل فيه هنا معنى واحد جامع، فإن قلنا بأن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة - كما اختاره الوالد المحقق - مد ظله - في بعض رسائله (16) - فيكون حقيقة، وإن قلنا بخلاف ذلك - كما تحرر عندنا في الأصول (17) وفي هذا الكتاب سابقا - فيلزم المجازية، ولكنها ليست بمعنى استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما هو المشهور، بل المجاز والحقيقة مشترك في جميع أنحاء الاستعمالات في استعمالهما في المعنى الموضوع له، وإنما الاختلاف في الأمور الأخر، وسيمر عليك - إن شاء الله - توضيحه، ومر في بعض البحوث السابقة إجماله.

إيقاد

يظهر منهم أن جملة (ذهب الله بنورهم) أقيمت مقام أطفأ الله ناره، إقامة المسبب مقام السبب، وحذف جواب " لما " للإيجاز اللازم، وأنت قد أحطت خبرا بما هو الحقيق به الكلام الحق، فإن جواب " لما " قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم)، فإن في إذهاب النور إذهاب النار الحسية وإذهاب نور الفطرة جميعا، ولو كان المراد من المستوقد نارا، الذي استوقد في أفق نفسه وسطح قلبه سراج الإسلام ونيران الإيمان، فجملة (ذهب الله) جواب لما يستضاء.

الوجه التاسع: في تنكير النار ربما يقال: إن التنكير لأجل أن النظر إلى أصل الإيقاد، ولأحد أن يقول: إن الطبيعة بما هي هي لا تستوقد، وما يصح استيقاده هو الفرد الخارجي منه الدال عليه تنوين التنكير، وقد عرفت أن كثيرا من هذه الأمور مذكورة من غير لزوم كونها مرعية في الكلام، ومنها التعريف والتنكير والحذف والإيصال والعطف وتركه. نعم ربما تراعى فيها ويحافظ عليها، لأجل أن زنة الكلام وحسن التركيب موقوف عليها. ولأحد دعوى: أن التنكير كثيرا ما يكون في موقف أريد من النار الفتنة والكناية عنها، كقوله تعالى: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) (18)، أو أريد منه ما يشبه ذلك من النيران الاستعارية، ولذلك قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، فكان انتظارهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) كإيقاد النار (19). وبالجملة: إذا اطلق " النار " على نعت المعرفة فهي النار المحرقة الواقعية، وإلا فهي كنائية. أقول: من يراجع الآيات الإلهية يظهر له عدم ثبوت هذه الدعوى، وإن كانت الآيات الكثيرة - التي فيها النار معرفة - حاكية لنار جهنم، إلا أن خلافه أيضا كثير، فمن الأولى قوله تعالى: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) (20)، ومن الثانية قوله تعالى: (سيصلى نارا ذات لهب) (21).

الوجه العاشر: تغيير التعبير عن الضياء بالنور إن في تغيير الأسلوب في المفردات، بأن قال: (ذهب الله بنورهم)، مع أن التوهم يناسب قوله: فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بضيائهم، إمكان الإشعار بأن إذهاب الضوء بدون النار من التفكيك بين العلة والمعلول، بخلاف إذهاب النور، فإنه إما هو نفس النار لكونه جمعها، أو هو الجمع بين النار الحسي والنار الكنائي المتوقد في نفوسهم، أو هو النور المعنوي الملألئ في نفوسهم، للاستعداد الفطري الثابت لكل مولود.

الوجه الحادي عشر: حول (ذهب الله بنورهم) في إسناد الإذهاب إلى الله تعالى، وفي وجه تعدية الذهاب بالباء ما مر في البحوث السابقة في الآيات الماضية، وقد أشير فيما سلف إلى توهم: أن التعدية بالباء ربما تنتهي إلى أن الله تعالى لا يكون مصاحبا للمذهوب به، بخلاف التعدية بالهمزة، فليتدبر. ولو كان جملة (ذهب الله بنورهم) من تتمة التمثيل فالمقصود أن الأرياح والعواصف - المستندة في وجودها وحركاتها - إليه تعالى ذهبت بنورهم الحسي، ولو كانت هي للأعم من التمثيل والممثل له - كما عرفت تحقيقه - فذهب الله بالعوامل الحسية نورهم الحسي، وبالعوامل الأفعالية والأخلاقية نورهم المعنوي، وإمكان هدايتهم الاستعدادي، أو جوهرة سعادتهم الفطرية وخميرة حسناتهم المخمورة، وسيمر عليك صحة النسبة على نعت الحقيقة إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني عشر: حول النور والظلمات في توحيد النور وتكثير الظلمات، وتعريف النور وتنكير ظلمات، نهاية المناسبات مع المقام، كما لا يخفى على ذوي الشعور والأفهام: ولعل منها: أن النار الموقدة، والنقطة البيضاء المتوحدة - في النفس أو في القلب - ليست فيها الكثرة، لأجل أنها متحركة من المرتبة البسيطة الابتدائية، فتكون هذه النار مشفوعة بكثرات ظلمات مختلفة من الانحطاطات الروحية، فإذا أوقد نار الوحدة في خلال هذه الكثرات، تسري إليها وتضمحل الكثرة بتوغل النفس في عالم الوحدة وتوجهها إلى الواحد المتوحد بالوحدة الحقة. ومنها: أن الذي أوقد النار كان واحدا في الجماعة المتوغلين في ظلمات البر والبحر، فيناسب توحيد النور وتكثر الظلمة باعتبار توحيد الموقد وتكثير الجماعة إلا أن وحدة النار وحدة شخصية ووحدة النور نوعية، باعتبار أن كل واحد من المنافقين تنور بنور الذات وبنور الإقرار بالإسلام والإيمان. ومنها: أن نورانية كل شئ بوحدته، وظلمانية كل شئ بكثرته، ولأجل ذلك وحد النور في الكتاب العزيز دائما وكثرت الظلمة جمعا. وأيضا أن في النور وحدة ذاتية، وفي ضده ضدها، وهي الكثرة الذاتية. ومنها: أن المركز واحد والجهات المحيطة به كثيرة، وكانت النار في المركز، ويستضاء بها الجهات الست وما حولها من الأطراف المحيطة به، فإذا ذهب الله بنورهم الموجود في المركز، وقعوا في الظلمات المتوجهة إليهم من أطرافهم، وسواء فيه كون المراد من النار والنور معناهما الحسي أو حقائقهما المعنوية الروحية. وربما يكون النظر في تكثير الظلمة إلى بيان المبالغة في حدها، لا إفادة كثرتها، فإن الجمع كما يدل على الكثرة الأفرادية، يدل أحيانا على الاشتداد الأحوالي، وفي ذلك إبانة أمر آخر وإيضاح سر خفي: وهو أن من استنار بنار واستضاء بضوئها في الظلمة الحسية أو المعنوية، ثم استبدل النار والنور بالظلمة المتعقبة لهما، يصير في التحير والظلام الأشد والأسوء من الذي لم يستضئ بنور من بدو وجوده، ولم يوقد النار من ابتداء خلقته، فالإيقاد والاستضاءة مقدمة لإفادة اشتداد الظلمة، وهكذا صيغة الجمع.

الوجه الثالث عشر: حول (تركهم في ظلمات) ربما يخطر بالبال أن الأوفق بأسلوب البلاغة والإيجاز المقصود في الكلام، أن تكون الآية هكذا: " ذهب الله بنورهم فهم لا يبصرون "، وذلك لأجل تمامية الكلام في المقام بدون جملة (وتركهم في ظلمات). وهنا إشكال آخر وهو: أن إسناد الترك إليه تعالى خلاف أسلوب البحث، ولا يساعد عليه العقل، مع أن الترك عدمي لا يمكن أن تناله يد الجعل والتكوين، فما هو قابل لأن يتعلق به الإرادة الإلهية هو إذهاب النور، ولازمه تركهم في الظلمات، فمن هذه الجملة تنشأ إشكالات ثلاثة، بإضافة إشكال عقلي آخر يأتي تفصيله في بحوث فلسفية إن شاء الله تعالى. أقول: الإشكالات المزبورة تنحل في البحوث الحكمية الآتية - إن شاء الله تعالى - لارتباطها بتلك المسألة كما لا يخفى. وأما الإشكال الأول المربوط بهذه الصحائف، فينحل بأن كتاب الله تعالى كتاب الهداية والإيصال إلى مراتب السعادة والمحاسن الأخلاقية والعقلية، فلابد وأن يكون متضمنا لجهات الترغيب والتحريض نحو المطلوب، ولا يصح في هذه الورطة الإيجاز، كما ترى في تكرار القصص والحكايات، وهداية البشر بسبل مختلفة وطرق شتى. ومن ذلك هذه الكريمة الشريفة، فإنها مضافا إلى توبيخ المنافقين، وتثريب الكفار والملحدين وتحقير الفاسقين، تكون هادية إلى الخير ومرشدة إلى الصواب والحق، وإلى أن النفاق من الحالات الجحيمية، ومن الأوصاف الشيطانية التي يجب الاجتناب عنها برفعها ودفعها، فمن لا يكون من المنافقين يتوجه من هذه الآية إلى سوء النفاق فيجتنب منه، ومن كان من المنافقين ينتقل من هذه الآية إلى لزوم التخلي عنه والفرار منه. فعلى هذا لابد من تركيز البحث حول هذه الصفة المذمومة بذكر تبعاتها تصريحا، ولابد من توجيه الأنظار ولفت الأفكار إلى خصائصها القبيحة بالوضوح والتكرار، حتى يتجلى للمستمعين حقيقته الفاسدة وباطنه المظلم. وعليه أن تنادي بأعلى صوتها: أن النفاق والمنافق كالمستوقد نارا، كلما أضاءت ما حوله بالنار ذهب الله بنورهم، وتركهم في الظلمة واللانورية، وتركهم في العمى واللابصرية وغير ذلك من النعوت الرذيلة والحالات الكاسدة الحسية والعقلية.

الوجه الرابع عشر: المراد بالظلمات اختلفوا في " الظلمات ": فقال ابن عباس: هي ظلمة العذاب (22)، وقال مجاهد: ظلمة الكفر (23)، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت (24)، وقال السدي: ظلمة النفاق (25). ولأحد يقول: هي جمع، ويصح إرادة الكل. ولآخر دعوى: أن الظلمات التي وقعوا فيها هي الظلمات المذكورة في الآيات السابقة، من الإسنادات الباطلة والمقاصد الفاسدة التي يبينها قوله تعالى: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (26)، وقوله تعالى: (وما كانوا مهتدين)، وقوله تعالى: (يخادعون الله)، و (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)، وقولهم: (إنما نحن مصلحون) وقولهم: (كما آمن السفهاء)، وقولهم: (إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، وقوله تعالى: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) وقوله تعالى: (وما كانوا مهتدين)، فهم واقعون في هذه الظلمات الأخلاقية والاعتقادية والفعلية والقولية، ولمكان إفادة عدم الاختصاص بما ذكر نكرت " ظلمات " مثلا، ويفيد التنكير أن الظلمات ليست مترشحة عن الذوات، بخلاف نورهم، فإن كل مولود مخلوق على أصل نوري، والظلام من سوء الآباء والأمهات.

الوجه الخامس عشر: حول مفعول " لا يبصرون " من وجوه البلاغة: حذف المفعول إذا لم يكن المتكلم في موقف إفادته، كما في قوله تعالى: (لا يبصرون) مع أنه يفيد العموم، كما أن نفي الإبصار أعم من الحسي والعقلي، وتوهم تناسب الفاء هنا مع ترتب عدم الإبصار على فقدان النور وحدوث الظلمة، لا يليق ولا ينبغي لمن تدبر في الوجه الأول الذي مر تفصيله. ويمكن أن يدل على أن جملة (لا يبصرون) وصف لقوله تعالى: (في ظلمات)، فيحصل هنا قيد، فإنهم ليسوا في مطلق الظلمات بالضرورة، فلاحظ وتدبر جيدا.


1- العنكبوت (29): 43.

2- الكشاف 1: 72، التفسير الكبير 2: 73.

3- روح المعاني 1: 163.

4- الأنفال (7): 2.

5- تفسير المنار 1: 168.

6- التفسير الكبير 2: 73.

7- تفسير المنار 1: 168.

8- البحر المحيط 1: 74.

9- التفسير الكبير 2: 75.

10- الجمعة (62): 5.

11- البحر المحيط 1: 74.

12- التوبة (9): 69.

13- البحر المحيط 1: 74.

14- أي: فزادت.

15- راجع تحريرات في الأصول 1: 293.

16- راجع آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 249 - 250.

17- راجع تحريرات في الأصول 1: 109.

18- المائدة (5): 64.

19- التفسير الكبير 2: 74.

20- آل عمران (3): 103.

21- تبت (111): 3.

22- راجع تفسير الطبري 1: 142، والبحر المحيط 1: 81.

23- راجع تفسير الطبري 1: 143، والبحر المحيط 1: 81.

24- راجع تفسير الطبري 1: 142، والبحر المحيط 1: 81.

25- راجع البحر المحيط 1: 95، وتفسير ابن كثير 1: 95.

26- الأنعام (6): 110.