النحو والإعراب

مسألة: الفرق بين التعدية ب? " الباء " و " الهمزة " اختلفوا في أن التعدية بالباء والهمزة لا تقتضي فرقا بحسب المعنى، فتكونان مترادفين، كما عليه الجمهور، فإذا قلت: خرجت بزيد، فمعناه: أخرجت زيدا، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت (1)، أم يحصل بينها التفرقة، كما عن أبي العباس، حيث قال: إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيدا، لم يلزم أنك قمت (2). ونسب ذلك إلى السهيلي، وقال: تدل الباء المعدية حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة مع المفعول في ذلك الفعل، نحو أقعدته وقعدت به، ولا يصح هذا في مثل أمرضته وأسقمته (3). ويظهر من الفخر أيضا ذلك، حيث قال: والفرق بين " أذهب " و " ذهب به ": أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه، ومعنى به: معه (4). انتهى. ولأجل ذاك وذلك استدلوا بهذه الآية الشريفة على فساد مذهبهم: بأن الفرق المزبور باطل، ضرورة أنه تعالى لا يوصف بالذهاب (5). وفيه: أن عدم إمكان توصيفه حسب الحقيقة صحيح، إلا أن هناك دقيقة تأتي في بعض البحوث الآتية، وهي تحت هذه التفرقة. وبالجملة: كما لا يوصف هو تعالى بالمجئ واقعا في قوله تعالى: (وجاء ربك) (6)، كذلك الأمر هنا، فتربص حتى حين. ثم إن القول بعدم الفرق وبالترادف على خلاف الأصل، وكثرة الترادف في اللغة لا تضر بالأصل المزبور، مع أنها أيضا غير واضحة، وقد بالغ في ذلك من تخيل امتناعه الذاتي، بل الوقوعي منه، كما تحرر في الأصول، إلا أن الأقرب اختلاف اللغات غالبا، فليتدبر جيدا. قوله تعالى: (مثلهم كمثل) الجملة استئنافية غير معطوفة، مركبة من المبتدأ المخصص ومن الخبر المخصص، وازدياد تخصيص الخبر لا يوجب منع الابتداء. وقيل: " مثلهم " مبتدأ خبر محذوف، أي مثلهم مستقر، فتكون الكاف حرفا (7). والحق: أن الكاف اسم في مثل المقام، وما اشتهر من حرفيته غير تام، ولا برهان على لزوم كون الأسماء ثلاثية أو أكثر، وتفصيله في محل آخر. قوله تعالى: (الذي استوقد نارا) لا إشكال في هذه الآية بالنظر إليها، أي في هذه الجملة، وإنما وقعوا في حيص بيص من جهة أن المبتدأ جمع والخبر مفرد، ولا يجوز اختلافهما في ذلك. واستدل لابن الشجري هبة الله بن علي بها، لما قال: بأن كلمة " الذي " تقع على المفرد والجمع (8)، وعليه تخريج قول الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (9)، وقوله تعالى: (وخضتم كالذي خاضوا) (10). وقال آخرون في خصوص المقام: إن الآية تخرج على تقدير لفظة " الجمع "، أي ك? " مثل الجمع الذي "، واختاره ابن حيان (11). ولا يخفى ضعفه وبرودته. وقد مر أن منهم من قال: بأن " الذي " المشدد مخفف " الذين " (12) غافلا عن إفراد الصلة، وابتلي بما لا يجوز عند الكل. والذي يجب التنبيه عليه: أن تصحيح الكلام بما يخترعه الأنام، وتسوله نفوسهم السيالة، وتحتاله الأوهام المكارة، مما يمكن بالنسبة إلى أغلط الجمل، فضلا عن كلامه تعالى، فتخريج كلامه على خلاف الأصول الموضوعة غير جائز إلا بالرجوع عنها، لأنه أصل مفروغ عنه عند أهل اللسان مثلا. وأما الذي يظهر لي في هذه الآية، ويأتي البحث عنه عند كل آية في محلها: أن التوافق بين المبتدأ والخبر لازم، وهو حاصل، لأن ما هو المبتدأ عنوان بسيط اعتباري من جماعة المنافقين، فإذا قيل: " مثلهم " فليس هو من الجمع لأجل الضمير، بل هو مفرد، لأن مفاد ضمير الجمع هنا مفاد العام المجموعي، فلا خلاف بين المبتدأ والخبر، ولا يهمهم هذا في المقام. نعم ما هو مورد الاهتمام مشكلة أخرى: وهو قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) حيث رجع ضمير الجمع إلى " الذي " المفرد، مع أنه أتى بصلة الموصول على الأفراد أيضا، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين مثلا، فلابد في الآية من التقدير والحذف، وهو خلاف الأصل. والذي يظهر لي: أن كلمة " الذي " و " من " ليستا من قبيل الأعلام الشخصية، فهما يحملان على الأفراد على البدل، وكما يجوز إرجاع ضمير الجمع إلى " من " الموصول، وقد كثر ذلك في القرآن العزيز، ومر منا تحقيقه في ذيل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) (13)، كذلك يجوز ذلك في " الذي "، بل والألف واللام الموصول، وقد احتملنا ذلك هناك، نظرا إلى أن ضمير " عليهم " يرجع إلى الألف واللام. هذا، مع إمكان دعوى الحذف على وجه مقبول إنصافا، وذلك لأن المستوقد في المثال ليس من يستوقد لنفسه وحدها، بل هو يستوقد لأهله طبعا، ويكون الذي يتكفل الإيقاد والاستيقاد واحدا من الجماعة، ولكن المنتفع من النار المستوقدة جماعتهم وأهلهم، فتخرج الآية هكذا: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا لأهله وجماعته، فلما أضاءت النار ما حوله، ذهب الله بنورهم ونيرانهم، والله الحقيق بالتصديق. وما اشتهر: من لزوم كون المرجع في الكلام غير صحيح، بل المتعارف على خلافه، بعد وضوح المرجع ومعلومية موضوع الكلام، كما في المقام. قوله تعالى: (فلما أضاءت ما حوله) عطف على جملة الصلة، وقيل: جواب للشرط المستفاد من الموصول، وكأنه قيل: الذي إن استوقد نارا، والمراد من العطف هنا هو ترتب مدخول الفاء على ما قبله، وهو الإيقاد، وهذا الترتب يشهد على أن الاستيقاد بمعنى الإيقاد، لما لا ترتب بين الإضاءة والطلب، و " أضاءت " فعل، وفاعله مستتر فيه يرجع إلى النار. ويحتمل كون فاعله لفظة " ما " والتأنيث - حينئذ - باعتبار المعنى، وعلى كل تقدير تكون " ما " بين موصولة وموصوفة، والظرف صلة أو صفة. ويحتمل كون " ما " زائدة بناء على كون الفعل لازما، ولا مرجح للقول بعدم الزيادة، لأن كونها موصولة أيضا يقتضي حذف الصلة، أي ما كان حوله من الجهات الست. ويحتمل أن تكون كلمة " ما حوله " ذات وضع على حدة، بمعنى الأطراف والجهات. ثم إن الظرف في محل نصب، إما لأجل الفعل المحذوف، أو لأجل كونه صفة المفعول، أو لأجل نزع الخافض - بناء على جوازه في المقام - والضمير فيه يرجع إلى الموصول، ويحتمل رجوعه إلى النار، بناء على أن الإضاءة لازم، أي: فلما أضاءت المكان الذي حول النار، وقد مر أن النار قد يؤنث، بل يجوز ذلك مطلقا. قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) جواب " لما "، سواء كانت حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب، أو بمعنى " حين " أو " إذ "، فإن الجواب ترتب على القضية السابقة، سواء كانت تلك القضية علة تامة أو ناقصة، أو كانت الجملة الثانية متوقفة في الصدق على الأولى، كما فيما نحن فيه. وقيل: واشتهر أن الجواب محذوف، أي: فلما أضاءت ما حوله طفئت أو خمدت النار، فذهب الله بنورهم (14)، فيكون المرجع المنافقين، وتكون الجملة خارجة عن التمثيل، بل تصير من باب تطبيق الممثل على المثال، كما يأتي تفصيله في وجوه البلاغة. قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) عطف على الجملة الأخيرة الظاهرة، ويحتمل أن تكون معطوفة على المحذوفة التي كانت جواب " لما "، ويحتمل كونها حالا مؤكدا، إذ لا معنى للإخبار عن تركهم في الظلمة بعد الإخبار بذهاب نورهم. اللهم إلا أن يقال: بأن في الحال يعتبر الاستقبال. و (في ظلمات) متعلق بفعله، ولا يعتبر أن يكون حالا من الضمير، ولا مفعولا ثانيا، بل هو هنا من قبيل قولك: اتركهم في البر، فيعد ظرفا لفعله، وجملة (لا يبصرون) في موضع الحال، وقد مر أن مادة " ترك " لا تقتضي المفعول الثاني، ولا يعد من أفعال المقاربة، ولا منع من كون الجمل الثلاث حالات متعاقبة: (ذهب الله بنورهم)، والحال أنه تركهم في حال الظلمة، وفي حال لا يبصرون، إلا أنه بعيد عن ساحة كلامه تعالى. وقيل: (في ظلمات) حال، و (لا يبصرون) مفعول ثان، أي تركهم لا يبصرون وهم في ظلمات (15)، مع أن الأنسب كون العلة مقدمة، فإن علة عدم إبصارهم كونهم في ظلمات، كما أن علة وقوعهم في الظلمات إذهاب نورهم، وأما حذف الضمير العائد على " الظلمات "، فإما لأجل وضوحه، أو لأجل الإيماء إلى أن هذه الظلمات ليست بحسب الحقيقة ظرف أعيانهم ووجوداتهم، بل هي مراتب حقيقتهم وعين طبيعتهم، فلا نحتاج إلى العائد حتى يفيد الغيرية والظرفية.


1- البحر المحيط 1: 80.

2- نفس المصدر.

3- نفس المصدر.

4- التفسير الكبير 2: 76.

5- راجع البحر المحيط 1: 80.

6- الفجر (89): 22.

7- البحر المحيط 1: 76.

8- الجامع لأحكام القرآن 1: 212.

9- الزمر (39): 33.

10- التوبة (9): 69.

11- راجع البحر المحيط 1: 76 / السطر 19.

12- البحر المحيط 1: 74.

13- راجع الفاتحة: الآية 7، النحو والإعراب، إيقاظ.

14- انظر الكشاف 1: 73.

15- البحر المحيط 1: 81، روح المعاني 1: 167.