اللغة والصرف ومسائلهما

الآية السابعة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " المثل " المثال - بالكسر - والمثل والمثل والمثيل، كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى، وأصل المثل والمثول الانتصاب. هكذا في " المفردات " (1). وفي " الأقرب ": مثل الرجل: قام منتصبا، وفلانا بفلان: شبهه به، وفلان فلانا: صار مثله (2). انتهى. والذي يظهر لي من الدقة في معناه، ومن قوله تعالى: (ولله المثل الاعلى) (3)، وقوله تعالى: (ليس كمثله شئ) (4) أن هذه المادة تشعر بالوجود النازل للشئ، الحاكي له نحو حكاية واقعية غير جعلية، أو ادعائية جعلية، فإذا قيل: (تمثل لها بشرا سويا) (5) يستفاد منه الوجود النازل المماثل الحاكي له، الملازم لكونه شبيها به حتى يحكيه، ونظيرا له حتى يوجب الانتقال إليه. وقولهم: فلان ممثل فلان، أي وجوده الثاني ونائبه وحاكيه بوجوده، لا بقوله وفعله. ومن الوجود الادعائي الجعلي كون (الذي استوقد نارا...) إلى آخره ممثلا وحاكيا للمنافق المظهر للإسلام والإيمان.

المسألة الثانية: حول كلمة " استوقد " استوقد النار: أشعلها، والنار نفسها اشتعلت. انتهى ما في " الأقرب " (6). ويحتمل أن تكون " استوقد " المتعدي من الوقد بمعنى الاشتعال، و " استوقد " اللازم من الوقد بمعنى النار، فيكون فعلا متخذا من الجامد. وقد مضى ما يتعلق بهيئة باب الاستفعال، فإنها قد تجئ لغير الطلب، ويحتمل هنا أن تكون بمعنى الطلب، أي استوقد وطلب النار، وعندئذ إذا قيل: استوقد نارا يصير مثل قوله تعالى: (أسرى بعبده ليلا) (7).

المسألة الثالثة: حول كلمة " النار " النار: جوهر لطيف مضئ محرق، مؤنثة وقد تذكر، وتصغيرها نويرة، وجمعها أنور ونيران ونيرة ونور ونيار، والنار السمة (8)، وتقال للهيب الذي يبدو للحاسة وللحرارة المجردة. وقال بعضهم: النار والنور من أصل، وكثيرا ما يتلازمان، لكن النار متاع للمقوين في الدنيا، والنور متاعهم في الآخرة (9). انتهى ما في " الأقرب " و " المفردات ". ويؤيد وحدتهما في الأصل جمعهما على نيران. وربما يؤيد الإطلاق الأخير قوله تعالى: (خلقتني من نار وخلقته من طين) (10)، مع أنه قال في سورة الرحمن: (خلق الجان من مارج من نار) (11)، وهكذا قوله تعالى: (أفرأيتم النار التي تورون) (12). أقول: هذه اللفظة استعملت في القرآن في قريب من (150) موضعا، وفي هذه المواضع أريد منها المعنى الجوهري، لا الحرارة ولا لهيبها، وإطلاقها وإرادة الحرارة واللهيب مع القرينة، لا يدل على أنها حقيقة في المعنيين، أو المعاني الثلاثة.

المسألة الرابعة: حول كلمة " لما " اختلفوا في " لما ": أنها بسيطة، أم مركبة، فذهب الزمخشري تبعا لابن جني إلى الثاني، وقالوا: إنهم لما زادوا في الإثبات قد زادوا في النفي أيضا كلمة " ما " (13). والذي هو التحقيق: هو الأول، وذلك لأن كلمة " لما " في جميع موارد الاستعمال واحدة، ولا معنى لأن يقال ببساطته في موضع وتركبه في موضع آخر. وعلى هذا إذا نظرنا إلى قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ) (14) نجد أنها بسيطة، وهكذا فيما يحذف مدخول كلمة " لما "، كقوله: (وإن كلا لما) (15) أي لما يهملوا، مع أن قضية التركيب وكون " ما " زائدة، جواز حذف مدخول " لم "، ولا يلتزمون به. ثم اعلم أنها تجئ لمعان ثلاثة: الأول: أن تختص بالمضارع، فتجزمه وتقلبه ماضيا وتنفيه، وهي مثل " لم " في جهات، وتغايرها في جهات مذكورة في المفصلات (16). الثاني: ترد على الماضي وتستتبعه الجملة الثانية على شبه الشرطية، نحو " لما جاءني أكرمته ". الثالث: وقد تجئ للاستثناء، فتدخل على الجملة الإسمية، نحو (إن كل نفس لما عليها حافظ)، واختلفوا في صورة دخولها على الماضي في أنها حرف وجود لوجود، أو حرف وجوب لوجوب، أم هي ظرف لفعل وقع لوقوع غيره، وعن جماعة: أنها ظرف بمعنى " حين " (17)، وقال ابن مالك هي بمعنى " إذ " واستحسنه ابن هشام (18). أقول: كونها حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب ليس محط النزاع، ولا يليق به، لأن ذلك يستتبع الفعل الذي دخل عليه، فإذا قيل: لما أكرمني أكرمته، فهو يفيد الوجود للوجود، وإذا قيل: لما أوجب إكرامي أوجبت إكرامه، تفيد الوجوب للوجوب. والذي يظهر لي: أنها كلمة فيها معنى الوقتية أي أنها تفيد نحوا من القضية الاتفاقية، وتكون بمعنى وقوع الحادث عقيب الحادث، من غير دلالة على الشرطية ودخالة المقدم في تحقق التالي. ثم إن في الوجه الثالث يحتمل كونه مركبا من " ما " النافية و " لم " الزائدة المؤكدة.

المسألة الخامسة: حول كلمة " أضاءت " أضاءت البيت فأضاء، أي نوره فأنار، لازم ومتعد، الضوء والضوء مصدران، الجمع أضواء (19). وقيل: الضوء لما هو بالذات كالشمس والنار، والنور لما هو بالعرض والاكتساب من الغير (20). وفي " المفردات ": الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة (21). انتهى. وفيه ما لا يخفى، لأن ما ينتشر منها أعم من الضوء. ويمكن دعوى: أن الضوء عمل النور، فإن النور جسم - كما يأتي - وله عمل وهو الإنارة والضوء، فإطلاقه على الجسم مجازي.

المسألة السادسة: حول كلمة " حول " " حول ": الجهات المحيطة بالشئ ويأتي تمام الكلام حول " الحول " في محل آخر إن شاء الله تعالى. وقال ابن حيان: إنها تلزم الإضافة، ولا تتصرف وتثنى وتجمع (22).

المسألة السابعة: حول كلمة " النور " النور - بالضم -: الضوء أيا كان، وهو خلاف الظلمة أو شعاعه (23). وقيل: النور كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات. جمعه: أنوار ونيران (24). وقيل: النور الذي يبين الأشياء. النور أيضا: حسن النبات وطوله، جمعه نورة، والوسم، يقال: ما به نور، أي وسم (25). ومر في المسألة الخامسة من فصل بين الضوء والنور: بأنه الأصل والثاني بالاكتساب، متخذا من الكتاب العزيز: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) (26). وقال في " المفردات ": النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأمور الإلهية، كنور العقل ونور القرآن، ومحسوس بعين البصر (27). انتهى. ثم إن النور لم يستعمل جمعا في الكتاب الإلهي، وله نظائر أقصاها في " الإتقان " (28). أقول: لا ينبغي الخلط بين المفاد اللغوي، وبين الإطلاقات الرائجة المتداولة في الكتاب والسنة وفي الفنون والأدب، وما هو مورد النظر هو معناه اللغوي. والذي يظهر من التدبر والتأمل: أن النور معناه المحسوس، وليس المعقولات منه إلا ادعاء وتأويلا وتوسعا. وأما كونه بحسب المفهوم عين الضياء والضوء فقد مر الإيماء إليه. ويظهر: أن الضوء جاء مصدرا، بخلاف النور، فالضوء هو صنيع النور وفعله وعمله، وهي إنارته وتنويره، ثم استعمل في الذات مجازا وادعاء، ولأجل ذلك ترى في الكتاب العزيز عبر عن الشمس بالضياء، فكأنه للمبالغة، ومن قبيل زيد عدل، فإن الضياء مصدر ضاء ضوءا وضياء. هذا، مع أنه يوصف النور بالكدورة، بخلاف الضياء والضوء. ثم إن الألفاظ المنتخبة للاستعمالات الاستعارية والمجازية مختلفة، فإن مثل النور ربما غلب في النور المعنوي والمجرد مجازا حتى ربما يقرب من الحقيقة، وقلما يوجد إطلاقه على النور المحسوس بالنسبة إلى المعقول، بخلاف الضياء، فإنه على عكسه، وربما يتخذ للمعنى الاستعاري، كقوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين) (29)، ولعله يأتي من ذي قبل بعض بحوث عقلية تنفعك في المقام. وأما البحث عن ماهية النور، وكيفية وجوده، ونقل الأقوال والخلاف في تعريفه، فهو خارج عن هذا المختصر، فإن كتابنا هذا يتعرض لحدود الدلالات القرآنية، دون الأمور الأخر المتعلقة بها بأدنى ارتباط التي تشترك فيها سائر الكتب والعقائد، فإن ما ترونه في تفاسير القوم جله من هذا القبيل، وصارت كتبهم ضخمة ذات حجم عظيم، لأجل اشتمالها على الأمور البعيدة عن مفاد الآية، ولو شئت أن أدخل في هذا الباب لربما لا نخرج من آية من الكتاب. والله الهادي إلى الصواب.

المسألة الثامنة: حول كلمة " الترك " تركه يترك تركا وتركانا: خلاه، ومنه: ترك فلان مالا وعيالا، وأبقاه - ضد - ومنه: قوله تعالى: (وتركنا عليه في الآخرين) (30)، وترك بمعنى جعل، ومنه: فتل الحبل حتى تركه شديدا، فإن الترك إذا تعلق بمفعولين لا يبقى بمعنى التخلية والطرح، بل يتضمن معنى التحويل والتصيير، فيجري مجرى أفعال القلوب. انتهى بعض ما في " الأقرب ". وفيه: الترك عدم فعل المقدور بقصد أو بغير قصد، أو مفارقة ما يكون الإنسان فيه (31). انتهى. والذي يظهر لي: أن الترك بمعنى واحد، وهو الواضح، ولازمه في بعض الأحيان الإبقاء، فإذا قيل: (تركهم في ظلمات)، فمعناه: أنه خلى سبيلهم إليها، ولازمه إبقاؤهم فيها. وأما قولهم: فتل الحبل حتى تركه شديدا، فليس " شديدا " إلا حالا، فما في كتب اللغة غير متحصل. وما في " مجمع البيان ": أن الترك والإمساك والكف نظائر (32)، في غير محله، ولذلك وقعت كلمات الأصوليين في معنى صيغة النهي مختلفة، واختلافهم في أن معناها مجرد الترك وأن لا يفعل، أو الكف (33)، وقد تحرر في كتاب الصوم: أنه الإمساك لا مجرد الترك (34).

المسألة التاسعة: حول كلمة " الظلمات " الظلمة والظلمة: ذهاب النور، وقيل: هي عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا، جمعه ظلم وظلمات وظلمات وظلمات، وربما كني بالظلمة عن الضلالة، كما يكنى بالنور عن الهداية. قال الخليل: لقيته أول ذي ظلمة، أي أول شئ يسد بصرك في الرؤية لا يشتق منه فعل. انتهى ما في اللغة (35). أقول: الظلمة - بحسب الواقع - ليس إلا عدم النور والضياء، إلا أنه لمكان وقوعها في الارتسام بالقياس إلى النور، وضع لها اللفظ، وربما ينسب إليه الجعل، كما في قوله تعالى: (وجعل الظلمات والنور) (36)، فما قيل: إنه ذهاب النور، أو إنه العدمي مقابل الملكة، غير صحيح، فإنه لو لم يكن في العالم علة النور، يكون العالم في ظلمة قطعا، من غير استنادها إلى سبب وعلة. ثم إن هذه الكلمة لم تستعمل في القرآن الشريف إلا جمعا، على خلاف النور في هذه الخصوصية أيضا، فإنه لم يستعمل إلا مفردا ولعل في ذلك سرا يأتي في محله. وأما ما قاله من التكني والكناية، فهو غير صحيح، لأن في المقام يكون من باب الاستعارة والادعاء، وأن الهداية نور ومصداق له، والضلالة ظلمة ومصداق لها، فلا تخلط، والأمر سهل.

المسألة العاشرة: حول كلمة " الإبصار " أبصره: رآه وأخبره بما وقعت عينه عليه، وفلانا: جعله بصيرا، والطريق: استبان ووضح (37). انتهى ما في اللغة. وقال في " الأقرب ": البصر يقال للجارحة الناظرة، نحو قوله تعالى: (كلمح بالبصر) (38)، للقوة التي فيها، ويقال للقوة المدركة: بصيرة، وجمع البصر أبصار، والبصيرة بصائر (39). انتهى. وقال في " المجمع ": والإبصار إدراك الشئ بحاسة البصر (40). انتهى. والذي يظهر لي بعد التدبر في سائر مشتقاته ويساعد عليه الاعتبار: أن هذه المادة مأخوذة من " البصر " بمعنى الجارحة، ثم استعمل في ما يناسبها من الإحساس والإدراك، وإذا قيل: هو البصير، أو له بصيرة، فليس معناه إلا أنه ذو الجارحة، إلا أنه أريد منه لازمه، وهي الخبروية والنورانية القلبية، حتى في قوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (41)، فإن معناه الحقيقي أنه بالنسبة إلى خفاياه ذو بصر، إلا أن البصر الذي يبصر به الباطن أمر ادعائي، ولا يبعد لأجل كثرة الاستعمال كون البصيرة حقيقة في المعنى الروحاني والقلبي، وجمع على هذا بنحو آخر، فتدبر.


1- راجع المفردات في غريب القرآن: 462.

2- أقرب الموارد 2: 1183.

3- النحل (16): 60.

4- الشورى (42): 11.

5- مريم (19): 17.

6- أقرب الموارد 2: 1473.

7- الإسراء (17): 1.

8- أقرب الموارد 2: 1357.

9- المفردات في غريب القرآن: 508.

10- الأعراف (7): 12.

11- الرحمن (55): 15.

12- الواقعة (56): 71.

13- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 277.

14- الطارق (86): 4.

15- هود (11): 111.

16- راجع مغني اللبيب: 145.

17- راجع مغني اللبيب: 146.

18- الإتقان في علوم القرآن 2: 277، مغني اللبيب: 146.

19- أقرب الموارد 1: 692.

20- أقرب الموارد 1: 692.

21- المفردات في غريب القرآن: 300.

22- البحر المحيط 1: 75.

23- راجع أقرب الموارد 2: 1357.

24- نفس المصدر.

25- أقرب الموارد 2: 1357.

26- يونس (10): 5.

27- المفردات في غريب القرآن: 508.

28- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 355 - 361.

29- الأنبياء (21): 48.

30- الصافات (36): 78.

31- أقرب الموارد 1: 76.

32- مجمع البيان 1: 54.

33- تحريرات في الأصول 4: 84.

34- كتاب الصوم، المقدمة، الجهة الأولى في مفاده اللغوي.

35- أقرب الموارد 2: 732.

36- الأنعام (6): 1.

37- أقرب الموارد 1: 45.

38- القمر (54): 50.

39- المفردات في غريب القرآن: 49.

40- مجمع البيان 1: 54.

41- القيامة (75): 14.