التفسير والتأويل على مشارب مختلفة ومسالك شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) باعوا دين الله واعتاضوا منه بالكفر بالله (فما ربحت تجارتهم) أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة، لأنهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنة التي كانت معدة لهم لو آمنوا (وما كانوا مهتدين) إلى الحق والصواب (1). وقريب منه: (أولئك) المنافقون - المسلمون بحسب الظاهر - (اشتروا الضلالة) بعلي (عليه السلام)، واستبدلوا وتلاعبوا في الأمر (فما ربحت تجارتهم) بحساب المجموع، (وما كانوا) من المسلمين حقيقة من أول الأمر، ولم يؤمنوا بالله طرفة عين أبدا.

وعلى مسلك أرباب الحديث: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، كما عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)، أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين راشدين في صنيعهم ذلك (2). وقريب منه: (أولئك الذين اشتروا الضلالة) والكفر (بالهدى) والإيمان، كما عن ابن عباس (3). وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا (4). وقال قتادة: واستحبوا الضلالة على الهدى (5)، وفي قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (6)، (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) قال قتادة: قد والله رأيتهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة (7).

وعلى مسلك أرباب التفسير: (أولئك الذين اشتروا الضلالة) والنفاق (بالهدى) وبإيمانهم الذي بنوا عليه من اتباع موسى (عليه السلام) مثلا (فما ربحت تجارتهم) وما نمت وما ازدادت، (وما كانوا مهتدين) من الأول، لأنهم كانوا على غير الإسلام، كما قال الله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين) (8). وبعبارة أخرى: إن اليهود كانوا على الهداية حسب معتقدهم، وصاروا على الضلالة لأجل نفاقهم، وذلك ارتداد في دينهم وحسب مذهبهم، مع أنهم (ما كانوا مهتدين) واقعا. وقريب منه: (أولئك الذين اشتروا) واختاروا (الضلالة) - بجميع معنى الكلمة وبمراتبها الدانية والقاصية - (بالهدى)، أي على الهدى بجميع مراتبه، فما بقي عندهم منه شئ (فما ربحت تجارتهم) لما لا يكون عندهم شئ من رؤوس أموالهم حتى تربح، (وما كانوا مهتدين) من ابتداء الخلقة، على خلاف العام المعروف، وهو أن كل مولود يولد على الفطرة (9)، فهم قد خرجوا منه بشهادة نفاقهم الطارئ وتلبيسهم العارض عليهم. وقريب منه: (أولئك) المنافقون على اختلاف طبقاتهم، ومنهم طائفة من المسلمين والمؤمنين (اشتروا الضلالة) بمعنى أن كل من كان في مرتبة من الهداية وباعها بمرتبة من الضلالة، واستبدلها (بالهدى فما ربحت تجارتهم) على اختلاف ترقبهم من الربح الدنيوي أو الأخروي وذلك كله له سر وعلة، وهو أنهم (ما كانوا مهتدين) حقيقة وعلى الإطلاق. وقريب منه: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) الذين كانوا عليه حسب الخلقة الأصلية والفطرة الإلهية، (فما ربحت تجارتهم) وما ربحوا من تجارتهم ومبادلتهم، وخسروا خسرانا مبينا بذهاب رؤوس أموالهم واستعدادهم الذاتي المهيأ لهم إلى الجنة التي هي الربح حقيقة، لأنها الباقي واقعا، وبصيرورتهم أضل سبيلا وأسوأ حالا من غير التاجر والعامل، وكل ذلك لأجل أنهم (ما كانوا مهتدين) بالهدايات الاكتسابية، والإرشادات النبوية والعلوية، وباتباع الأحكام الإسلامية والقوانين الربانية. وقريب منه: (وما كانوا مهتدين) أي إن قولنا: إنهم (اشتروا الضلالة بالهدى)، غير صحيح في حقهم، وهم غير لائقين لهذه المفاهيم، وذلك لأنهم (ما كانوا مهتدين)، حتى يتمكنوا من اشتراء الضلالة بالهدى، بل كانوا هم الضالين وغير المهتدين بجميع مراتب الاهتداء، من الهداية الاختيارية الاكتسابية إلى الهداية غير الاختيارية، فإنهم المحجوبون المطرودون، وفطرتهم المخمورة صارت لسوء فعالهم محجوبة، حتى تبين أنهم احتجبوا من النطفة عن الهداية، ووقعوا في الهلاك والخسران، فإن الشقي شقي في بطن أمه (10)، والباطل من شقي في صلب أبيه.

وعلى مسلك الحكيم: (أولئك الذين اشتروا) بالاختيار - لا بالقهر والإجبار - (الضلالة) والشقاوة والخسران والدنيا بأفعالهم الفاسدة الاختيارية، وأتجروا بجلب الضلالة والظلمة - وبالحركة غير المستقيمة والتبدل والتحول التضعفي - (بالهدى)، وبإعطاء الهداية الذاتية والاستعداد الفطري والهيولي التوحيدي، فاستبدلوها به، رفضوا الهدى والطريق المستقيم المتحرك فيه حسب الأصل ومقتضيات الذات، فباعوا الآخرة بالدنيا، والدرة الفاخرة بالثمن الأرخص الأدنى، فاستحبوا العمى على الهدى الحاصل في مادته بالاختيار، المنتهي إلى آبائه أو أمهاته، أو إلى أفعاله وأقواله، أو الحاصل فيها بالاختيار المنتهي إلى اختيار الله تعالى في سلسلة العوامل والأسباب والمسببات والمعاليل. (فما ربحت تجارتهم) أدبا، وإلا فخسرت تجارتهم خسرانا يحصل لهم على وجه لا يتمكنون من الفرار منه ومن تفكيكه، لأنه من اللوازم القهرية للحركة الجبلية الذاتية الأصيلة. وبالجملة: لا يدور الأمر بين ثلاثة: الخسران، والربح، وعدم الربح، بل الأمر هنا يدور بين الخسران والربح، فإذا ما ربحت تجارتهم فقد خسرت، وفي إسناد الخسران إلى التجارة، إيماء إلى أنه من الأمور القهرية الحاصلة من المبادئ الاختيارية وبسوء الاختيار. (وما كانوا مهتدين) على نعت خارج المحمول والمحمول بالصميمة، حتى لا يتمكنوا من الاشتراء والبيع، بل كان عندهم - على نعت المحمول بالضميمة - شئ من الهداية، فجعلوها ثمنا.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 125 - 126.

2- راجع تفسير ابن كثير 1: 92، وتفسير الطبري 1: 137، والدر المنثور 1: 32.

3- راجع تفسير الطبري 1: 137، والدر المنثور 1: 31.

4- نفس المصدر.

5- راجع تفسير ابن كثير 1: 92، والدر المنثور 1: 32.

6- فصلت (41): 17.

7- راجع تفسير ابن كثير 1: 92، والدر المنثور 1: 32.

8- البقرة (2): 8.

9- الكافي 2: 10 / 4، عوالي اللآلي 1: 35، صحيح البخاري 6: 143.

10- التوحيد: 356 / 3، عوالي اللآلي 1: 35.