الأخلاق والمواعظ

(يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين) (1)، فيا أيها العزيز قد اهتدينا بهداياتكم البليغة وإرشاداتكم الرشيدة، فشكرا لكم وجزاكم الله جزاء المحسنين. ونرجو من الله ومن وليه الصالح وبقيته في الأرض أن يمن علينا، ويمدنا ويعيننا حتى لا نضل ولا نشقى، فإن الشياطين من كل جانب تحيط بنا، وتمر علينا في كل صباح ومساء، وتدعونا إلى الشرور والسيئات، ولا تقنع إلا بالكفر والنفاق، وبعد أن نشتري الضلالة بالهدى، فإن الضلالة والهدى ذوا مراتب كثيرة، ومن كان في الدرجة الثانية من الهداية التي هي ذات درجات عشر، فقد اشترى ثماني درجات من الضلالة بالهدى... وهكذا إلى أن يكون في الدرجة العاشرة، فإنه - عندئذ - باع الضلالة بالهدى فأصبح من المؤمنين الموقنين، ومن أصحاب اليمين ومن المقربين. فتكون تجارتهم رابحة، ومن المهتدين حسب الحقيقة والواقع النفس الأمري. فيا أخي ويا شقيقي: ألا ولا تظن أن مجرد الإيمان بالله وباليوم الآخر والإقرار بالإسلام وعقد القلب على أحكامه يكفيك، فإن الضلالات ودرجاتها هي الدنيا، وحبها هي الدنيا، ومراتبها من زخارفها ومشاغلها ولذاتها وكيفياتها، وما دام القلب - الذي هو عرش الرحمن - فيه حبها وحب مظاهرها وجمالاتها وكمالاتها، فهو في الضلالة، وهو من الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فلابد وأن تقوم قياما لا فتور فيه وتنهض نهوضا لا ضعف ولا مرض ولا عرض يعتريه، حتى تتمكن من إخراج الشبهات الإبليسية والتسويلات الشيطانية والوهمية.. إلى أن تتمكن من إخراج حب المقام والجاه والبقاء، حتى تتجافى جنوبكم عن المضاجع، ولا تكون من الخالدين، وذلك لا يمكن إلا بالجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وبتقليل الأغذية اللذيذة الملهية، فإن رأس كل داء كثرة الأكل، فإنها تورث كثرة الشهوة والباه والنوم والغفلة، فإن القلب الصافي يحصل بعد تصفية البطن وتخلية الباطن، فإذا تمكن الإنسان من هذا القدم - وهو القدم الأول - يتمكن من التجلية وجلاء الروح بأنحاء الأوصاف والهدايات، ويتيسر له أن يتحلى قلبه بالمحاسن والمبرات، ثم يتمكن الإنسان السالك من مقام التحلية والفناء والمحو والصحو بعد المحو. وبالجملة: ينبغي للسالك أن يحافظ على رأس ماله، ثم يطلب الربح، حتى إذا فاته الربح في صفقة يتداركه في أخرى، ليبقى رأس المال. فقد حكي: أنه كان للشيخ أبي الدقاق مريد تاجر متمول، فمرض يوما، فعاده الشيخ، وسأل منه سبب مرضه؟فقال التاجر: اشتغلت نهاري في التجارة حتى تعبت، فقمت هذه الليلة لمصلحة التهجد، فلما أردت الوضوء بدأ لي من ظهري حرارة، فاشتد أمري حتى صرت محموما. فقال الشيخ: لا تفعل فعلا فضوليا، ولا ينفعك التهجد ما دمت لم تهجر الدنيا وتخرج محبتها من قلبك، وتحرص عليها، فاللائق بك أولا هو ذاك، ثم الاشتغال بوظائف النوافل، فمن كان به أذى من صداع لا يسكن ألمه بالطلاء على الرجل، ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه. ومن علائم اتباع الهوى: المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات، ترى من يقوم بالأوراد الكثيرة والنوافل الثقيلة، ولا يقوم بفرض واحد على وجهه (2). انتهى. فتاجروا مع الله بالأعمال الصالحة والصدقات المفروضة، واطلبوا التجافي عن دار الغرور، واقرعوا باب الاستغفار والاعتذار، ودعوا المباهاة والافتخار، ولا يغركم عزكم في الدنيا وإقبالها عليكم، فإن الإقبال مقلوب " لابقاء "، فبموتكم يذهب الذهب، وإن الغناء عناء، والدرهم هم، والدينار نار، ولا تضيع عمرك في تحصيل العلوم الفضول، فإنه من اشتراء الضلالة بالهدى، فاقنع من العلم بقدر حاجتك للعمل، فإن النحو محو، والنجوم رجوم، والرياضي رياضة، والفلسفة فل (3) وسفه، وتعلموا العلوم النافعة التي هي الأنوار بذاتها، ومنها علم القرآن والحديث. كل العلوم سوى القرآن مشغلة غير الحديث، وكل ذلك لأن العلوم التي لا تنتهي إلى الوحي والتنزيل لا يعلم أنها علم ونور، ولا يصدق أنها الهداية والخير، وقد كثر على الباحثين اشتباهاتهم في العقليات، فضلا عن الحدسيات، وقد اتفق في علم: أن القاعدة الفلانية من القواعد المحكمة، الناهضة عليها البراهين القطعية والشواهد العرفانية، ثم تبدلت في العصور المتأخرة. فإذا أمعنت النظر في حال أرباب الفكر والنظر من ابتداء التأريخ إلى عصرنا 1392 من الهجرة النبوية على مهاجرها آلاف الصلاة والتحية، ترى تبادلهم في الرأي والأنظار، وتشتتهم في الآراء والعقائد، ولو كنت تذهب إلى مذهب حسب ما وصل إليك من البرهان، ولكن بعد التوجه إلى هذه التقلبات في الأقوال والمذاهب، وإلى أنك أيضا منهم، فكيف تطمئن إلى علومك وقولك ؟! فالعلم ما ينتهي إلى الله تعالى بتوسط ملك الوحي وسلطان الأمر. والله هو الهادي إلى الصواب، ونرجو منه ونسأله أن يمن علينا بتجليات باهرة، وبقبسات آياته القاهرة، وهو المعين.


1- يوسف (12): 88.

2- روح البيان 1: 65.

3- هو الثلم والكسر.