بعض بحوث فلسفية

حول الفطرة التوحيدية: إن في قوله تعالى: (اشتروا الضلالة بالهدى) دلالة على أن الإنسان مخلوق بحسب الفطرة على التوحيد والهداية، ضرورة أن المنافقين ما كانوا مهتدين بالهداية الاكتسابية، فهدايتهم طبعية فطرية، كما في الحديث المشهور بين الفرق (1). فالفطرة الأولية المخمورة، هي فطرة التوحيد وفطرة الهداية والصراط المستقيم، ومبدأ الحركة التدريجية هو المبدأ الصحيح، إلا أن المتحرك وراكب السفينة يعوج الطريق، ويضل ويضل، ويغرق في البحر اللجي في ظلمات بعضها فوق بعض. إن قلت: فكيف يجمع بينه وبين قوله تعالى: (وما كانوا مهتدين)؟قلت: مفاد الأخيرة: أنهم ما كانوا مهتدين بالهدايات الاكتسابية، وما كانوا متأثرين من ناحية العوامل الخارجية. ومفاد صدرها: أنهم باعوا الهداية الأولية الفطرية التي يولد عليها كل مولود، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأيضا فيه إشعار: بأن ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، وما أصابهم من حسنة فمن الله، فإن الضلالة من سوء فعالهم، فيكون نسبتها إليهم أقوى من نسبتها إلى الله. وأما الهداية التي باعوها فهي من الله، وتكون نسبتها إليه تعالى أقوى وأقرب. فالضلالة في هذه الآية منسوبة إلى المنافقين، وأنهم أضلوا أنفسهم بالاختيار والإرادة. وأما أن الهداية التي جعلوها ثمنا وعوضا، فهل هي حصلت لهم بالاختيار أم لا؟فالآية ساكتة من هذه الجهة، إلا أن من جواز الاستبدال يظهر أن الهداية أيضا تحت الاختيار بقاء وإن لم تكن حدوثا تحته ومورد القدرة والإرادة، كما في الهداية الذاتية والسعادة الطبعية. ومن هنا يظهر فساد مقالة القائلين بأن الضلالة والهداية من مخلوقات الله ومن أفعاله تعالى، ولا يذم عليها ولا يمدح (2). وأيضا تدل الآية على صحة تقبيح المنافقين، ولا يصح ذلك إلا بالنسبة إلى الأمور الاختيارية، فتكون من هذه الجهة أيضا دليلا على اختيارية الضلالة والهداية، وأنهم أقرب إلى أفعالهم السيئة من الله تعالى، كما أن الأمر كذلك بحسب ألفاظ الآية الشريفة. ويمكن أن يقال: إن قوله تعالى: (وما كانوا مهتدين) ناظر إلى أن الهداية ليست بالنسبة إليهم من الذاتيات والمحمولات بالصميمة بالصاد فما كانوا مهتدين بحسب الذات، بل كانت هدايتهم من المحمولات بالضميمة بالضاد، ولذلك تمكنوا من اشتراء الضلالة بها. والله الهادي.


1- إشارة إلى الحديث المشهور النبوي: " كل مولود يولد على الفطرة ". الكافي 2: 10 / 4، عوالي اللآلي 1: 35 / 18، صحيح البخاري 2: 587 / 1293.

2- راجع شرح المقاصد 4: 233، شرح المواقف 8: 145.