وجوه البلاغة والمعاني
الوجه الأول: حول أن المقام مقام الاستئناف قد عرفت في الآية السابقة: أن المقام مقام الاستئناف، لا العطف، ولا الابتداء بالحرف، وكان هذا النحو من الاستئناف يؤكد حصر الضلالة بهم، لأنه لا حاجة إلى القرينة والعطف في فهم المراد من " أولئك "، لوضوح ضلالتهم وفسادهم.
الوجه الثاني: حول الإتيان ب? " أولئك " قد عرفت في ذيل الآية الخامسة من سورة البقرة أن " أولئك " غير موضوعة للإشارة إلى البعيد على إشكال فيه. ولو كانت هي للبعيد فربما تجئ للبعيد تعظيما وتفخيما، وربما تجئ لإفادة البعد المعنوي، وأن القرب غير الملموس وغير المحسوس بمنزلة القرب المحسوس فتأمل.
الوجه الثالث: حول المشار إليه في الآية من وجوه بلاغة الكلام: الإهمال حتى يذهب كل فكر وخيال مذهبه، ولأجله اختلفوا في المشار إليه، أو يمكن الخلاف فيه: فقيل: إن من قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا) (1) نزل في عبد الله بن أبي وأصحابه (2). وقيل: هذه الآيات كلها في جميع المنافقين (3)، وبناء عليه يمكن أن تكون الإشارة مخصوصة بهم، أو تكون أعم. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الأفراد الموجودين من المنافقين، لأنها سيقت للإشارة إلى الجزئيات والأفراد، وأنها هي البعيدة واقعا وحسا، دون العناوين المأخوذة في الكتاب، من المستهزئين والمفسدين والمخادعين وأمثال ذلك. والذي هو التحقيق: ما عرفت منا، وهو أن هذه الآيات أعم من الطائفة الخاصة، ويكون النظر فيها إلى ما ورد في صدرها، وهو قوله تعالى: (ومن الناس من يقول) والآيات المتأخرة عنها إلى هنا، كلها ناظرة إلى ذلك الموضوع، وفيها عوارض وأحوال ذاك الموضوع، وما مر من احتمال اختصاص بعضها ببعض المنافقين غير مبين. كما أن المنسبق إلى الذهن من بينها: أن المشار إليه بها أيضا مثل المشار إليه بقوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (4)، فيكون المذكور في الآيات السابقة مورد النظر، لا الأشخاص الموجودين في عصر النزول. ومن هنا يظهر ما في كتب التفسير من التعابير المختلفة هنا، فإن الكل صحيح بالنظر إلى المعنى، ولكن المشار إليه حقيقة بعض الناس، المقصود منهم المنافقون وسائر العناوين مما ينطبق عليه، كما لا يخفى.
الوجه الرابع: حول استعمال لفظة الاشتراء في المقام من وجوه البلاغة: اختيار لفظة " الاشتراء " في مورد استبدال الهداية بالضلالة والكفر بالإيمان والشر بالخير... وهكذا، وذلك لأن الأفعال الصادرة عن الإنسان ربما تكون صادقة، سواء صدرت عن اختيار وتوجه والتفات، أو كان لا عن التوجه والعلم، مثلا: إذا ضرب زيد عمرا بتخيل أنه بكر أو بتخيل آخر، يصدق أنه ضرب وصدر منه الضرب، وربما لا تكون صادقة إلا في صورة صدورها عن التوجه والاختيار والالتفات، والاشتراء من القسم الثاني، فإنه يدل على أن المنافق بالاختيار وسوء التدبير استقبل الضلالة، واستبدلها بالإيمان، وفي ذلك أيضا إشعار بأمر آخر: وهو أن الهداية كانت في أيديهم وتحت اختيارهم، فرفضوها وأخذوا عوضها بالمبادلة والمبايعة.
الوجه الخامس: حول كون استعمال الاشتراء مجازا اختلفوا في مجازية الاشتراء وحقيقته على أقوال: فمن قائل: إنه من الاستعمال الحقيقي (5)، وذلك لأن الإنسان - حسب خلقته - ذو شؤون كثيرة بحسب سيره إلى السعادة والشقاوة، فما كان من شؤون السعادة كأنها ذاتية، وما كان من شؤون الشقاوة عرضية استملكها من غيره، ولا يعتبر في البيع - حسب ما تحرر - كون المبيع من الأعيان، كما في بيع " السرقفلية "، فبناء عليه يكون الشراء على حقيقته. وبعبارة أخرى: الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، فلا مجازية في أمثال المقام. وقد فرغنا عن فساد هذه المقالة الذوقية العرفانية، ونبهنا أنه لا يجوز الخلط بين الحقائق والذوقيات وبين باب الألفاظ والأوضاع، فإن كلا ميسر لما خلق له (6). ومن قائل: إنه من الاستعارة (7)، أو إنه من المجاز بالعلاقة (8). والذي هو الحق: أن الألفاظ في مقام الاستعمال لا تكون إلا مستعملة فيما وضع له، ولا أساس لباب المجازات، بمعنى استعمال اللفظ في غير الموضوع له، فالاشتراء يستعمل فيما له من المعنى، إلا أن في هذا الموقف أيضا مسلكين: أحدهما: أن المتكلم في مقام الادعاء: بأن هناك مبيعا وثمنا. وثانيهما: أن المقصود الأصلي من الاستعمال انتقال المخاطب إلى مراد المتكلم بحسب الجد والحقيقة، ولأجله يعد مجازا وقنطرة. وعلى كل تقدير يسقط ما توهمه أرباب التفسير هنا وفي غير مقام، وتفصيله في محل آخر.
الوجه السادس: حول البائع في هذا الاشتراء من وجوه البلاغة: أن البائع في الآية غير مذكور، فهل هو عين المشتري، وإنما اختلافهما بالاعتبار أم البائع هي الشياطين والأفراد الفاسدة التي تبذر النفاق والكفر، وتنشر الفساد والإلحاد، أم هذا الاشتراء لا بائع فيه، لأنه من الادعاء ومن المجازات، وحيث إن الضلالة من الأعراض المكتسبة فهي تحصل من الأمور الخارجة، فهي في الحقيقة بائعها سواء كان من أفراد الشياطين الإنسية أو الجنية أو من غيرهم.
الوجه السابع: حول استعمال " الضلالة " و " الهدى " إن من وجوه البلاغة: اتخاذ العناوين العامة، المندرجة تحتها العناوين الكثيرة، ومن ذلك عنوان " الضلالة والهدى "، ولأجله اختلفوا في أنهما الكفر والإيمان، كما عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي (9)، أو أنهما الشك واليقين (10)، أو أنهما الجهل والعلم (11)، أو أنهما الفرقة والجماعة (12)، أو الدنيا والآخرة، أو النار والجنة (13)، فذهب كل إلى مذهب. وفي أحاديثنا: أنها هنا الحيرة والبيان (14)، وقيل: هما السعادة والشقاوة (15). وأنت خبير بأن في اشتراء الضلالة يكون جميع هذه الأمور، لأنها من آثارها، أو عبائر أخرى عنها، أو هي أصناف منها، ولا وجه لحصرها فيها، وذلك لأن آيات النفاق تشمل مراتب المنافقين، ومنهم المؤمنون الذين استودعوا دينهم وإيمانهم، وهم في نوع من الضلالة والشك والجهالة.
الوجه الثامن: حول استعمال الاشتراء في المنافقين إن كلمة " الاشتراء " مما تعارفت في الاستعارة دون البيع، وليس في الكتاب الإلهي من مشتقاته التي استعملت في مقام المجاز والاستعارات. نعم خصوص كلمة " بيع " ربما اطلق على المعنى الاستعاري، كقوله تعالى: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) (16)، مع أن من المحتمل قويا إرادة المعنى الحقيقي منه، ولأجل عدم معهودية استعمالها في كلمات البلغاء، اتخذ القرآن الكريم لفظة " الاشتراء " المعروف فيه ذلك. هذا، ولو قال الله تعالى: أولئك الذين باعوا الهدى بالضلالة، لاقترنت كلمة " الهدى " في مقام الاستعمال بكلمة " باعوا "، مع أن بين المنافقين والهداية بعدا بجميع أنحائه، وفصلا بتمام أصنافه، وبينونة بشتى مراحلها.
الوجه التاسع: حول استعمال الفاء في الآية في إتيان الفاء إفادة أن توقع الربح وترقب الزيادة والنماء في الاشتراء المزبور، غير صحيح، ولو قال: وما ربحت تجارتهم، فهو من قبيل الإخبار بعد الإخبار الأعم من ذلك، ففي كلمة الفاء إفادة السببية والعلية القاطعة لانتظار الربح. وبعبارة أخرى: ربما يكون في اشتراء الضلالة بالهدى، منافع مادية دنيوية ومنازل خاصة مطلوبة في هذه النشأة، وإن كانت هي الضلالة واقعا، وربما لا يربح حتى بالنسبة إلى المزايا الدنيوية وآثارها الشيطانية المطلوبة لأهلها، حتى يكون من الذين خسروا في الدنيا والآخرة، فهؤلاء المنافقون ما ربحوا في تجارتهم أنحاء الربح وأنواع النماء، ومن البين أن التجارة من المجاز والاستعارة الترشيحية، إذ من آثار الدعوى السابقة - وهي أن الاستبدال المزبور اشتراء - كون ذلك تجارة في محل الربح، إلا أنها ما ربحت تجارتهم، وما ترتب عليها الآثار ولو دنيوية. ومن هنا يظهر فساد ما في بعض التفاسير من: أن نفي الربح يوهم بقاء رأس المال، وأنه لم يذهب بالكلية (17). انتهى. وذلك لأن المشتري في الآية قد اشترى الضلالة، وأعطى ثمنها، وهو الهداية، مريدا بذلك الربح والنماء، إلا أنه ما بقي عنده إلا الضلالة المحضة بلا أثر وفائدة فخسر في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وبعبارة أخرى: ربما يشتري الدنيا بدينه، وينتفع بها ويستثمر منها، ثم يعاقب في الآخرة. وربما يشتري الدنيا بالدين، ولا يصل إليه منها شئ يترقبه، وهؤلاء المنافقون قد اشتروا الضلالة بالهدى طمعا في دنياهم، حفاظا على أموالهم وغير ذلك من المقاصد الخبيثة، ولكن ما ربحت تجارتهم، فلم يصلوا إلى مرامهم ومقصودهم.
الوجه العاشر: حول نسبة الربح إلى التجارة نسبة الربح إلى التجارة مجاز عندهم، لأن التجارة لا تربح، والتاجر يربح. والذي هو المحتمل - كما مر - كون النسبة إلى التاجر مجازا، لأن التاجر يستربح بالتجارة، فما هو الربح هو النماء، فإذا قيل: الشجرة نمت وزادت، صحت النسبة حقيقة، وصح أن يقال: إن الزارع استربح بنماء الشجر وزيادته. وبالجملة: ما هو سبب الربح قريبا هي التجارة، والتاجر سبب مع الواسطة وبالآلة، فليتدبر. وإن شئت قلت: الربح لازم، ولا يصح أن يقال: " ربحت في بيعك " إلا بتأول، ويصح أن يقال: استربحت في بيعك، فلا تختلط.
الوجه الحادي عشر: حول الاشتراء بالهدى وعدم الهداية من قبل من وجوه البلاغة ومن اللطائف المرموز بها في هذه الآية هو: أن يشير المتكلم في نفس الكلام إلى بعض توابع المجازات والاستعارات، مريدا به هدم العدو وهتك المخالفين، وذلك أن في قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) إشعارا أو رمزا إلى المبادلة بين الضلالة والهداية، فكأنما كان عندهم قبل الاشتراء من الهداية شئ يعتاض به، ولأجل هذا يصح استعارة كلمة " الاشتراء " المتقوم بالعوضين، وحيث ما كان عندهم من الهداية شئ، أو أراد إرغام أنفسهم، بأن الاشتراء المجازي المزبور من الغلط، لا من المجاز، ولا ينبغي في حقهم توهم كونهم من المهتدين ولو في الجملة، عقب الله تعالى هذه الكريمة بقوله: (وما كانوا مهتدين)، فهم أسوأ حالا من أن يتوهم في حقهم مجازية الاشتراء وصحة الاستعارة به، لما ليس عندهم من الهداية شئ من الابتداء، فما كانوا من أول الأمر مهتدين، والسلب يفيد العموم، أي جميع مراحل الاهتداء مسلوبة عنهم، وتصير الآية في حكم التعليل لعدم ربح تجارتهم، لأنه ما كانت تجارة من الأول، لأنها بدون عوض ليست تجارة حتى تربح. وغير خفي: أن هذا الأسلوب من الكلام من الصناعات البديعية المعنوية المسماة ب? " الإيغال ".
1- البقرة (2): 14.
2- انظر البحر المحيط 1: 74.
3- انظر نفس المصدر.
4- البقرة (2): 5.
5- البحر المحيط 1: 71، تفسير بيان السعادة 1: 60.
6- راجع بحار الأنوار 5: 157 / 10 و 64: 119.
7- الكشاف 1: 69.
8- اختاره أكثر أرباب التفسير، فراجع: البحر المحيط ومجمع البيان وغيرهما في ذيل الآية.
9- البحر المحيط 1: 72، وراجع الجامع لأحكام القرآن 1: 137.
10- البحر المحيط 1: 72.
11- نفس المصدر.
12- راجع البحر المحيط 1: 72، وتفسير ابن كثير 1: 92.
13- البحر المحيط 1: 72.
14- راجع تفسير القمي 1: 34، وتفسير البرهان 1: 64.
15- انظر تفسير الكمپاني: 269.
16- البقرة (2): 254.
17- البحر المحيط 1: 73.