مسائل اللغة والصرف

الآية السادسة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾

تمهيد

المعروف والمشهور من أهل الخبرة: أنها آية واحدة، وادعى على ذلك في " البيان " إجماعهم (1)، ويظهر من جمع من المفسرين تعقيب الآية السابقة بها في تفسيرها، وعدوها من متعلقاتها (2)، ويكفي لفساد صنعهم الصحف الموجودة بين أيدينا من العامة والخاصة، وقد مر في أوائل بحوث سورة البقرة ما ينفعك في المقام (3).

المسألة الأولى: حول كلمة " اشتراء " اشتراه: ملكه بالبيع وباعه. وفي " الأقرب ": كل من ترك شيئا وتمسك بغيره فقد اشتراه، وفي اللغة شرى فلانا سخر به، وقيل: أرغمه (4). وفي " المفردات ": الشراء والبيع متلازمان... إلى أن قال: وشريت بمعنى بعت أكثر، وابتعت بمعنى اشتريت أكثر... إلى أن قال: ويجوز الشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شئ (5). انتهى ما أردناه. وبالجملة: اختلفوا في مفهوم الاشتراء، وأنه مخصوص بالمبادلات المشتملة على الثمن والمثمن والعوض والمعوض بل مخصوص بالمبادلة الخاصة وهي البيع، أم هو أعم كما يظهر من " الأقرب "، أو هو كان أخص ولكنه يستعمل في سائر العقود كما في قوله (عليه السلام): " إنما يشتريها بأغلى الثمن " (6) في أخبار تجويز النظر إلى الأجنبية بداعي الزواج وبقصد التزويج، وجوه وأقوال محررة في كتاب البيع. والذي هو الأقرب لأفق التحقيق: أن الألفاظ حسب الاستعمالات الأولية موضوعة للمعاني الحسية والأمور المشهودة في بدو القبائل وابتداء الشعوب، ثم اتسعت وتجاوزت إلى المعاني الذوقية والأمور التخيلية الشعرية والعقلية العرفانية، وذلك بعد حصول الحضارة والتمدن وحدوث المدن والرقاء الفكري وغير ذلك. إلا أن اتساع نطاق اللغة، ربما يعد من المجاز والاستعارة والكناية وسائر أنحاء المجازات، وأخرى يكون على وجه الحقيقة الثانوية باكتساب اللفظ معنى حديثا أو نطاقا واسعا في مفهومه الأولي. هذا بحسب البحث الكلي. وأما في خصوص هذه اللغة فالأقرب مجازيته في هذه المواقف، وأما أنه من أي أقسام المجازات فسيظهر في بحوث البلاغة والمعاني، فما في " مجمع البيان " (7) وغيره خال عن التحصيل.

المسألة الثانية: حول كلمة " الضلالة " الضلالة ضد الاهتداء، وقد مر معنى الهداية، وهي من ضل يضل ضلالا، ويكون لازما، وقد مر في ذيل قوله تعالى: (ولا الضالين) ما ينفعك.

المسألة الثالثة: حول كلمة " الربح " ربح في تجارته يربح ربحا وربحا: استشف وكسب، وتجارته ربح فيها، فهي رابحة. والربح - ويحرك - اسم ما يربح، الربح محركة أيضا ما يربحون من الميسر (8). انتهى ما في اللغة. وفي " تاج العروس " و " المفردات ": الربح النماء في المتجر (9)، والزيادة الحاصلة في المبايعة (10). وقال ابن الاعرابي: هو اسم ما ربحه، والعرب تقول ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها، ومن المجاز تجارة رابحة يربح فيها، لأن التجارة لا تربح (11). انتهى. والذي يظهر: أن كلمات اللغويين خالية عن تفسير الربح بالزيادة والنماء، بخلاف الشراح والمفسرين، والذين فسروه بما لديهم من مفهومه عرفا. ويظهر: أن " التاج " وغيره ظنوا أن ما في اللغة وما عن ابن الأعرابي خلاف ما عندهم، مع أن المراد من قوله: " ما يربح " هو المعنى الحاصل من التجارة، وتفسيره بقولهم: " كسب في تجارته " هو أنه طلب في تجارته المال ووصل إليه، لا أنه مجرد الكسب والطلب. وبالجملة: حال هذه اللغة لا يخلو عن نوع غموضة بحسب اللغة، وإن كان معناه واضحا بحسب العرف والاستعمال. ثم إن من المحتمل كون رأس المال رابحا حقيقة، وصاحبه رابح مجازا، لأن ما هو في الحقيقة أتى بالزيادة هو المال المتجر به، فما اشتهر بينهم من المجازية في قول العرب: تجارة رابحة، وقولهم (ربحت تجارتهم) غير واضح عندي. ويحتمل كونها على نعت الحقيقة، لأن التاجر بما أنه يتجر يربح، فكل من صاحب المال والتجارة علة الربح وسبب الزيادة، كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: حول كلمة " التجارة " تجر يتجر تجرا وتجارة: باع واشترى، التجارة - بالكسر -: تقليب المال لغرض الربح، ومن المجاز: عليكم بتجارة الآخرة (12). انتهى ما في اللغة. وقيل: ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ، فأما " تجاه " فأصله وجاه (13). انتهى. ويظهر من " مجمع البيان " وبعض آخر: أنها التعرض للربح في البيع (14). ومنشؤه اللغة، كما عرفت، ولكنه بمعزل عن التحقيق، ولذلك فسرت التجارة: بتقليب المال لغرض الربح، أو بالصرف في رأس المال طلبا للربح، فالبيع والشراء أحد مصاديق التجارة الواضحة. وربما يؤيد ذلك: قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (15)، فإن المقام يناسب أعمية مفهوم التجارة.


1- انظر مجمع البيان 1: 111.

2- أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 28، تفسير القرآن الكريم 1: 412، وراجع تفسير المنار 1: 171، وتفسير ابن كثير: 92.

3- البقرة، المقام الأول، المبحث الثالث في عدد آياتها.

4- أقرب الموارد 1: 588.

5- المفردات في غريب القرآن: 260.

6- راجع وسائل الشيعة 14: 59، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، الباب 36، الحديث 1.

7- راجع مجمع البيان 1: 53.

8- أقرب الموارد 1: 382.

9- تاج العروس 2: 140.

10- المفردات في غريب القرآن: 185.

11- تاج العروس 2: 140.

12- أقرب الموارد 1: 74.

13- المفردات في غريب القرآن: 73.

14- مجمع البيان 1: 143.

15- النساء (4): 29.