التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (الله يستهزئ بهم)، ويجازيهم جزاء الاستهزاء، ولا يستهزئ كما عن ابن بابويه بسنده عن ابن فضال (1). وفي رواية أخرى: " أما استهزاء الله بهم في الدنيا، فهو - مع أنه إجرائه إياهم على ظاهر أحكام الإسلام، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة - يأمرهم بلعنهم، وأما استهزاؤه في الآخرة: فهو أن الله إذ أقرهم في دار اللعنة والهوان، وعذبهم بتلك الألوان العجيبة، أقر هؤلاء المؤمنين في الجنان، وأطلعهم على هؤلاء المشركين الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا، حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات " (2).

وعن ابن عباس في تعبير آخر: إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى الخلق بالجواز على الصراط، فيجوز المؤمنون إلى الجنة، ويسقط المنافقون في جهنم، فيقول الله: يا مالك استهزئ بالمنافقين في جهنم، فيفتح مالك بابا من جهنم إلى الجنة ويناديهم: معاشر المنافقين هاهنا هاهنا فاصعدوا من جهنم إلى الجنة، فيسبح المنافقون في بحار جهنم سبعين خريفا حتى إذا بلغوا إلى ذلك الباب - وهو الخروج - غلقه دونهم، وفتح لهم بابا إلى الجنة من موضع آخر، فيناديهم: من هذا الباب فاخرجوا إلى الجنة، فيسبحون مثل الأول، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، ويفتح من موضع آخر، وهكذا أبد الآبدين (3). (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) يمهلهم، فيتأتى بهم برفق، ويدعوهم إلى التوبة، ويعدهم إذا تابوا المغفرة. (يعمهون) لا يرعوون عن قبيح، ولا يتركون أذى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه. هكذا روي عن الكاظم (عليه السلام) (4)، إلا أن النسبة باطلة جدا.

وعلى مسلك أرباب الحديث: (الله يستهزئ بهم) يسخر بهم للنقمة منهم، عن ابن عباس. (ويمدهم) يملي لهم، عن جماعة من الصحابة، وعن ابن مسعود وابن عباس. (ويمدهم) يزيدهم، عن مجاهد (5). ويؤيد الأول: قوله تعالى: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) في طغيانهم يعمهون: في كفرهم يترددون، عن ابن عباس. وعن ابن مسعود وجماعة: في طغيانهم، أي كفرهم. وعن الربيع: في طغيانهم، أي في ضلالتهم. وعن ابن زيد: في كفرهم وضلالتهم. وعن جماعة فيهم ابن عباس وابن مسعود: يعمهون، أي يتمادون في كفرهم. وفي رواية أخرى عن مجاهد: يترددون (6). ويعمهون: المتلدد الملتفت يمينا وشمالا متحيرا، عن ابن عباس ومجاهد والربيع (7).

وأما على مسلك أرباب التفسير: (الله يستهزئ بهم) جزاء لاستهزائهم، وهل جزاء سيئة إلا سيئة مثلها، ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثله، ويمدهم ويدعهم في عصيانهم وتمردهم يعمهون، ويكونون على عماء وظلمة نفسانية، وعلى غشاوة وغطاء معنوي يحيط بهم. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) برجوع ضرر استهزائهم على أنفسهم، أو بأنه تعالى يحقرهم ويهون عليهم ويمدهم بالشيطان المتمكن عليهم، في طغيانهم وكفرهم ونفاقهم يعمهون وينغمرون. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) بأن ينعمهم في الدنيا بأنواع النعم، ويظهر عليهم منه تعالى خلاف ما يفعل بهم في الآخرة، ويمدهم بإعمارهم وتمديد عمرهم في طغيانهم وإيذائهم واستهزائهم يعمهون ويضلون. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) بإشراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم وأمثاله على أحوالهم، مع أنهم بالغوا في كتمانها، ويجري عليهم أحكام الإسلام، ويتعاملون معهم في الآخرة على خلافها، فتكون النار مثوى لهم، وهل الاستهزاء إلا هذا (ويمدهم في طغيانهم يعمهون).

وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) ويدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون نهايته، ولا يتوجهون إلى غايته، ثم تتلقاهم اليد الإلهية والقدرة الإلهية في نهاية الطريق، وهذا هو الاستهزاء المخبط والسخر المرعب، ويمدهم ويستهزئ بهم بنفس هذا الإمهال والمد والترك، أو تمكين عدوهم منهم، وهو صديقهم الذي يترددون عنده، فيعمهون ويترددون واقعا ويتحيرون حقيقة. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) في الدنيا، أو يستهزئ بهم فيها وفي الآخرة بإحدى الوجوه السابقة، (ويمدهم) في الدنيا، أو يستهزئ بهم في الآخرة، ويمدهم فيها أيضا (يعمهون) في طغيانهم وتجاوزهم، فإن في الدنيا لا يمدهم لإمكان رجوعهم إلى الهداية، فهم في العذاب - وهو نفس الطغيان - يعمهون، ويعمون لا يبصرون بالبصيرة ولا بالبصر، أو هم في جزاء طغيانهم في الدنيا يعمهون في الآخرة. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) (8) (ويمدهم) بإخوانهم الذين يمدونهم في الغي (9)، (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (10). وقريب منه: وليستهزئ الله بهم وليسخر منهم كما سخروا واستهزؤوا، وليمددهم في طغيانهم يعمهون، وليكن الله تعالى يلقيهم في العمى والعمه وفي التحير والتيه، أو أنه تعالى يعلن ويهتف بالاستهزاء بهم، ولكن يمدهم في طغيانهم بأحد الوجوه السابقة يعمهون.

وعلى مشرب الحكيم: (الله يستهزئ بهم)، لا بالقول والمعنى الحدثي، بل بالعين بإخراجهم من الفطرة المخمورة والطينة الإلهية الأولية إلى الفطرة المحجوبة والصراط المنحرف والنفاق والطينة الخبيثة، فإنه حقيقة الاستهزاء وواقعه العيني الخارجي، (ويمدهم) بواقع المدد والعون والسحب والجر - حسب استعداداتهم الحاصلة لهم بسوء فعالهم الباطلة - (في طغيانهم) وتجاوزهم عن تلك الجادة المعتدلة - والحركة الذاتية الطبيعية المستقيمة - (يعمهون) ويترددون في الطريق، وينحرفون ويعوجون فيكونون في النار خالدين. وقريب منه: (الله يستهزئ بهم) حيث نادوا بلسان ذاتهم الاهتداء والنجاة، ولكنه تعالى أخرجهم من النور الأولي الطبعي إلى الظلمات البهيمية والسبعية والشيطانية التي هي الاكتسابية الثانوية، فسخر منهم بأحسن السخرية. (ويمدهم) بترددهم على شياطينهم وبمصاحبتهم معهم، وبأفعالهم الكاسدة الباطلة (في طغيانهم) الحاصل من سوء اختيارهم وعصيانهم، المحصول من أفعالهم السيئة (يعمهون) أيضا باختيارهم، فلا يترددون إلا لأجل خبثهم.

وعلى مشرب عرفاني: (إنما نحن مستهزئون) كلا ثم كلا، لو كان ما تخيلوه من إسناد الاستهزاء إلى أنفسهم له الواقعية، ف? (الله يستهزئ بهم) لا هم، ويمد المنافقين (يعمهون) في طغيانهم، قضاء لمقتضى الاسم " المضل " و " المنتقم ". وبتعبير آخر: (الله يستهزئ بهم) باختيارهم مظهرا لهذا الفعل المتجدد المستفاد من المضارع، فإنهم ينبغي أن يكونوا مظهر الأسماء الإلهية، فاستهزأ بهم الله بمدهم وجرهم (في طغيانهم يعمهون)، ويتعدون عن حدهم، وهو الصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس، ويسافرون إلى الطبيعة وما دونها، فينغمرون في عمى القلب بانقلاب وجهه وبإبطال صدره، فيحشرون على باطن الطبيعة وأدونها.


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 126 / 19، البرهان 1: 64.

2- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 123 - 124.

3- راجع البرهان 1: 64.

4- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 123.

5- تفسير الطبري 1: 134.

6- راجع تفسير الطبري 1: 135، ففيه كل هذه الروايات.

7- الظاهر أنه من تعبير المصنف (قدس سره)، راجع نفس المصدر.

8- الحديد (57): 13.

9- إشارة إلى قوله تعالى: * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * الأعراف (7): 202.

10- الأنعام (6): 109.