الأخلاق والمواعظ القرآنية

اعلم يا شقيقي في الإيمان، ويا صديقي في الطريق القويم والصراط المستقيم: أن الكتاب الإلهي كتاب الدعوة إلى الحق بأنحائها، وكتاب الوعظ والإرشاد والتوجيه إلى المعارف والأوصاف الفاضلة والنعوت الإنسانية، ويؤدب القارئ في مطاوي قضاياه وقصصه بأنواع الآداب البشرية والرسوم المعقولة الفاضلة، ومن ذلك أن النظر إلى هذه الآية وإن كان يوهم أن من الأوصاف الإنسانية المداراة مع الناس، والله تعالى أولى بذلك من غيره، فكيف رضي بالاستهزاء بهم ولم يدارهم ؟! وكيف يمدهم في طغيانهم يعمهون، وقد أمر بالمداراة مع الخلق والصبر على البلاء والحلم في مواقف الظلم والتعدي ؟! ولكن الدقيق من التأمل والحقيق من التفكر، يورث أن المنافقين وإن خلوا إلى شياطينهم إلا أن الخلوة معهم والتستر في كفرهم وعنادهم لم يستلزم هتك حالهم وكشف سريرتهم، والذي أوقعهم في افتضاحهم، فأصبحوا مهتوكين بين العوام والأنام، وعلى روس الخاص والعام، ما أظهروه وشهدوا على أنفسهم بكفرهم وبأنهم هم المستهزئون، فأخذ الله عليهم واستهزأ بهم ومدهم في طغيانهم يعمهون.

وإن شئت قلت: جميع الأوصاف الإنسانية وجميع المحامد البشرية والرعايات الأخلاقية، ليست مطلوبة على الإطلاق، بل لكل منها حد مخصوص، ولها حالة استثنائية، فإذا كان الإنسان المنافق ينظر بعين السوء إلى حسن سلوك الآخرين، وينتفع من المداراة مع ضرر المؤمنين، ويتقوى بالصبر والحلم على هدم أساس المرسلين، فليس من تجويز العقل المداراة معه والحلم في حقه، بل الأخلاق والعقول متعاضدة على إعدام هؤلاء الناس، ولأحد أن يقول: إنهم ليسوا حينئذ من الناس، ولامن المنسلكين في أنواع الحيوان، ألا وهو العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، فاحذروا منهم، وقاتلهم الله أنى يؤفكون (أولئك كالانعام بل هم أضل سبيلا). إذا تبين لك حل هذه المشكلة، فيا أخي في الله، ويا نفسي التي بين جنبي! خف الله قبل كل شئ، واحذروا فإن الطريق صعب والسدود كثيرة، وإذا ترى ضعفا في جهدك وفتورا في قواك، فهل إلى النجاة ترى من سبيل، وإلى الجنة تجد الصراط المستقيم؟وهل بالفرار من المصائب تكون الرجعة، وإلى العدم والوراء يمكن الاهتدام؟كلا ثم كلا، فكن مع الله في جميع الحالات (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) (1)، ولا تيأس من روح الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الفاسقون، وكن على بصيرة من أمرك، فإن الإنعامات الإلهية والعنايات الربانية - في جميع الآنات الزمانية والدهرية - تعشق المربوبات، وتفي بالشرائط والمقتضيات، إلا أن منها ما هو بأمرك وتحت اختيارك، وهي إرادتك في الأمور وعزمك على الحوادث في الدهور، حتى لا تضمحل قدمك ولا يتدكدك رأيك. فإن الرحمة الواسعة الكلية والقدرة الجامعة البسيطة، ربما تشمل العبد في حال من الحالات حتى يفئ إلى أمر الله، ويفني في فنائه، ويحشر يوم القيامة مع المتقين، ويكون في الجنة مع المقربين والتوابين، " ألا وإن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " (2).

واعلم: أن النفس من أسوأ الأعداء وأشد الخصماء وألد الخصام، وأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وأنها المنافق الحقيقي، وهي الشيطان القرين، وساء قرينا، ولا تريد ولا تقصد إلا أن تصل إلى آمالها وأمانيها بهتك حرمات الله، وهدم السنن والشرائع الكلية العامة والشخصية الخاصة في قلبك، فاستعن بالله العزيز، واصبر (واستعينوا بالصبر والصلاة) حتى تخرجوا من هذه الورطة المحيطة، ولا تعتن بهذه الأمور العلمية، ولا تقنع بالمفاهيم الكلية الظلمانية والحجب النورانية المانعة، بل اجتهد إلى أن يتمثل فيك حقيقة الإيمان. وقد جاءكم كتاب ونور (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور) (3) و (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) (4)، فإياك ثم إياك من معاشر السوء ومن مداراة المنحرفين والمجاملة مع الفاسقين والكافرين، فإن من قرين السوء وجار السوء كان (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما في بعض الأخبار - يستغفر في كل صباح سبعين مرة (5)، فإذا كانت تلك القدسية الحقيقية الإلهية، وتلك المرآة الكلية الجوهرية، تتكدر بأمثال معاشريه وأصحابه المعلومين وتشتكي من هؤلاء الجيران والمرافقين، فكيف بالآخرين ؟! فنعوذن بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم إلى يوم الدين.


1- هود (11): 114.

2- راجع عوالي اللآلي 1: 296، وبحار الأنوار 68: 221، الباب 66.

3- المائدة (5): 16.

4- سبأ (34): 46.

5- راجع بحار الأنوار 16: 258 / 41، أما التفسير المذكور فهو احتمال من المصنف (قدس سره).