التفسير من الآية 39 إلى الآية 49

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور/39) ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور/40) ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (النور/41) ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ (النور/42) ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ (النور/43) ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ (النور/44) ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النور/45) ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (النور/46) ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور/47) ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (النور/48) ﴿وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ (النور/49)

تتناول هذه الآيات عاقبة عمل الكافر، وما هو مصير من يتصور أنه عمل صالحا، وما هو مصيره إذا اقترف عملاً سيئاً. وأعرض هنا قضيتين كمقدمة للموضوع. إحداهما المعنى الذي يقصده القرآن من كلمة الكافر. هل يقصد بهذه الكلمة كل من هو غير مسلم؟ أم أنّ الكافر يعني كلّ غير مسلم بالتقصير، ولا يشمل كل من هو غير مسلم بالقصور؟

يستعمل العلماء اصطلاحا له جذور دينية، ويجعلون كلمة الجاهل كمدار في التقسيم ويقولون أن الجاهل على نوعين: أما قاصر أو مقصر. ومن الطبيعي أن كل مخالف هكذا، أي أما أن يكون قاصرا أو مقصّراً. فإذا أرتكب الإنسان جريمة وهو لا يعلم فلا ذنب عليه وهو في هذه الحالة يكون قاصرا بسبب عدم علمه (خذ مثلا بنظر الاعتبار شابا يعيش في قرية نائية أو بين الجبال حينما تسأله عن مسائل الشكوك او السهو الذي يقع في الصلاة أو عن أية قضية شرعية أخرى كالخمس او الزكاة مثلا لا تجده يعرف لها جوابا، بل ولا تجده قد سمعها طوال حياته. مثل هذا الشخص يقال له والصلاة. وسار على ذات النهج الذي كان عليه والداه، وهو لا يعي هذه القضايا ولا يجد من يوعيه لها.

وفي القوانين المدنية والحكومية لا يؤاخذ امثال هذه الأشخاص على بعض جرائمهم لأنهم لا يعلمون ولم يسمعوا طوال اعمارهم باسم "القانون المدني، ولكن قد يكون تارة أخرى فاهماً للموضوع ولكنه رغم معرفته يرتكب الجريمة بدافع الشهوة والهوى.

في القرآن تعبير عن هذا المعنى ولكن لا بصيغة القاصر والمقصّر، بل جاء هذا التعبير باسم (المستضعف) أي بمعنى الضعيف أو من لا تصل يده، وجاء في تعبير آخر: ﴿مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ﴾ (التوبة/106) بمعنى أنّ هناك فئة يجب أن لا تحكموا مسبقاً على مصيرهم وما سيؤول إليه أمرهم، بل قولوا: متروكون لأمر الله فيهم يعمل ما يشاء، وهذا بحد ذاته تبشير بالرحمة. وقد لا يكون أمثال هؤلاء الأشخاص مسلمين، حيث توجد الآن أماكن في العالم- في أفريقيا وأمريكا وأوربا والشرق

وغيرها - أناس لم يسمع الكثير منهم باسم الإسلام،. وفي أماكن أخرى اتبعت الحكومات سياسات لا تسمح للناس بسماع شيء عن الله وعن الدين، وهؤلاء أيضا ينطبق عليهم معنى الكفر بشكل أو آخر، بمعنى أنهم غير مسلمين. ولكن لا أحد يقول عنهم أنهم كفار جاحدين أو معاندين. الكافر المعاند هو من عرض عليه الإسلام وفهمه ولكنه لم يعتنقه لمصلحة خاصة أو بسبب التعصب أو حب الجاه، هذا هو معنى الكفر.

وكل غير مسلم حتى أن عرض (عليه السلام)، إذا لم يتخذ موقفا معاديا منه يمكننا إطلاق صفة الكافر عليه من جهة، ولا يمكننا ذلك من جهة أخرى. والقرآن الكريم حيثما يذكر: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لا يقصد هذه الفئة وإنما يقصد الفئة التي عرضت عليها الحقيقة لكنها أبت قبولها عنادا. الكفر معناه التغطية، والذي يريد تغطية الحقيقة وإخفاءها مقصّر، وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بالقول :

﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾ (النمل/14) حقيقة الإسلام التسليم لا العلم وعدم العلم. والمعرفة وكشف الحقيقة لا تكفي وحدها ليكون الشخص مسلما. حينما تكشف الحقيقة للإنسان يجب أن يكون رد فعله ازاءها: "آمنا وسلمنا وصدقناه" هذا هو الإسلام. وإلا أسألكم: هل الشيطان كافر أم لا؟ كافر بلا شك. والقرآن يصرح أيضا بالقول: ﴿وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ (ص/74). ولكن هل الشيطان - الذي يسميه القرآن كافرا - كان يعرف الله أم لا؟ كان يعرفه أكثر من غره إلى درجة أنه قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ (ص/82) هل الشيطان لا يعرف الرسول (صلى الله عليه وآله) وعباد الله؟ كان يعرفهم تمام المعرفة، لأنه قال: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الصافات/40).

بمعنى أن كان يعرف عباداً الله يسميهم المخلصين ويعلم أنه لا سبيل له عليهم.. وكان يعرف الأئمة أيضا كما يعرف الأنبياء، وكان يعتقد بيوم المعاد، وذلك قوله: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (ص/79). أبليس هذا الذي يعرف الله والرسل والمعاد - وهي الأركان الثلاثة التي نعتبرها شرطا للإسلام - وفي الوقت نفسه يقول فيه القرآن أنه كافر. لأن ملاك الكفر ليس العلم أو عدمه، ولا ملاك الإسلام هو العلم أو عدمه. ملاك الإسلام هو أن يعلم الإنسان ويسلم للحقيقة. وملاك الكفر هو أن يعلم ولكن يعارض الحقيقة التي تعرض عليه، إذن وصف القرآن أعمال الكافرين كتل تراب هبّت عليه ريح عاصف، في موضع، أو كسراب يحسبه الظمآن ماءً، في موضع آخر، أو كظلمات في بحر، ينطبق بأجمعه على الناس الذين عرضت عليهم الحقيقة إلا أنهم في الوقت نفسه أعرضوا عن الإذعان لها.. القرآن يرسم لهذا الموقف صورة مدهشة هي: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأنفال/32) يقولون: اللهم إن كان محمد مبعوثا من عندك حقا فامطر علينا حجارة من السماء لكي لا نرى. وهذا هو معنى الكفر.

أما الطبقات الأخرى، فهم الناس الذين تنطبق عليهم كلمة الكافر بمعنى غير المسلم، هم القاصرون أو وفقا للتعبير القرآني: "مستضعفون" أو: ﴿مُرْجَوْنَ ِلأَمْرِ اللَّهِ﴾ ولعل أكثرية الكفار وغير المسلمين من هذا القبيل. وقد يكون بعض القرويين والأميين وسكان المناطق النائية من هذا الطراز أيضا، أي لم تصلهم الحقيقة وحتى بعض العلماء أحيانا ينطبق عليهم نفس الوصف، على سبيل المثال اذكر هنا قصة الفيلسوف ديكارت الذي بدأ فلسفته من الشك، بمعنى أنه سلك طريقاً فلسفياً ثم أدرك أنه وصل إلى طريق مسدود. فألغي جميع المسالك وشرع ثانية من البداية. ثم أنك شك وقال: أريد أن اشك في كل شيء لأرى من أين أحصل على اليقين؟ لم يشك بالأمور الدينية فحسب، وإنما شك بجميع الأمور، وقال: لعله لا وجود لله ولا للأنبياء، أو لعله لا يوجد عالم، أصلا ولا وجود لحجم ولون وحرارة ومادة الوجود، وأن كل هذا وهم. إلا يرى الإنسان في النوم أحياناً عالماً فسيحاً ولا يشك أثناء النوم أنّ ما يراه حقيقة، ولكنه حين اليقظة يرى أن كل ذلك كان وهما.. ثم قال: أنني مهما شككت فأني لا أستطيع الشك في إنني اشك.

إذن هناك شك وهناك شخص شاك وهو أنا، إذن لو لم يكن أي شيء في العالم نبقى أنا وشكي موجودين. ثم قال: لقد عثرت الآن على نقطة وها أنا كنا أنا وشكي موجودين، هل لا بد من وجود شيء آخر سوانا لنكون أنا وأيّاه موجودين؟ ولاحظ على اثر هذا الإفتراض - الذي يستلزم شرحا طويلا - أنه لا يمكنه إنكار وجود الله.

فالله موجود، والروح موجودة، والجسم موجود. وتدرج شيئا فشيئا نحو سائر الأشياء فقبل منها ما كان يقبله سابقا وأنكر البعض الآخر. ثم أتجه نحو الأديان. وهنا يشعر الإنسان أن ديكارت كان يتّصف بالواقعية والأنصاف. درس الأديان الموجودة في محيطة واحداً تلو الآخر، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الدين المسيحي خير الأديان الموجودة. ولكنه قال: أنه لا يدعي أن الدين المسيحي خير الأديان الموجودة. ولكنه قال: إنه لا يدعي أن الدين المسيحي افضل الأديان في العالم، لأنه لا يعلم سائر الأديان الموجودة في العالم- وقد سبق لي وأن اشرت إلى أن العالم لم يكن قبل ثلاثمائة وخمسين سنة كما هو عليه الآن - ومع هذا فلا زالت الكثير من الحقائق من الحقائق غير متكشفة للعالم، فما بالك في ذلك الوقت؟! قد تكون هناك أديان أخرى خير من الدين المسيحي. والمدهش في الأمر أنه حينما أراد أن يضرب مثلاً لبقعة من الأرض قد يكون فيها دين لا يعرفه قد يكون أفضل من المسيحية، ذكر إيران وقال قد يوجد في إيران دين خير من المسيحية.

مثل هذا الإنسان الذي لا يضمر في قلبه أي تعصب وإنما فتحه للحقيقة، حتى وأن لم يبلغها، فهو من المستضعفين والقاصرين ولا يمكن اعتباره كافراً بمعنى من تكشف له الحقيقة وعاندها وجحدها.

نأتي بعد هذا الموضوع إلى الحديث عن قبول العمل عند الله، أو حسب تعبير القرآن صعود العمل إليه. أن القبول عند الله ليس كالقبول عندنا الذي يعتبر مسألة تعاقدية.. جوهر وواقع أعمال الإنسان منوط بدرجة إخلاصه ونيته وطهارة روحه. أحياناً يصعد عمل الإنسان إلى الله ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر/10) وأحيانا أخرى يهبط إلى الأسفل: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ (المطففين/7).

جاء في رواية أن الصلاة التي نصليها تخرق الحجب السبعة - بعد أن تتجسد على هيئة نور يصعد إلى الأعلى - أحيانا، وأحيانا أخرى يقال للملائكة الذين يصعدون بصلاته ليعرضوها على جهة أعلى: (لفوها في خرقة) وارموها على وجه صاحبها. الكثير من الصلوات تنزل بدل أن تصعد. وقد يعمل الإنسان أحيانا عملا صالحا حقا يقصد به القربة إلى الله ويتجسد على هيئة نور ويصعد إلى الأعلى. ولكن يأتي الشيطان في ما بعد ويوسوس له. أو أنه لم يكن وقت العمل.

يقصد الرياء، ولكنه في وقت آخر يجلس في مجلس فيطرأ على ذهنه خاطر كالقطة التي توضع في كيس وتحاول الإفلات منه بسرعة يجعله يرائي في عمله فيقول مثلا: بلغنا أن شخصا كان في ضيق وبذلنا له العون. وهنا يؤمر بتنزيل عمله.

وإذا تكرر منه الرياء ينزل درجة أخرى وهكذا إلى أن يستقر به المقام في سجين، أي جهنم. ومعنى هذان العمل يصبح في مستوى شراب الخمر.

إذن لأعمال الإنسان نظام واقعي، ولأجل أن يصعد عمل الإنسان لابد وأن يقصد هو الصعود وهو ما نسميه بقصد القربة، أي أن تكون النية خالصة. وإلاّ فمن المستحيل أن لا يقصد الصعود ويصعد عمله تلقائيا. ومعنى قولنا أنّ الإنسان لابد وأن يكون لديه إيمان بالله وباليوم الآخر - وهو قصد القربة. ومن لا يقصد القربة يجب أن لا ينتظر صعود العمل، لأن مثله في ذلك يكون كمثل من يرمي حجراً نحو الأسفل ويقول: لماذا لا يسير هذا الحجر إلى الأعلى؟ والإيمان بالله وباليوم الآخر شرط لقبول العمل وصعوده.

ولكن في الوقت نفسه هناك آفة لهذا العمل تفسد الصالح منه، كالعناد مثلا والكفر، ومن خصائص العناد أنه يحب عمل الإنسان. فقد يعمل رجل مسيحي عملا يقصد به وجه الله، من البديهي أن عمله لا يضيع عند الله. ولكن هذا الشخص نفسه إذا عاند في موضع آخر، أي إذا سمع حديثا للرسول مثلا يقف منه فوراً موقفاً معارضاً، فمن الطبيعي أن يؤدي كفره هذا إلى إحباط عمله ذاك. أو قد يؤدي الرجل السني عملا يقصد به القربة إلى الله فيصعد عمله إلى الله طاهراً ومقبولاً، لكنه إذا عاند وأنكر إمامة أمير المؤمنين من الطبيعي أن تذهب كل أعماله هدرا.

وليس العناد وحده هو الذي يؤدي إلى هذه الحالة، بل ثمة أشياء كثيرة أخرى تؤدي إلى إحباط العمل. وليس الأمر مقصود علة معاندة النبوة والإمامة أو التوحيد، بل هكذا الحال في الموارد الأخرى أيضا، كأن يأتي شخص ويسألني أمرا فأجيبه فيخبرني أنه سمع من شخص آخر جواباً آخر، ولكنني مع يقيني بصحة جواب الآخر لكنني أصر على رأي لأثبت أنني افضل علما من غيري، واضطر إلى انتهاج أسلوب اللف والدوران والتبرير للبرهنة على صحة قولي. هذا أيضا نوع من العناد، في مثل هذه الحالة لا يمكن أن تقبل صلاتي مع كل ما أتصف به من الأنانية العناد بحيث لا أتنازل عن رأي واعترف بخطئي. وهكذا الحال في صفة الحسد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) " أن الحسد ليأكل الحسنات كما تأكل الحطب"(أصول الكافي، باب الإيمان والكفر، باب الحسد، الحديث2) وجاء في رواية أخرى أن رسول الله مدحك عملا وقال: "لكل من فعله شجرة في الجنة. فقال له أحد الحاضرين : يا رسول الله إذن ما اكثر شجرنا في الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله: نعم إذا لم ترسلوا عليه نارا تحرقه"(بمعنى غير المسلم بما فيهم أهل الكتاب وغيرهم).

إذن انظروا أن الكافر إذا لم يكن يؤمن بالله وباليوم الآخر، ولا يؤدّى عملاً في سبيل الله لا يصعد عمله. وإذا أدى مثل هذا العمل ولكن مع الكفر والعناد فإنّ كفره وعناده يحبط عمله مثلما يحبط حسدنا أعمالنا. وكل عمل صالح يؤديه إذا لم يكن في سبيل الله وقربة لله فهو أجوف وسراب وميت لا روح فيه. فما بالك بالكافر إذا كان كفره عناداً وجحوداً، وإذا أضاف له ذنوبا أخرى. وإذا أرتكب الكافر ذنبا يكون أمره: ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ ولكن لماذا مثل القرآن لهذا بالبحر اللجي، أي العميق، لأن هذا تشبيه لموضع لا يصل إليه النور على الإطلاق. وقد ثبت اليوم أكثر مما سبق أن النور يخترق الماء. فإذا كان في حوض ماء صاف يمكن مشاهدة قعر الحوض، ولكن إذا كان الماء كثير العمق فلا يصل إليه النور، وخاصة إذا تجاوز عمقه عدة آلاف من الأمتار، هناك يكون الظلام مطبقا.

كانوا في ما مضى يتصورن عدم وجود أي نوع من الحياة في أعماق المحيطات لأن النور لا يصل إلى ذلك الموضع على الإطلاق إضافة إلى شدة ضغط الماء. ولكن ثبت الآن وجود أحياء مائية هناك وأن الله خلق كائنات تعيش هناك وتنتج بذاتها ما تحتاج إليه من النور. إذن ذكر البحر اللجّي كمثل للموضع الذي لا يبلغه النور على الإطلاق. والقرآن هنا لا يذكر مجرد كلمة البحر - الذي قد يشمل بحاراً يصل النور إلى قعرها - وإنما يقول "بحر لجي" إشارة إلى أنه على درجة من العمق لا ينفذ إليها النور. والقرآن هنا لا يريد الإشارة إلى أن كل واحد من تلك الظلمات قد أحاطت بها، وإنما هي واقعة في قبضة عدة ظلمات بعضها فوق بعض كل واحد منها يمنع وصول النور، إضافة إلى سطح البحر متلاطم الأمواج ناهيك عن أن الجو كان ملبدا بالغيوم التي تمنع وصول نور الشمس وضو القمر.

وهذا التشبيه كله وكأنه يتحدث عن إنسان في قعر البحر وهناك عدّة عوامل تمنع وصول النور إليه. وهذا المثل على العكس تماما من ذلك المثل من ذلك المثل الذي ورد في آية النور، وفسر على عدة وجوه. ومن جملة ذلك أنه جاء في رواية أنه مثل المؤمن أيضا: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور/35).

هنا يفترض أناسا في موضع فيه نور على نور، نور فطرتهم، ونور النبوة، في حين تجد في موضع آخر أناسا يعيشون في ظلمات بعضها فوق بعض، فقدان نور الفطرة بذاته ظلمة، إضافة إلى ظلمة العناد، وظلمة أخرى هي ظلمة الذنوب والمعاصي المتواصلة ﴿مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ لأن كل قطعة ظلام تقابل نورا، نور النبوة، ونور الوحي، وهداية الوحي. وحيثما لا تكون هداية الوحي فمعناه ظلمة. إضافة نور الفطرة وهداية الفطرة. وحيثما ينطفئ نور الفطرة فمعناه وجود الظلمة، وأيضا نور العمل الصالح لأننا أشرنا إلى إن ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر/10) ومن خواص العمل الصالح أنه ينير القلب.

إذن هذان المثلان اللذان ذكرهما القرآن أحدهما يشبه أعمال الكفار بالسراب. والمراد هنا أعمالهم التي بنوا عليها الآمال. ويؤكد أنهم ما لم يكن إيمانهم بالله سليماً ومالم يهتدوا بنور الله لا خير في عملهم. والمثل الثاني لذنوبهم. وذكر المفسرون وجوها عدة للسبب الذي جعل القرآن يذكر مثلين لذلك. ولعل أكثر وأفضل الوجوه هوان المثل الأول لعملهم الصالح والمثل الثاني لعملهم الشيء. وسبق أن أشرنا إلى أن القرآن يذكر مثلا آخر لأعمال الكافرين بأنه كتل تراب هبت عليه ريح عاصف. وهذا المثل لأعمالهم الصالحة التي يؤدونها بقصد القربة إلى الله إلا أن كفرهم أو أسباب أخرى أدت إلى إحباطه. والقرآن يؤكد على هذا المنطق سواء بشأن المسلم أم بشأن الكافر، فيقول: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان/23). من الطبيعي إنّ الله تعالى لا يهدم العمل الصالح إذا كان صالحا إلاّ أن النظام التكويني يقضي بأن الذنوب التي يرتكبها هؤلاء تؤدي إلى إحباط علمهم.

هذه الأمثلة الثلاثة يذكرها الباري تعالى لأعمال الكافرين وكما أشرت فإنّ المقصود من الكفار هنا ليس كلّ من هو غير مسلم، بل الذين يتصدّون للحقيقة ويعارضونها، والآية الأخرى تتحدث أيضا عن مشهد من النور على العكس من الآيتين اللتين تتحدثان عن الحرمان من نور الوحي، والحرمان من نور الفطرة، أو ما يسمى بالظلمة .. وهي هنا لا تتحدّث عن الإنسان الذي يعارض الحقيقة، بل تشير إلى أن ذرات العالم مضيئة كلها بنور الله. وأن كل موجود في العالم يعرف ربه ويسبح له. والقرآن هو أول من ذكر أن الإسماع إذا كانت مضيعة والقلوب إذا كانت واعية وبصيرة يستشعر المرء حينها إن الوجود كله يذكر الله ويسبحه. وهو ما سنأتي على شرحه وبيانه في المجلس القادم بإذن الله. وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين.